لحظة الرؤيا في ليلة شم النسيم/ لطيف شاكر


عيد شم النسيم الذى يحتفل به جميع المصريون منذ عصر قدماء المصريين وحتى الآن هو عيد قومى مصرى لأنه ليس عيداً دينياً بل عيدُ من أعياد الطبيعة . وشم النسيم يسمى فى اللغة الهيروغليفية باسم شمو(shemo ) وهى تسمية تطلق على أحد فصول السنة المصرية القديمة ، وبمرور الزمن تغير هذا الإسم من شمو الى شم خاصة فى العصر القبطى , ثم أضيفت له كلمة النسيم فأصبح شم النسيم ،وتعنى كلمة شمو فى الهيروغليفية فصل الحصاد , حيث قسم المصرى القديم السنة ( رنبت ) إلى ثلاثة فصول هى :

1 ـ أخت : فصل الفيضان يبدأ من شهر يوليو إلى شهر أكتوبر .

2 ـ برث : فصل بذر البذور ويبدأ فى نوفمبر .

3 ـ شمو : فصل الحصاد ويبدأ فى مارس .

وتتكون السنة لدى قدماء المصريين من 12 شهر , والشهر ( آبد ) يتكون من ثلاثة ديكانات , والديكان عشرة أيام .. مضاف إليه خمسة أيام أو شهر صغير(كوجى آن آبد ) عرفت بالأيام المنسية التى ولدت فيها الآلهة ( أوزوريس , إيزيس , نفتيس , حوريس , ست ) ثم أضافوا إليها يوماً سادساً كل أربع سنوات حيث قدموه هدية للمعبود تحوت الذى علمهم الحرف والكلمة والتقويم , حيث أن تقويم المصريين هو التقويم التحوتى الذى لا يزال متبعاً حتى الآن .

وشم النسيم هو الإحتفال بمجئ فصل الحصاد الذى تبعث فيه الحياه من جديد وتتكاثر فيه الكائنات وتزدهر فيه الطبيعة , لذلك إعتبر المصرى القديم ذلك اليوم رأساً للسنة المدنيه , وكما جاء فى كتابه المقدس أنه أول الزمان , أو بدئ خلق العالم ، ويقع يوم شم النسيم فى الخامس والعشرين من شهر مارس ( فارمنهات ) الفرعونى ، برمهات فى التقويم القبطى .

وفي ليلة شم النسيم يخرج الشعب المصري في ليلة عيد الربيع او عيد الحصاد متوجهين صوب الهرم الاكبر يحتفلون بذلك اليوم احتفالا رسميا كبيرا بعد ان اغتسلوا جسديا وروحيا ولبسوا جميعا الملابس البيضاء التي خصصت لهذا اليوم يمسكون بايديهم سعف النخيل و اغصان الزيتون وراحوا امام الواجهة الشمالية للهرم قبل الغروب ليشهدوا لحظة الرؤيا عندغروب الشمس ، حيث يظهر قرص الشمس وهو يميل للغروب مقتربا تدريجيا من قمة الهرم حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق قمة الهرم وتخترق أشعة الشمس قمة الهرم، فتبدو واجهة الهرم أمام أعين المشاهدين وقد انشطرت إلى قسمين نصف منير باشعة الشمس الذاهبة الي الغروب والنصف الاخر غابت عنه الشمس فبات في ظلال وهذه لحظة الرؤيا او لحظة القدر وغالبا تكون الساعة السادسة مساءا ولا تستمر الا للحظات.. فتعلو الاصوات وترتفع الدعوات والابتهالات ويرتلو الصلوات بالامال والطلبات في حضور رع رب الارباب وقد اغتسلوا من ذنوبهم واصبح كل شئ جديدا .. ثم يصعد إله الشمس إلى سفينة لتكمل مسيرتها نحو الغروب.. فيصطبغ الأفق باللون الأحمر، رمزا لدماء الحياة، التي يبثها الإله إلى الأرض..ليبعث الحياة في كائناتها ومخلوقاتها من جديد

هذه هى ليلة الرؤية أو لحظة الرؤية ، وبعد هذه اللحظة يعود الناس من الهرم الى منازلهم ويقومون بالإستعداد لتجهيز أدوات لعبهم وموائدهم للخروج قبل شروق الشمس يرتلون فى هذه الليلة دعواتهم وأمانيهم ، فهو بالنسبة لهم ليلة القدر التى يستجيب فيها الإله لدعاء من يرجو فيحقق دعواتهم .فكان الناس يستيقظون فى الصباح الباكر وقبل شروق الشمس ، لأن من تشرق عليه الشمس قبل أن يستيقظ يصبح خمولاً وكسولاً طوال العام

وقد إختار القدماء هذا اليوم لأنهم تعودوا أن يربطوا أعيادهم بالظواهر الفلكية وعلاقتها بالطبيعة ومظاهر الحياة , فقد كان إحتفالهم بعيد الربيع أو فصل الحصاد الذى حُدد ميعاده بالإنقلاب الربيعى ، وهو اليوم الذى يتساوى فيه الليل بالنهار وقت حلول الشمس فى برج الحمل ، وكانوا يحددون ذلك اليوم والإحتفال بإعلانه فى ليلة الرؤية , أو لحظة الرؤية عند الهرم الأكبر الذى يصفونه بقولهم ( عندما يجلس الإله على عرشه فوق قمة الهرم ) وهى تمام الساعة السادسة مساء ذلك اليوم حيث يجتمع الناس فى إحتفال رسمى أمام الواجهه الشمالية للهرم فيظهر قرص الشمس قبل الغروب وخلال دقائق محدودة وكأنه يجلس فوق قمة الهرم وتظهر معجزة الرؤية عندما يقسم ضؤ الشمس وظلالها واجهة الهرم إلى شطرين ( لغز الهرم الأكبر ؟! ) . وهنا يتبين مدى إرتباط هذا العيد بمعنى الشمس المشرقة من تلك النقطة المنفردة على الأفق وهى نقطة الإعتدال .

فعندما يتجلى أحد المعبودات مباشرة أمام عيون البشر فإنه يتخذ الشكل الذى يناسبه دون أن يعبر هذا الشكل عن هيئته الحقيقية ويمتنع المشاهد فى إعتقادهم عن النظر إليه لأنه يأخذ بصره ويشتعل ويلقى حتفه , والهرم أيضاً كهيكل للشمس لا نرى حقيقته كما نراها ماديه حجريه ، فإن له مضموناً شفافاً روحياً فى عالم الخلود يستطيع من خلال شفافيته أن يتعامل مع شعاع الشمس المشرقة كمرادف للعقيدة الشمسية القديمة , فهو فى الأصل كريستالى المفهوم إشعاعى المضمون , فإذا أشرقت الشمس من نقطة الإعتدال فى ذلك اليوم تكون عموديه على خط قاعدة الهرم وتظهر وتحل داخله كإنعكاس لقرصها المتوهج الذى يحرم على عابديها النظر إليه فى عليائها ليصير حلولاً أرضياً لشكلها السماوى وهبوطاً لمفهومها ومدلولها إلى مستوى عابديها , وإن كانت مستترة داخل هيكلها الحجرى المادى , وظهورها داخل الهرم يكون على صورة تجسيد مادى يأخذ شكلاً بيضاوياً كإنعكاس منكسر للقرص المستدير القابع داخل هرمها الكريستالى .

إنه ظهور مادى خارج الهرم يخضع لقوانين الإنكسار الضؤية الطبيعية , ولا يراه فى عقيدتهم إلا من يسمو بروحه وتشف حواسه فيلتقط أهداب شكلها الأرضى البيضاوى الذى تجسدت به , ولا ريب أن هذا الإدعاء إنما كان لكبار الكهنة والمتبحرين يتلمسونه لمن يلونهم ويتبعونهم من عوام الناس وجموع المؤمنين .

وهنا يكون هذا عيدها الذى تجسدت فيه وولدت من داخل رحم المبنى الهرمى وهبطت لتعلن عن إنبثاق الأرض بعد طول ترقب وإنتظار .

فقد ظل شم النسيم عيداً للطبيعة والحصاد قائماً من عهد المصريين القدماء وحتى اليوم , ولم تقضى عليه الأديان التى إعتنقها المصريون , من مسيحية وإسلام , بل أصبح حتى اليوم عيداً قومياً يحتفل به المصريون على إختلاف أديانهم فيخرجون كما إعتاد أجدادهم الى الحقول والحدائق يلهون ويمرحون ويأكلون البيض والفسيخ والبصل الأخضر والخس والملانة , ويركبون القوارب على صفحة النيل , إنه العيد الذى أوحت به طبيعة بلدنا الزراعية .. إنه عيد الزراعة .. عيد بعث الحياة .. عيد أول الزمان الذى إنتقل عبر العصور الطويلة ليحتفل به العالم كله فى حضارته القديمة وعصوره الحديثة , ليصبح عيداً مصرياً عالمياً .

المقال جزء من برنامج مصر التي في خاطري حواري علي قناة الرجاء ستبث في يوم الاثنين شم النسيم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق