نقد العقل اليساري العربي/ زهير الخويلدي

استهلال:
ان الثورة العربية التي اندلعت من الأطلس الصغير في تونس وانتقلت شرارتها الى الدول المجاورة قد شهدت مشاركة واسعة من قبل القوى اليسارية والهيئات العمالية والمنظمات النقابية بحيث لم يتخلف عن ركبها سوى لفيف صغير من الأحزاب الانتهازية والفئات النخبوية التي ظلت تقتات لمدة طويلة موائد قصور الأنظمة التسلطية البائدة وما تجوده عليها من فتات وغنائم ثمن تحالفها معها وتبررها لسياستها الشمولية وسكوتها عن الفساد والمظالم.
صحيح أن الماركسيين والاشتراكيين والنقابيين والعماليين قد شاركوا في الحدث الجليل في شهر يناير من عام 2011 ولكن العديد من المحللين لم يعتبروا ذلك ثورة بالمعنى العلمي للكلمة بل مجرد انتفاضة أو حركة احتجاجية وبالتالي لم تكن الثورة الاجتماعية تجربة ماركسية على غرار ما حصل في روسيا خلال ثورة أكتوبر 1917 ولم يقدها الحزب الثوري والطليعة العمالية الثورية والنقابة الثورية وعلى الأقصى كان بعض المنظرين يعتبرونها ثورة ديمقراطية ذات أفق اشتراكي. ومن المعلوم أنها كانت بالفعل ثورة سياسية أطاحت برأس النظام وتواصلت بعد ذلك باحثة عن القطع مع الديكتاتورية وطارحة على نفسها فكرة الوضع الأصلي والحل التأسيسي وانطلقت نحو التقصي عن الجرائم وأشكال الفساد ومحاسبة المتورطين قبل الحديث عن الصفح والمصالحة واعادة البناء وقبل المرور الى التجربة الانتخابية في مسار ديمقراطي تعددي يحتكم الى ما اصطلح على تسميته بالعدالة الانتقالية.
على هذا المنوال يكون الفعل الثوري المشترك الذي قام به الشعب في سبيل التخلص من النظام الشمولي وكنس هياكله الفاسدة وما اقترن مع ذلك من ارادة جماعية ومشتركة في الاطاحة به هو العامل الحاسم في الربيع الثوري العربي والمقصد الأسمى الذي يجب لليسار أن يفخر بأنه كان أحد أذرعته القوية فيه ومشارك مع عدة أطراف أخرى في انبثاقه.
لكن ماهي أسباب ضعف اليسار قبل الثورة وبعد ظهور نتائج الانتخابات بالمقارنة مع القوى السياسية الأخرى؟ وأليس من المنطقي أن يكون اليسار هو أكبر المستفيدين من الثورة ويخرج رابحا في أية عملية انتخابية وتزداد شعبيته؟ ما العمل للخروج من هذا التشرذم والضعف؟ اليس المطلوب هو تكوين منبر يساري عربي موحد؟ ماذا لو كان الخلل في الدور الغائب للشبيبة والمرأة في النشاط الحزبي والمستوى القيادي والتأطيري؟ ماهي العلاقة القائمة والممكنة بين اليسار والاسلام السياسي؟ هل الصراع بينهما هو قدر محتوم أم يمكن الوصول الى تسويات وتوافقات من أجل المصلحة الوطنية والدفاع عن قيم الثورة؟
ان ماهو في ميزان الفكر ليس انجاز ورقات في النقد الذاتي ولا مجرد رصد وتشخيص لأزمة اليسار العربي ونما الشروع في خلخلة البنية المتكونة ونقد العقل اليساري العربي برمته.
1- أسباب ضعف اليسار:
ان حالة الضعف الذي كانت عليه القوى الديمقراطية واليسارية قبل الثورة مرده السياق السياسي العالمي وتراجع التوجهات الاشتراكية وضعف تأثيرها في الشباب وتبرجز الطبقة العاملة وانسياقها وراء نموذج الحياة الرأسمالي وبحثها عن الوفرة والرفاه وتأمين مصدر الثروة. زد على ذلك التناحر ومرض الزعامة والتشتت والاختلاف في القراءة للنصوص الايديولوجية والتباعد بين النظرية والتطبيق وضعف التأثير في الواقع الاجتماعي وخلع الناس عن السياسة من طرف الأنظمة الشمولية والدوائر الأمنية وأنظمة القمع والمراقبة والمعاقبة والتخويف من الأحزاب السياسية الجادة والأفكار الايديولوجية النقدية وافراغ برامج التعليم والمواد الثقافية والمنابر الاعلامية من البعد النضالي والرسالة الوجودية والتشجيع على الذوق الهابط وثقافة التهريج والفن المبذل والتعليم البنكي والمعرفة التجارية والسياسة الانتفاعية والقيم الاكتسابية والوصولية. كما تأثرت هذه القوى بصعود الموجة النيوليبرالية وبروز الدول الرأسمالية كقوة ضاربة وسيطرة قيم رأسمال الزائفة وسطوة المد التحرري وسلعنة العلاقات بين القوى الاجتماعية والدول وتصدير المركز للحروب والفتن الى الأطراف.
لقد قسم الاستبداد القوى اليسارية والتقديمية الى شطرين: الأول تابع ومدجن ويؤدي مهمة الولاء والطاعة بالنسبة للنظام الحاكم ويعمل بشكل خفي على تشتيت الحركة الديمقراطية واثارة الفتن والحيلولة دون قيام توحد أو انصهار وبالتالي الحرص على اضعاف المسيرة وشل الحراك الاجتماعي. الشطر الثاني من هذه القوى قد ظل متمسكا بنضاليته واستقلاليته عن نظام الحكم ولم يصب بعدوى العقلية الرأسمالية المتعفنة والمراكمة للثورة عن طريق الارتشاء والسمسرة والبطانة ولكنه خير العمل السري والباطنية والاحتماء بالنقابات واللجوء السياسي الى رابطة حقوق الانسان واتحاد الطلبة والمنظمات الشبابية وقد انعكس ذلك بالسلب على أدائه وظهوره في الساحة السياسية.
ان فشل اليسار في انتخابات المجلس التأسيسي في تونس والانتخابات التشريعية في مصر ناتج عن ضعف الآلة الانتخابية وتراجع دور النقابات وتبعيتها للدولة وبعد الأحزاب اليسارية عن الطبقات الشعبية وعدم قدرتها عن مخاطبة الناس بلغتهم والاكتفاء بالنشاط داخل الصالونات الضيقة وتشكل حالة من التخويف والاستعداء ضده واكتساح التيارات الدينية المشهد السياسي وعدم قدرته على المنافسة بالمعايير الانتخابية وعدم توازن القوى بينهما.
ويشمل هذا التشخيص على نفس المنوال اليسار العربي الذي ظل مشتتا ونخبويا ويعاني من عدة تعثرات وانقسامات وقد استفاد من الثورة بدرجة تفوت مساهمته فيها وتأثيره في مجرى الأحداث.

2- اليسار والمرأة والشباب:
من المعلوم أن قيادات الأحزاب اليسارية والديمقراطية هي في معظمها متقدمة في السن نسبيا ومعظم الاجتماعات تتم في حضور الكهول والشيوخ وعدد قليل من النساء والشباب. في حين أن المطلوب هو القيام بالتشبيب واعطاء الفرصة للكفاءات التي مازالت في مقتبل العمر لأنها قادرة على العطاء وتنضج بالحيوية والاضافة. كما يجب فسح المجال للعنصر النسائي والتعامل معه بعقلية مدنية تقدمية بالفعل والتخلص من الذهنية الذكورية. ان نسبة مشاركة الشباب والمرأة في الادارة والتأطير والدعاية ضعيفة وهذا يمكن اعتباره نقطة ضعف وموطن الخلل في العمل التعبوي والهيكلي لهذه القوى ويجب أن تتلافاه في أقرب الأوقات وأن تحرص على تبليغ صوت الشارع والمنبوذين مع انفتاحها على المستقلين والمثقفين والكفاءات الحرة التي تكره التحزب المريض والانتماء الايديولوجي المتخشب وتجد آليات مرنة تعمل على استقطابهم مع ترك لهم فرص كاملة لممارسة حرية التعبير والمبادرة الابداعية والمشاركة الخلاقة في تدبير الشأن العام والبراكسيس الجماعي.
تتعرض المرأة للاستغلال والحيف أينما حلت في المجتمع سواء في الأسرة أو في التعليم أو في العمل والاستثمار الاقتصادي أو في الاطار السياسي والنقابي والجمعياتي وتحاسب كثيرا لكونها امرأة ومازالت العقلية الذكورية هي المسيطرة ولا ينظر الي المرأة بوصفها انسان الا نادرا. ان المهمة المنوطة باليسار وبالقوى التقدمية عموما هي جسيمة والعمل على التصدي لموجة العنف الممنهج الذي تتعرض له المرأة وتحريرها من الاستغلال واكرامها بارجاع انسانيتها لها ورفع حالة الغبن الاجتماعي عنها وتمكينها من جميع حقوقها المدنية والطبيعية واتاحة الفرص الكافية لكي تنمي مهاراتها وتساهم من موقعها في رحلة التنوير والتمدن.
كما يجب على المرأة العربية أن لا تظل مكتوفة الأيدي تنتظر مبادرات من الرجل ومساعدة منه على الترشد وذلك بسن التشريعات القانونية المنادية بحقوق النوع الاجتماعي والمساواة والمانعة لتعدد الزوجات وانما ينبغي أن تتحرك هي بنفسها وتدافع على وجودها وتطالب بحاجياتها الانسانية وحقوقها الاجتماعية والمدنية وألا تنخدع بالأفكار المذهبية المغالطة.
ان خروج العرب من الجهل والتخلف والتشتت والماضوية هو رهين تمكين المرأة عامة والحركات النسوية خاصة من لعب دورا رئيسيا في الصيرورة الثورية كما حصل في تونس ومصر لما نزلن الى الشارع جنبا الى جنب مع الذكور واحتللن الصفوف الأمامية في تنظيم الشأن العام وأثتن قدرتهن على التأثير في الراي العام وساهمن في تغيير الذهنيات واحداث الثورة الثقافية المنشودة.
3- اليسار والاسلام السياسي:
ان العلاقة القائمة والممكنة بين اليسار والقوى العلمانية مع جماعات الاسلام السياسي لا ينبغي أن تكون أحداية الجانب ويغلب عليها التناقض الحاد والصراع السلبي بل يجب أن تكون واضحة وشفافة وبعيدة عن الازدواجية والضبابية وتصيد الفرص والتشنج ويلزم أن تكون علاقة نقدية بناءة ومفيدة وتصل الى حد تقاسم المهام والوظيفية داخل الوطن الواحد وتنتهي ببناء تفاهمات وتسويات على الحد الأدنى الديمقراطي المطلوب وذلك بأن يلعب كل واحد الدور المناط به دون تصادم أو افتعال الفتن والحروب الأهلية التي تضعف المجتمع وتقوي أعدائه وتعيد انتجح نمط شمولي من الحكم. انه بإمكان اليسار أن يمثل قوة مضادة للاسلام السياسي وأن يدفعه الى التطور وعلمنة مقولاته وأرضنة برامجه وتبني خيارات مدنية وانسانية وأن ينقده ويخرجه من ماورائيته ومثاليته ويكف عن منطق الدعوى والتبشير ويوقظه من سباته الماضوي والحنين الى الأصول التي لا أصل لها.
كما يمكن للسيار نفسه أن يتحول الى لاهوت ثوري ولاهوت تحرير ولاهوت تنمية كما هو الشأن في نظريات الاسلام الشعبي والاسلام التقدمي واليسار الاسلامي التي تدعو الى بناء جبهة وطنية وكتلة تاريخية تضم مختلف الفاعليين المناهضين للعولمة مهما كانت ديانتهم ولغتهم وطبقتهم.
اللافت للنظر أن الاسلام السياسي في وجهه اليميني لا يستطيع أن يصادر الحريات العامة وحقوق الانسان ومكاسب المرأة ويهدد المكاسب الحداثية اذا ما تواجد جنبا الى جنب مع قوى اسلامية تقدمية قوية وفاعلة واذا ما كانت الدولة المشكلة بعد الثورة حكما رشيدا ونظاما ديمقراطيا عصريا و اذا ما تمكن اليسار من أن يستعيد أنفاسه ويرد على دعاويه بطريقة علمية مقنعة ومن خلال سجال سياسي راق و بعد أن يتصالح هو الأخر مع الرموز الثقافية ويحترم المقدسات ويقرأ الظاهرة الدينية قراءة عقلانية تنويرية ويقنع الناس بأسلوب حجاجي بمشروعية تأويله.
يجدر باليسار أن يقترب من الثقافة الوطنية للشعب وأن يؤمن بالهوية القصصية التي تحدث عنها القرآن في بعدها الديناميكي الكوكبي وأن يدافع عن سياسة الحياة وما تتضمنه من الزامية التمتع بالغذاء والسكن والصحة والنقل والتعليم والتثقيف والدين المدني والديمقراطية الاندماجية التي تشجع على الاعتراف المتبادل بين الجهات والفئات وبين الريف والمدينة.
4- يسار مابعد الثورة:
ان أهم الدروس التي قدمتها ثورة الكرامة والحرية للقوى اليسارية والتقدمية هي التمسك بالمنهج الراديكالي في التغيير والاستماتة في الدفاع عن حقوق الانسان والتخلي عن الفوقية والتعالي والنخبوية والايمان بإرادة الشعب في التغيير وعبقريته وعقله الجمهوري وقدرته على التمييز بين الجيد والرديء والتحالف معه ومخاطبته بلغة سهلة والايمان بأهمية التغلغل الشعبي ووسائل الاتصال الجماهيري والايمان بالخصوصية الحضارية للمجتمعات وتغليب مصلحة الأوطان على الوفاء للأفكار المسقطة والفوقية والتوجه نحو الشروع الجدي في العمل المشترك مع القوى الديمقراطية من أجل توحيد الحركة الاجتماعية وبناء الكتلة التاريخية بالمعنى الغرامشي والقطع مع العقلية الانتهازية التي تبحث عن البروز والزعاماتية ونقد الدعاوي المثالية والغنوصية والابتعاد عن تبني الحلول القصوي والكف عن شرعنة العنف والاحتدام والتنظير للاندماج والتواصل بين القوي الثورية.
ان اليسار العربي مطالب بأن يكون أكثر يسارية وأكثر نقدية وأن يحدث ثورة في مقولاته ويجدد مفاهيمه ويدفع المنهج الجدلي الى أقصى مداه ويتخطى الميكانيكية والاقتصادوية والتطبيق الصارم للحتمية التاريخية وألا يعادي الوطنية والقومية والدين والحريات الفردية ويستفيد من الجرعات التنويرية التي أحدثتها الفلسفة المعاصرة خاصة مدرسة الرجة مع فرويد ونيتشه ومدرسة فرانكفورت وفكر 68 وتيارات مابعد الحداثة. وهو مطالب كذلك بأن يوسع دائرة النضال خارج اطار الفضاءات التقليدية وتوسيع دائرة الطبقة العاملة بحيث تشمل جميع الشرائح المهمشة وكل الفئات الكادحة من فلاحين وعاطلين وطلبة وأن يهبط تكتيكيا من خيار الأممية أولا الى استيفاء تحرير الأراضي المستعمرة بشكل ملموس وربطها بالسيادة الوطنية في بعض الأحيان وأن يعطي قيمة للمسألة الثقافية والديمقراطية والبيئية في برامجه وألا يقتصر على الاجتماعي والاقتصادي السياسي.
ان أمام اليسار فرصة تاريخية من أجل انجاح الثورة العربية واستكمال مسارها حتى تحقق أهدافها، ومن المعلوم أنه لا يمكن الحديث عن تفجر الثورة العربية وتمكنها من احداث قطيعة مع الماضي الشمولي دون أن يكون اليسار طرفا قويا فيها ومالكا لزمام المبادرة ومساهما بقسط وافر في قيادة الجماهير وتحريك الشارع وهزم القوى الرجعية والمحافظة وكنس رموز وأنصار العهد البائد.
ان حضور اليسار في المشهد يجب أن يتوزع الى ثلاثة محاور على الأٌقل: الأول هو المحور الاجتماعي ويتمثل في تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني والضغط الاعلامي والحقوقي في الفضاء العمومي من أجل التخلص من الميراث الاستبدادي ومحاربة الفساد المالي والأخلاقي وتغيير بنية الملكية بطريقة جوهرية واحترام المساواة والعدالة. كما يجب أن يؤمن اليسار بأنه في زمن الثورات لا صوت يعلو فوق صوت القوى الثورية ولا سلطة تتفوق على سلطة الشارع ونبضه وشعاراته المرفوعة في المظاهرات والمسيرات.
المحور الثاني هو سياسي ويتمثل في المشاركة الجدية والفعالة في الانتقال الديمقراطي ضمن جبهة واسعة وقوية وشعبية تمثل قوة ضغط مضادة لبقية الأحزاب اليمينية والحساسيات الممثلة والمتنظمة والتي تعبر عن بقايا النظام أو القوى المستفيدة من الثورة. لكن يجدر بكل ثوري أن يعلم بان الديمقراطية لا تعني الانتخابات والتمثيل لا يعني التوافق والالتزام بالمبادئ الثورية ولذلك يلزم أن يكون اليسار على صعيد ثالث في الصفوف الأمامية في دوائر صناعة القرار ويمارس الضغط والتأثير في السياسات القريبة للدولة ويرسم الاستراتيجيات البعيدة بالنسبة لناهضة قوى الاستعمار وشركات العولمة المتوحشة ويحول الصراع الطبقي الى نقد علمي وعراك نظري وجدل فكري ونقاش عمومي مع دعاة الوعي المقلوب والقيم الزائفة وثقافة السوق ومنطق الارتداد والانحطاط.
5- وحدة اليسار العربي:
اليسار العربي يعيش منذ عقود نفس المشاكل تقريبا ولم يراوح مكانه ولم يحقق الأهداف التي تشكل من أجلها وهي التحرر من التعبية والوحدة ضد التجزئة والتنمية ضد التخلف والديمقراطية ضد الاستبداد والالتزام السياسي والنقابي ضد اللامبالاة والتهميش والاشتراكية ضد النمط الرأسمالي في الاقتصاد على الرغم من التغييرات الكبيرة التي حصلت حوله وبروز العديد من التشكيلات الاجتماعية الشبابية الى جواره وظلت تعصف به الأزمات المتتالية والضربات الموجعة دون أن يتمكن من الخروج من قصور الصمت ودون أن يكسر جدران الخوف من السلطان والحصار الذي يضربه عليه الاستبداد السياسي المتحالف مع الامبريالية من جهة والاستبداد الديني المتحالف مع الاقطاع والريع النفطي من جهة أخرى.
ان تفجر الثورة العربية هو بمثابة جرعة من الهواء النقي بالنسبة لليسار العربي تجعله يحلق عاليا ويخرج من مستنقع التبعية لليسار العالمي ويعول على نفسه ويؤمن بخصوصيته القومية والاسلامية وينمي قدراته الذاتية وامكانياته التراثية الهائلة على التمرد والصمود.
ان طريق الوحدة العربية الطويل يمكن أن يقصر بفضل وحدة القوى اليسارية ووحدة الطبقة العاملة العربية والتنسيق بين الاتحادات المهنية والنقابات العربية وتكوين نواة صلبة ثورية تشكل العروة الوثقي للفكر المستنير العربي والأرضية الايديولوجية ال للمجتمعات العربية.
كما أن الاتفاق على مفهوم عربي للعلمانية ينسجم مع الثقافة العربية والتقاليد الروحية ويحترم المقدسات والرموز الحضارية كفيل بأن يسكت دوائر الاتهام بالإلحاد والتكفير الصادرة من بعض الدوائر والتي تسعى الى التشويش وارباك المشهد والابتعاد عن التناقضات الرئيسية وتلهية الرأي العام بقضايا ثانوية وخلق صراعات وهمية.
هنا نحن أمام عدة قوى وأحزاب تقدمية وديمقراطية موجودة في معظم الأقطار وتمتلك خطاب سياسي حزبي يخدم برامجها المحلية ويعكس تطلعاتها الفئوية الخاصة ولكن علاوة على ذلك يجب أن يتم احداث منبر موحد يعكس تكتل القوى الثورية العربية ويمتلك خطابا سياسيا حضاريا موحدا في مواجهة الامبريالية والصهيونية والرجعية ويوجه سهام نقده ضد كل القوى المعادية ويكشف المخاطر والمؤامرات التي تتعرض لها الأمة وتهدد مصير الكادحين والضعفاء في هذا الوطن الكبير.
ان مصير اليسار في الثقافة العربية هو أن يتخلى عن أرثودكسيته وخطيته وأن يقطع مع تبعيته للأدبيات المستوردة والمناهج المسقطة ويقوم بتجديد العروبة والاسلام من زاوية تطورية وينفتح على الاسلام المستنير والعروبة الجديدة والثقافات المحلية والخصوصيات المتعددة التي تتخاصب على أرضهما ويستقي منها قيمه المستقبلية وخططه الاستشرافية وأن يضع تحقيق المشروع الحضاري العقلاني للانسية العربية في المعمورة نصب عينيه.
خاتمة:
ان عصرنة العمل السياسي تقتضي اقامة علاقة جدلية مع الفضاء الافتراضي وذلك بالذهاب بالفاعلين الاجتماعيين والناشطين السياسيين اليه واختراقه والتمكن من آلياته والتحكم فيه وتكوين جماعات افتراضية هامة وبالخروج منه الى الشارع والالتقاء بالناس وعدم الاكتفاء بالنشاط الافتراضي والتحرك في الواقع الملموس وبذلك تكون النقلة الأولى من الواقع المتعفن الى الافتراضي السامي من أجل التطهر والاعداد للثورة وتكون النقلة الثانية الهبوط من الافتراضي الحالم الى الواقع المتعين من أجل البراكسيس والتغيير والفعل في المجتمع وتطهيره من بؤر الفساد ضمن حركة جدلية وملحمة شعبية تشبه ما حدث يوم 14 جانفي .
يجب أن تتقبل الأحزاب اليسارية والقوى الديمقراطية بأن وسائل الاتصال الحديثة مثل الأنترنت والهاتف الجوال والفضائيات والفايسبوك والتويتير هي وسائل حاسمة للاشهار والدعاية وتبليغ الأطروحات والتعريف بالتوجهات وأنها تأثيرها على عقول الناس كبير وقدرتها على التجييش هامة ولذلك عليها أن تمتلك هذه الوسائل وتفعلها بطريقة ذكية مع اخضاعها للنقد والحذر والاحتراس منها حتى لا يتحول الناس الى حشود تقودهم الصور الفاتنة والمنتقاة والمخادعة والتي حرصت بعض الدوائر الرأسمالية والمعادية على ضخها بكميات كبيرة وصناعة رأي عام وتوجيه الشارع نحو أغراضها وتنفيذ مخططاتها وأجندتها.
ان المحاور الثلاث التي يجب أن يتشغل عليها المنبر اليساري والديمقراطي هي التصدي للارتداد و الحيلولة دون التفويت في المكاسب المدنية ومواجهة الامبريالية ومخططاته الماكرة في الاختراق والتوسع والاستيلاء والاستقطاب والعمل على تفكيك بنية الشمولية وأنظمة الحكم الاستبدادية والفاسدة ولن يحدث ذلك الا بتكثيف الجهود العقلانية النقدية وخلخلة المقولات اليمينية وتشجيع الخط الثوري في الاسلام والنهل من القيم التقدمية في التراث وخاصة الاعتزال والرشدية والخلدونية ومناهج العلوم الطبيعية والصحيحة التي تركها المسلمون واعادة تحقيقها والتعريف بها وتطويرها والانفتاح على القيم الكونية وقوى العدل والخير وكل المناهضين للعولمة المتوحشة في المعمورة. فهل تتحرك بنية العقل العربي الاسلامي نحو بناء يسار ثوري قادر على الرد على المارد القروسطي والخطر النيوليبرالي والبطش بالسلبي والمتكلس فينا وزرع النير والأمل على أرضنا؟
كاتب فلسفي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق