"لا ترتعبن"، أي لا تخفن، بهذه العبارة المطمئنة خاطب الملاك النسوة، مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومة، اللواتي أتين إلى القبر في صباح يوم الأحد ليحنطن جسد يسوع. لقد ظنن أن الموت انتصر عليه وطواه كسائر الناس وكن في حيرة يسألن: من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر"؟ ولما اقتربن من القبر، رأين أن الحجر قد دحرج وكان كبيراً جداً وعندما دخلوا القبر رأوه فارغاً إلا من الأكفان.
في إنجيل القديس لوقا وصف كامل لما حدث مع هؤلاء النسوة التقيات والمؤمنات: "ولما مضى السبت، اشترت مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومة، بعض الطيب ليذهبن ويسكبنه على جسد يسوع. وفي صباح يوم الأحد، عند طلوع الشمس، جئن إلى القبر. وكان يقول بعضهن لبعض: من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟ فلما تطلعن وجدن الحجر مدحرجا، وكان كبيرا جدا. فدخلن القبر، فرأين شابا جالسا عن اليمين، عليه ثوب أبـيض، فارتعبن. فقال لهن: لا ترتعبن! أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب. ما هو هنا، بل قام. وهذا هو المكان الذي وضعوه فيه. فاذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس: "هو يسبقكم إلى الجليل، وهناك ترونه كما قال لكم". فخرجن من القبر هاربات من شدة الحيرة والفزع.(مرقص 16/1-8).
المسيح قام، هذا ما قاله الملاك للنسوة بعد أن دحرج لهن الحجر عن باب القبر: "أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب، ما هو هنا، بل قام". "لا تخفن، إن من ظننتن أنه مات، هو حي"، وهذه هي الحقيقة الإيمانية الكبرى التي يقوم عليها الإيمان المسيحي. يسوع الناصري الذي مات على الصليب قام من بين الأموات وانتصر على الموت وقهر قوى الظلام وتغلب على الألم وطرد الكآبة. المسيح القائم من الموت يرافق المؤمنين طوال حياتهم ولا يتركهم أبداً وقد أعطانا روح الحق والحياة. المسيح هو الطريق والحق والحياة وباق في الكنيسة وأسرارها وحاضر معنا في القربان المقدس.
إن معجزة قيامة المسيح من القبر في اليوم الثالث بعد صلبه ودفنه هي حجر الزاوية والأساس الأهم في إيماننا المسيحي وقد شدد القديس بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (15/12- 26) على هذا الأمر ورد بقوة على كل الذين يقولون إن الأموات لا يقومون: "وما دمنا نبشر بأن المسيح قام من بين الأموات، فكيف يقول بعضكم إن الأموات لا يقومون؟ إن كان الأموات لا يقومون، فالمسيح لم يقم أيضاً. وإن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم باطل، بل نكون شهود الزور على الله، لأننا شهدنا على الله أنه أقام المسيح وهو لم يقمه، إن كان الأموات لا يقومون. فإذا كانوا لا يقومون، فالمسيح لم يقم أيضاً. وإذا كان المسيح لم يقم، فإيمانكم باطل وأنتم بعد في خطاياكم. وكذلك الذين ماتوا في المسيح قد هلكوا. وإذا كان رجاؤنا في المسيح لا يتعدى هذه الحياة، فنحن أشقى الناس جميعا. لكن الحقيقة هي أن المسيح قام من بين الأموات هو بكر من قام من رقاد الموت. فالموت كان على يد إنسان، وعلى يد إنسان تكون قيامة الأموات. وكما يموت جميع الناس في آدم، فكذلك هم في المسيح سيحيون، ولكن كل واحد حسب رتبته. فالمسيح أولا لأنه البكر، ثم الذين هم للمسيح عند مجيئه. ويكون المنتهى حين يسلم المسيح الملك إلى الله الآب بعد أن يبيد كل رئاسة وكل سلطة وقوة. فلا بد له أن يملك حتى يضع جميع أعدائه تحت قدميه. والموت آخر عدو يبيده."
لقد غلب المسيح الموت وكسر شوكته ونال لنا نعمة الغفران الأبدي، وبموته وقيامته لم يعد موت الجسد بالنسبة لنا نحن المُخلصين نهاية كل شيء، بل انتقال من حياة ترابية فانية وآنية إلى ملكوت السموات حيث الحياة الأبدية. مع قيامة المسيح أُلغي الموت بمفهومه القديم وأصبحت الخطيئة هي الموت لأن الخاطئ يعاقب في جهنم حيث البكاء وصريف الأسنان ونار لا تنطفئ ودود لا يهدأ وعذاب لا نهاية له. قيامة المسيح من القبر في اليوم الثالث كما بشرنا هي البرهان القاطع والحجة الدامغة لإلوهية رسالته السماوية وبقيامته تصالحنا مع الله وأصبحنا أبناءه وورثته. وكانت النبوءة واضحة. لقد أعطى المسيح قيامته الجسدية وعودته إلى الحياة بعد موته بثلاثة أيام برهاناً على مسيحانيته وهو برهان لا يُدحض. وما من احد في إمكانه أن يشك في أن قيامة ميت هي أعجوبة أي أنها عمل لا يمكن أن يقوم به إلا الله وإذا كان يسوع قد قام فان الله قد اثبت انه ابنه.
القيامة، أي عيد الفصح المجيد، أو ما نسميه في وطننا الغالي لبنان "العيد الكبير"، هو عيد المحبة والتواضع والغفران والتآخي والمسامحة والتغاضي والصفح والتوبة، كما أنه يوم عمل الكفارات تكفيراً عن ذنوبنا والخطايا. هذا ولا يحق لنا دينياُ أن نُعيد أو نشارك في الصلاة في هذا اليوم المقدس إلا إذا انتصر الحب فينا على الكراهية، والتسامح على الحقد، والتواضع على الاستكبار، والقناعة على الجشع، والشفافية على المكر، والبساطة على العُقد، والخير على الشر، كما أن إيماننا لا يكون كاملاً إلا إذا اسكنا بفرح مكونات التضحية والتجرد والصدق والبراءة في أعماقنا وتصالحنا مع أنفسنا ومع الآخرين وقومنا وصححنا كل اعوجاج وأذى وانحراف مارسناه بحق الغير.
المسيح قدم نفسه فداءً عنا ومن أجل أن يعلمنا قولاً وفعلاً معاني المحبة والعطاء والشهادة، ولينمي فينا روح التسامح والغفران والتواضع، وبالتالي من لا يقدر منا أن يغفر ويسامح ويساعد الغير فهو يبعد نفسه عن المسيح ويتنكر لروحية التعليم المسيحي الحق. في الآيات التالية توضيح لما هو مطلوب كنا:
من لا يقدر أن يسامح ويغفر لا يقدر أن يدخل ملكوت الله وقد حذرنا الإنجيل من عواقب وشرور الحقد والكراهية مرات كثيرة.
"وإذا كنت تقدم قربانك إلى المذبح وتذكرت هناك أن لأخيك شيئا عليك، فاترك قربانك عند المذبح هناك، واذهب أولا وصالـح أخاك، ثم تعال وقدم قربانك". (متى 05/23 و24)
"وإذا غضبتم لا تخطئوا ولا تغرب الشمس على غضبكم". (افسس 4/26)
"وإذا قمتم للصلاة وكان لكم شيء على أحد فاغفروا له، حتى يغفر لكم أبوكم الذي في السماوات زلاتكم. وإن كنتم لا تغفرون للآخرين، لا يغفر لكم أبوكم الذي في السماوات زلاتكم".(مرقص 11/25 و26)
إن الإيمان الحق والراسخ بيسوع المسيح الإله المتجسد المبني على قاعدة الصلب والموت والقيامة والرجاء هو أثمن ما حافظ عليه آباؤنا وأجدادنا الموارنة في جبال لبنان منذ ما يزيد عن 1600 سنة، وتركوه إرثا لنا ولأولادنا وأحفادنا. التاريخ يعلمنا كم قاسوا من مشقات واضطهادات وويلات حروب وغزوات وعذاب وكم قدموا من تضحيات وقرابين وشهداء ليحافظوا على هذا الإيمان الوديعة التي أشار إليها بولس الرسول بقوله لتلميذه تيموتاوس (06/20 و21): "يا تيموثاوس، احفظ الوديعة وتجنب الكلام الفارغ والجدل الباطل الذي يحسبه الناس معرفة، وحين اتخذه بعضهم زاغوا عن الإيمان. لتكن النعمة معكم".
بالإيمان والصلاة والرجاء والمحبة ومخافة الله تسلح آباؤنا وأجدادنا الموارنة وتميزوا بالقوة والشجاعة والصبر والتواضع والتفاني في الشهادة للحق.
صمدوا وانتصروا على كل قوى الشر من غزاة وأباطرة ومارقين وفاتحين، فبقوا هم وبقي لبنان واندحر كل من توهم أنه قادر على استعبادهم وعلى قتل إيمانهم، ونحن الموارنة اليوم لم يعد وجودنا مقتصراً فقط على لبنان وجباله، وإنما انتشرنا في كل دول العالم حاملين رسالة المحبة والسلام والتعايش، فلنكن أمينين على الوديعة كما كانوا هم.
المسيح قام حقاً قام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق