كنتُ في بغداد (4)/ عدنان الظاهر


( تشرين الثاني ـ كانون الأول )
بغداد الغبراء الصفراء
ماذا حلَّ ببغداد أو بغذاذ أو بُغدان ؟
ما سر كل هذه الأتربة والأوساخ المتراكمة في دوائر الحكومة والدولة ؟ هل تصدق قارئي العزيز أني كنت أصبغ أحذيتي ( حملتُ معي زوجين ) مرتين في اليوم الواحد ؟ من أين يأتي هذا الغبار ؟ أما إذا أضطررت للمشي قليلاً في بعض الشوارع فالتراب يبلغ ركبتيك ... ما هذه القدرة العجيبة على التسلق ضد قانون الجذب العام لنيوتن ؟ بلى ، رأيت في مناسبتين رجلين يكنسان شوارع بعض الأحياء الشعبية ولكن ما وكيف يكنسان ؟ يحولان الأتربة من وسط الشارع إلى الرصيف ليعود ثانية إلى حيث كان وأسوأ ! تنتشر أنواع الحلويات الرخيصة على الأرصفة والعربات مكشوفة تحت رحمة الذباب وتراب السماء. كذلك الفاكهة والخضرة واللحوم . لك الله يا بغداد ولكم الله يا أهل بغداد . بغداد غبراء نعم لكنها صفراء في عين الوقت . تصطبغ شوارع بغداد باللون الأصفر الشبيه بأصفر العلم الألماني ( الحمد لله ! وجدت في بغداد شيئاً يذكرني بألمانيا ) . إنه لون صفار البيض تحمله متنقلة به سيارات عجيبة غريبة إيرانية وصينية وكورية تحمل أسماء لا يعرفها جيلي . تاكسيات بغداد عالم غريب عجيب . ركبت مع سائقين مثقفين من خريجي الجامعات لم يعثروا على عمل سوى قيادة سيارات التاكسي . سائقون آخرون كانوا شديدي الفضول يكثرون من الأسئلة الشخصية جداً جداً . كنت كثير التحفظ في إجاباتي متّبعاً نصائح الأهل في ألاّ أكشف نفسي لهؤلاء . كانوا جميعاً حانقين متذمرين شاكين لاعنين غاضبين . وكنت كريماً معهم فإذا اتفقنا على أجرة مقدارها ثماية آلاف دينار عراقي أعطيتهم عشرة آلاف .
وبدون إستثناء ، لم ينقطع صوت القرآن والمقاتل الحسينية في سيارات التاكسي جميعاً . هل كنت أجرؤ أنْ أطلب من السائق أنْ يُدير أغنية ما بدل هذه الأصوات الحزينة المالنكولية ؟ مغامرة ، أجل مغامرة لا تُحمدُ عقباها يا رجل . ماذا أتذكر من تاكسيات بغداد من طرائف ؟ إتفقت مع سائق تاكسي شاب أنْ يحملني من حي أور إلى شارع حيفا في الصالحية مقابل عشرة آلاف دينار . ضيع السائق الطريق ولم يهتدِ . أوقف سيارته فجأة وطلب مني إضافة خمسة آلاف وأن أترك السيارة ! رضخت للأمر وأذعنت فسلمته خمسة عشرألف بدل العشرة وأضطررت أنْ استأجر تاكسي آخر أوصلني إلى المكان الذي أريد . ولاية بطيخ كما يسميها الصديق المحنك زهدي الداوودي أم خان جغان أم ولاية فرهود أو بلد الواق واق حسب وصف الصديق دكتور مصدق الحبيب ؟ لكم الله يا أهل بغداد ولكم ألف رب يا زائري هذه البغداد . شاعت في ستينيات القرن الماضي تسمية أحد موديلات السيارة الأمريكية ( دوج ) ب [ أبو عليوي ] أما دوج بغداد العصري والحالي فيسمونه [ أوباما ] فما الذي جعل أهل بغداد ينقلبون على أبو عليوي ليصبح الرئيس الأمريكي أوباما ؟
زحام شوارع بغداد ونواب المنطقة الخضراء /
إذا تطرقتُ للحديث عن زحام شوارع بغداد والإختناقات في مداخل ومخارج الساحات الدائرية وغير الدائرية فلسوف أحتاج إلى مجلد كامل يُضنيني ويستهلكني . إستأجرت تاكسي صباح أحد الأيام من ساحة صباح الخياط في حي أور ليأخذني إلى وزارة التربية لمتابعة قضية تخص أم أمثل . إستغرقت هذه الرحلة ساعتين ونصف بالتمام والكمال . ساعتان ونصف للإنتقال من جانب الرصافة إلى جانب الكرخ قريباً من أسوار المنطقة الخضراء. ضحكت طويلاً ذات يوم من محاولة أم أمثل للقاء بعض أعضاء مجلس النواب . تصورت المسألة سهلة متاحة ميسورة . دخلت الباب الرئيس للمنطقة الخضراء فأجلسوها في قاعة إنتظار ثم كان السؤال الأول : هل لديكِ تخويل ؟ فوجئت بهذا السؤال فاستفسرت عن معنى التخويل . أصر الحرس المدجج بالسلاح أنَّ التخويل يعني التخويل لدخول مكاتب السادة النواب . أجابت أنْ ليس معها تخويل فطلبوا منها عنوان السكن ورقم الموبايل ليتصلوا بها فيما لو أفلحوا في ترتيب هذا التخويل . إنتظرت وانتظرت سُدى فلا خبر جاءها منهم ولا ( طارش ) زارها يحمل لها البشرى . أحد هؤلاء النواب هو الذي عرض عليها أنْ تقابله في مكتبه في المنطقة الخضراء . قبل سفري للعراق بعثت للسيد الطبيب إبراهيم الجعفري إيميل مستفسراً عن إمكانية الإلتقاء به لتيسير بعض شؤوني . لم يرد السيد الجعفري علماً أنه يعرفني شخصياً وجمعتنا لقاءات في ثمانينيات القرن الماضي . كذلك طلبت من الأمانة العامة لمجلس الوزراء رقم تلفون أو عنوان أحد مستشاري السيد نوري المالكي وهو صديق ما كان يفارقني وبيتي في العاصمة الليبية طرابلس . لم يردوا عليَّ ! إنه الدكتور أحمد عبد الكريم الأعرجي أمريكي الجنسية .
حدثت مشادة كلامية ذات يوم قريباً من أبواب وزارة التربية وكنت مع أم أمثل . تركنا السيارة التاكسي سريعاً لكنَّ سائق سيارة تالية ضاق ذرعاً بالوقوف خلف التاكسي فشرع يصوّت ببوق سيارته فلم يكترث السائق الذي أقلنا . فجأة ... إنفجر هذا صارخاً : إنتظر يا هوش ! ضحكنا كثيراً على هذه المسبّة فكيف تفاعل السائق الثاني معها ؟ مدّ رأسه وذراعه ثم صرخ : لا والله إنت هوش ! شتيمة جديدة ما كانت معروفة في زماننا في العراق .
كنت في الحاسبة المركزية ذات يوم . بعد أنْ أنجزوا معاملتي طلبوا مني مراجعة مديرية تموين الرصافة . سألتهم أين أجد هذه الدائرة ؟ قالوا مقابل وزارة النفط . سألتهم وأين تقع وزارة النفط ؟ قال أحدهم قريباً من مستشفى الجملة العصبية . عدتُ أسأل وأين هذه المستشفى ؟ ضحكوا ثم قالوا : جوار ضريح السيد ملا حَمَد ... رأوا الحيرة في وجهي فسألني أحدهم : ومن أين جئت أستاذ ؟ قلت على الفور من أهل الكهف ! لا أعرف بغداد فقد نسيتها وضاعت مني ملامحها الخاصة والعامة وخاصة أحياؤها وأطرافها الممتدة المترامية.
رأيتُ في بغدادَ ما لم أَرَه في هذا الكون : سيارات تحمل لوحات أرقامها باللون الأبيض وأخرى باللون الأسود ثم الأحمر ... أما الفئة الأخرى من سيارات بغداد فأعجب من العجب : سيارات تجوب الشوارع لا تحمل لوحاتٍ أصلاً [[ هب بياض ]] بلغة أهل الآزنيف . أفهمني بعض سائقي سيارات التاكسي أنَّ أرقام بغداد تُباع وتُشترى بمبالغ كبيرة لذا فبعض القادرين يبتاعون سيارات من إقليم كردستان وبالفعل ، لفت نظري وجود سيارات فارهة من أحدث الموديلات تحمل أسماء مدن كردستانية مثل السليمانية وأربيل ثم دهوك بدرجة أقل . كما رأيت سيارات تاكسي باللون الأصفر إيّاه تحمل لوحات عليها أسماء محافظات عراقية شتى مثل أربيل وبعقوبة والأنبار وبابل وكربلاء . تساءلت فأوضح لي صاحب إحدى سيارت التاكسي أنْ لا من مانع في تشغيل سيارة التاكسي في بغداد بصرف النظر عمّا تحمل من لوحات التسجيل !
الكهرباء في بغداد /
هناك ثلاثة ـ أربعة أنواع من الكهرباء في بغداد . الكهرباء الوطنية وكهرباء الشارع ثم الكهرباء الخاص الذي تزوده ماطورات ( مولّدات ) صغيرة خاصة منصوبة في حدائق البيوت تعمل بالبنزين . في بعض البيوت نوع رابع من الكهرباء يسمونه العاكس فضلاً عن أنابيب النيون التي تنير البيوت ليلاً بواقع أنبوب واحد في كل بيت . تدفئ العوائل بيوتها بدفايات نفطية وكهربائية . أظن إنَّ الكهرباء الوطنية تصل البيوت لست ساعات في اليوم ( 24 ساعة ) وربما أكثر من ذلك بقليل . صعدتُ مصعد إحدى العمارات صباح أحد الأيام فما أن تحرك المصعد صاعداً بي إلى الطابق الرابع حتى توقف كهرباء الوطنية وبقيت عالقاً لقرابة نصف ساعة في المصعد في ظلام دامس . كنت أدقُّ باب وجدران المصعد بعنف طالباً النجدة ولكن لم يسمعني أحد من سكنة العمارة الضخمة . فقدت قواي وجف فمي ولساني فأعددت النفس للمصير المحتوم . إستأنفت الضرب على الجدران بكفيّ حتى سمعتني سيدة فطلبت مني الإنتظار قليلاً . لم أصدق قولها . كنت كالفاقد وعيه . بعد بضعة دقائق جاء الكهرباء ( الوطني ) وتحرك المصعدُ لأجد نفسي على الطابق الأرضي بين الموت والحياة. كانت هذه تجربتي مع الكهرباء الوطنية التي أوشكت فيها أنْ أفقد حياتي لأنني كنت أجهل متى تأتي هذه الكهرباء ومتى تتوقف . عيش وشوف ... عشنا وشفنا وبعد نشوف ... لعزيز علي .
النفط متوفر والبنزين متوفر وكذلك إسطوانات الغاز ولكن ... أكل الناس قادرين على تأمين هذه الحاجات الأساسية لإدامة الحياة ؟ الخبز والصمون الجيدان متوفران على الدوام . اما فطور الصباح الذائع الصيت في العراق فزمنه محدود ينتهي في الصباح الباكر . أقصد القيمر والكاهي والبورك . أكلت كيمر الجاموس أربع مرات حتى شفي غليلي . سعر الكيلو عشرون ألف دينار . كانت أمنية كبيرة أنْ أفطر ذات يوم بكيمر جاموس معدان العراق . أما دبس التمور العراقية فقد كان متاحاً مع الشلغم المطبوخ به . أكلات كثيرة كنت أتمناها فوجدتها في بيوت الأهل والأقارب يقدمونها بسخاء خاصة السمك المشوي وكباب السوق المشوي وغير ذلك . لحوم الغنم والبقر غالية فسعر الكيلو 15 ألف ديناراً أي حوالي 15 دولاراً للكيلو الواحد صحيحاً أو مفروماً سواء . أشد ما كان يسؤوني في شوارع بغداد رؤيتي لرجال ونساء يستجدون ما بين السيارات مجازفين بحيواتهم ومصير مَن سيتركون خلفهم فيما لو قتلتهم سيارة مارّة بسرعة . كذلك لم تكن لتخلو هذه الشوارع من الباعة الجوالين صغاراً وكباراً يعرضون رخيص البضاعات على راكبي السيارات الخاصة والتاكسي . الحاجة تُلجئ الناس إلى قبول الخطر ومعايشته حتى يكون جزءاً من الحياة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق