أعود بعض الشيء إلى قريب التاريخ الذي عجزت الجغرافيا عن احتضانه، لا للبحث في الصفحات التي سودها المؤرخون... وإنما للنظر في ما بيضه الإعلاميون... أعود إلى 14 آذار 2005 حيث كان لبنان "ينتفض"... انتفاضة تمخض عنها كل هذا اللامعنى الذي يستحيي المرء أن يسم به بلدا قالوا لنا عنه يوما انه بلد المطابع بامتياز... وأحاول جاهدا أن استمد بعض عبر من ثورة الخواء تلك التي حاول مبدعوها تجميلها بأن سميت "ثورة الأرز" نكاية في الشجرة الشامخة التي ما هزتها رياح كثيرا ما هبت على لبنان من جنوبه... وأعود إلى 14 آذار 2011 حيث كانت سوريا تنتفض... وان كنت أعرف أن بين "ينتفض" و "تنتفض" مسافة فحولة ضاعت بين الياء والتاء... وقد لا أحتاج عميق تأمل إذ اسمع جنبلاطا وجعجعا وسعدا يصرحون بكل افتخار الهباء أنهم من ألهم الشعب السوري بثورتهم وحقا قالوا... فالمشترك بين الثورتين أجمل من أن يقال. خاصة وان الملهم في كلتيهما والمتحدث باسميهما مع اختلاف الأزمان هو فيلتمان. ثورات عنوانها الكرامة والحرية والديمقراطية يتبناها شيوخ النفط مالا وفقها وإعلاما وهم بالكاد يتهجون تلك الكلمات فأحرى أن يتحدثوا في المفاهيم فما بالك بالتطبيق. أمراء لم يتقنوا من فلسفة الحكم سوى أن يكونوا مرهوبين، أبانوا مرات ومرات أنهم مبدعون كلما تعلق الأمر بأمن حاضنتهم. ففي سبيلها صار التدين دماء وأشلاء وصديدا وانفجارات لا هدوء وسكينة كما كنا نخال. بل وفي سبيل أمنها التحق بالنجومية جيش عرمرم من المفتين تم تجميعهم في هيئات ومجاميع فقهية متجاوزة وركيكة المعنى والمبنى، حتى أننا نصاب بالغثيان كل جمعة إذ نسمع ترجمات حرفية لتصريحات الخارجية الأمريكية من فوق منابر المساجد في السعودية والدوحة، وان رصعت بكثير آيات وأحاديث نبوية شريفة تم لي عنقها بعنف بغيض ليس بغريب على عبدة البترودولار من فقهاء البلاطات في كل الأزمنة والأمكنة. أشياء لا أظنها جاءت نتيجة للتطور العادي للنفاق بقدر ما هي نتاج لتوظيف كل السلبيات من اجل استمرار مشيخات كل شرعيتها في امن حاضنتها.
وحتى لا نتوه وننسى ملهمي الثورات من ثوار الأرز، والذين يبدو أنهم عاشوا كساد اللامهمات منذ ما بعد اتفاق الدوحة الذي جاء بدهاء الغباوة ليعطيهم بعض انس اجتماعي وسياسي إلى حين ابتكار أشياء أخرى... فكان بحق ململما لجراحهم النازفة التي كادت تهد، قبل الأوان، كل بنائهم العشوائي عشية السابع من أيار. فهاهي الأقدار تخدمهم بعد أن حاصرهم القديم ورفضهم الحديث، حيث كفرهم سدنة النهر البارد وكفر بهم آخر عشاق الحرية... فجاءت أحداث سوريا لتنعش إصرارهم على البقاء برغم كل هذا الطرد الشامل. ثوار يسبحون في فلك أمراء البترودولار ولا يتحركون إلا في مجرات عطاياهم وكأني بهم إنما يكدون بغرض إدخال مفهوم "الثورة" إلى سوق النخاسة ومن ثم استعبادها فيكونون بذلك قد اطمأنوا على امن حاضنة مواليهم... أليست "الثورة" اشد ما خشيته وتخشاه أمريكا وربيبتها التي هي حاضنة العرب؟... ثم كيف لمن لم يكفوا يوما عن الدعوة لوقف اللجوء إلى السلاح في وجه الاحتلال الإسرائيلي والدفع في اتجاه تبني الحل السلمي التفاوضي مع الصهاينة، ولم يخفوا تجريمهم للمقاومة المسلحة باعتبارها ذريعة للاحتلال... كيف لهم أن يعملوا على تسليح المعارضة السورية ويجعلوا من أرضها مكانا لغزوات متطرفيهم باسم الثورة على النظام؟!! أليس المستهدف من كل هذا وذاك هو "الثورة"؟
الآن وبعد أزيد من سنة من السُّعار الإعلامي والدبلوماسي والسياسي المصحوب بالعمل الأمني الميداني، يظهر بوضوح أن النظام في سوريا لا يزال متماسكاً، وأن قواه العسكرية والأمنية تزداد تماسكا، بحيث أنه تمكن من استعادة السيطرة الميدانية على مناطق أرادوها بنغازيات، وتمكن من توجيه ضربات قوية للتجمعات المسلحة فيها... بعد كل هذا لم يعد لثوار الأرز إلا أن يلتحقوا بعصر كسادهم وان يعانقوا مرحلة اللامهمات من جديد. ولا غرابة إن لم يخجلوا، فقد ألفوا المهانات وتمرسوا على قضمها وهضمها بهداوة من لا يجد لنفسه مخرجا بعد أن احرق كل السفن. وحتى نخفف عنهم بعض حرجهم نذكرهم بما قاله أحد أركان قناة الجزيرة، الذي يعيش انفصاما بين واقعه المهني في قناة استعباد "الثورة"، وبين ماضيه القريب إذ لم يتوانى في التبجح بشعار"الرأي... والرأي الآخر" حيث صرح أن «العذر المنطقي» لما يحصل اليوم، وهو «أننا ننفذ سياسة الجهة المموّلة لنا ونقطة على السطر».
المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق