خمسون عاماً مضت على وأد أوّل تجربةٍ وحدوية عربية في التاريخ العربي المعاصر. ففي 28 سبتمبر من العام 1961 جرى انقلابٌ عسكري في سوريا، أطاح بدولة "الجمهورية العربية المتحدة" بين مصر وسوريا، تلك الدولة الفتية التي ولدت في 22 فبراير من العام 1958، بعد استفتاء شعبي حصل في البلدين وأقرَّ صيغة إعلان الدولة الاتحادية العربية الجديدة.
دولة الوحدة عام 1958 لم تكن حصيلة ضمٍّ قسري أو غزوٍ عسكري، أو طغيانٍ سياسي جغرافي من دولةٍ عربية كبرى على دولةٍ عربية صغرى مجاورة. كذلك لم تكن دولة الوحدة نتيجة انقلابٍ عسكري في سوريا، ولا بسبب وجود حزبٍ سياسي “ناصري” فيها قام بالضغط لتحقيق الوحدة مع مصر عبد الناصر.
أيضاً، لم تكن وحدة مصر وسوريا بناءً على رغبةٍ أو طلبٍ من القاهرة، بل كانت حالةً معاكسة، حيث كانت القيادة السورية برئاسة شكري القوتلي (والتي وصلت للحكم في سوريا نتيجة انتخابات شعبية في نظام ديمقراطي برلماني)، هي التي تلحّ في طلب الوحدة مع مصر بناءً على ضغوطٍ شعبية سورية.
إذن، أين كان مكمن المشكلة في هذه التجربة الوحدوية العربية الفريدة، ولِمَ تعثّرت وحدث الانفصال بعد أقلّ من ثلاث سنوات؟
حتماً لم تكن المشكلة في المنطلقات والغايات، بل كانت في الأساليب التي اتّبِعت خلال تجربة الوحدة. فكل عمل إنساني ناجح (على مستوى الأفراد والجماعات) يشترط تكاملاً سليماً بين "المنطلق والغاية والأسلوب"، وهذا ما لم يحدث في تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، إذ أنّ المنطلق كان سليماً بحصول الوحدة بإجماعٍ شعبي في البلدين وبضغطٍ شديد من الجانب السوري. كذلك الغاية الوحدوية كانت سليمةً في كلّ أبعادها، لكن العطب كان في الأساليب التي استخدمت من أجل تحقيق الوحدة وفي سياق تطبيقها. فالوحدة الاندماجية الفورية بين بلدين، لا تجمعهما أصلاً حدودٌ مشتركة، وبينهما تبايناتٌ في البنى الاجتماعية والاقتصادية والتجارب السياسية، كانت خطأً ساعد بعد تطبيق الوحدة على نموّ المشاعر السلبية. أيضاً، وهذا هو الأهم، فإنّ إدارة الإقليم الشمالي (سوريا) كانت خاضعةً لسلطة حاكم مصري (المشير عبد الحكيم عامر)، أولوياته وأساليبه الأمنية والسياسية لم تكن عناصر مشجّعة على الاندماج المطلوب آنذاك بين الشعبين.
فلو لم يكن هناك مناخٌ سلبي لدى الشعب السوري، حصيلة ممارسات “الحاكم المصري” خلال تجربة الوحدة، لما نجح الانفصاليون السوريون في انقلابهم، ولخرج الشعب السوري بأكمله إلى الشوارع لإحباط مؤامرة الانفصال.
لقد كان ذلك درساً قاسياً لجمال عبد الناصر، حيث امتنع عن استخدام القوة العسكرية للحفاظ على تجربة الوحدة، رغم أنّ ذلك كان متاحاً من الناحية القانونية وممكناً عسكرياً. لكن ناصر اختار أن تبقى سوريا واحدةً على أن تبقى سوريا في الجمهورية العربية المتحدة. فقد أدرك أنّ تدخّله ضدّ الانفصاليين سيؤدّي إلى حربٍ أهلية سورية إضافةً إلى صراعٍ دمويٍّ سوري/مصري في كلّ الأحوال. وقد قال آنذاك: "ليس المهمّ أن تبقى الجمهورية المتحدة، بل المهمّ أن تبقى سوريا".
هذا القيادي العربي التاريخي اختار الهزيمة السياسية لمشروعٍ وحدويٍّ مهمٍّ للعرب أجمعين، ولمصر وله شخصياً، من أجل الحفاظ على وحدة بلدٍ عربيٍّ آخر، ولصيانة تجربة الوحدة من حربٍ أهلية، ولمنع إراقة الدم العربي، حتّى من أجل غايةٍ عربيةٍّ نبيلة.
طبعاً، لم يحدث الانفصال حصراً نتيجة عوامل داخلية وسلبيات أساليب التجربة، بل كان أساساً بتحريضٍ خارجي وبدعمٍ كبير من القوى الدولية الكبرى، التي كانت تتصارع فيما بينها بين كتلةٍ شرقية وأخرى غربية، لكنها اتفقت على محاربة "الجمهورية العربية المتحدة"، ولأسباب مختلفة فيما بينها.
والملفت للانتباه أنّ قمّتي القطبين الشيوعي والرأسمالي آنذاك (موسكو وواشنطن) وقفتا ضدّ تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، بينما قامت بلادهما أصلاً على "الاتحاد" (الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية)، وتاريخهما قام على المواجهات العسكرية مع حركاتٍ انفصالية داخلية كانت لها جذورٌ شعبية واسعة، ولم تكن مجرّد حركات سياسية أو انقلاب عسكري، كما حصل في انفصال الإقليم الشمالي السوري عن الجمهورية المتحدة.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي تلتقي فيها الدول الكبرى على منع وحدة مصر وسوريا، فقد جرى التآمر أيضاً على دولة محمد علي باشا، التي امتدّت في القرن التاسع عشر من مصر إلى سوريا، من قِبَل قوًى دولية متصارعةٍ فيما بينها غير أنّها متّفقة على أن تبقى مصر حصراً في حدودها.
أيضاً، كانت "الجمهورية العربية المتحدة" أكبر الأخطار المحدِقة ب"الدولة الإسرائيلية" الحديثة النشأة، فقد وصف بن غوريون دولة الوحدة بأنّها أشبه بالكمّاشة التي ستقتلع إسرائيل من الوجود.
جمال عبد الناصر استفاد كثيراً من تجربة الوحدة، لذلك رفض بعد سنواتٍ قليلة من محنة الانفصال أن يكرّر التجربة دون تمهيدٍ سليمٍ لها. فلم تحمله العاطفة القومية، ولا المصلحة السياسية الشخصية، على القبول بإعلان الوحدة بين مصر وسوريا والعراق عام 1963، بعد أن استولى حزب البعث على السلطة في دمشق، وخاض ناصر محادثاتٍ فكرية وسياسية عميقة مع قادة سوريا والعراق، أكّد خلالها على أهمّية توفّر العناصر اللازمة للوحدة قبل الشروع بتحقيقها. كما كانت لناصر تحفظّات كثيرة على حزبيْ البعث في العراق وسوريا.
وهذا ما فعله ناصر أيضاً مع حكومتيْ ليبيا والسودان عام 1969 حيث رفض الوحدة الاندماجية مع هذين البلدين، رغم العوامل الكثيرة التي كانت تجمع بين مصر وليبيا والسودان، واكتفى ناصر بإعلان “ميثاق طرابلس” الذي نصّ على مراحل عديدة قبل الوصول إلى حال الاتّحاد الشامل.
وشاء القدر أن ينتقل ناصر إلى رحمة الله تعالى في 28 سبتمبر (أيلول) من العام 1970، وفي الذكرى التاسعة للانفصال الذي حدث يوم 28 سبتمبر عام 1961، وبعد جهدٍ كبير لوقف الصراع الأردني الفلسطيني، ومن أجل الحفاظ على التضامن العربي، الذي أعطاه ناصر عقب حرب العام 1967 أولويةً قصوى.
***
ما أهمّية التوقّف الآن عند ذكرى الانفصال بين مصر وسوريا قبل نصف قرنٍ من الزمن؟
الإجابة يفصح عنها واقع الحال العربي الراهن، الذي ابتعد كثيراً عن أماني الوحدة بين أوطان عربية مختلفة، والذي يقترب كثيراً من تفكّك الأوطان القائمة نفسها. ولعلّ ما حدث في السودان هذا العام، من قرارٍ دولي قضى بفصل جنوبه عن شماله، لخير مثال على المحاولات الإقليمية والدولية من أجل تغيير خرائط المنطقة وإعادة السيطرة الكاملة على أجزائها.
كانت حقبة الخمسينات من القرن الماضي حقبة تحرّرٍ وطني وقومي ودعوة لتوحّد أقطار وشعوب الأمّة الواحدة. الحقبة الآن، رغم ما فيها من آمال كبيرة حصيلة الحراك الشعبي العربي الواسع، هي حقبة محاولات الهيمنة الأجنبية وتحقيق التشرذم الداخلي لصالح الطامعين بهذه الأمّة.
وإذا كانت جريمة الانفصال التي حدثت عام 1961، والتي كانت جريمةً سياسية بحقّ الأمّة ومستقبلها، وكانت أيضاً عاملاً مساعداً على حدوث هزيمة حرب عام 1967، قد حصلت نتيجة خطايا بعض القيادات والأساليب فقط، رغم حسن المنطلقات والغايات، فكيف سيكون الحال الآن ومستقبلاً، إذا كانت السلبيات قائمةً في القيادات وفي الأساليب والغايات والمنطلقات؟ وكيف إذا لم يقتصر الأمر على المسؤوليات الداخلية فقط، بل طال قوًى خارجية فاعلة في المنطقة، تنسج الآن خيوط أثواب هُويات جديدة للأوطان والحكومات والشعوب معاً؟!.
لقد توفّي جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر من عام 1970 عن عمرٍ لم يتجاوز ال52 عاماً، بعد 16 سنة من رئاسة مصر وقيادة المنطقة بأسرها، ولكنّه كان في سنوات حياته الأخيرة في قمّة بلوغه الفكري والسياسي، خاصّةً في الأعوام التي تلت حرب العام 1967، حيث شهدت الأمَّة كلّها أهمّية التضامن العربي الفعّال ونتائجه المشرّفة في حرب أكتوبر 1973. فالتجربة الناصرية كانت عملياً مجموعةً من المراحل المختلفة، ومن الخلاصات والعِبر حصيلة التجارب والأخطاء.
ما يحدث الآن في البلاد العربية هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة قراءة التجربة الناصرية، التي لم تُتَح لها الفرصة الزمنية الكافية لإثبات جدارة مشروعها الوطني والعربي. فالعروبة، كهويّة انتماءٍ مشترَك، كانت قبل عبد الناصر وستبقى بعده، رغم كلّ ما يجري الآن من مظاهر التخلّي عنها. العروبة، بمضامينها الديمقراطية والحضارية السليمة، قادرةٌ على النهوض من جديد، إذا ما توفّرت لها القيادات السليمة، وإذا ما ارتبطت الدعوة للعروبة بالبناء الداخلي السليم، وبأساليب العمل السليمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق