هل بدأ "الرينيسانس"* في الشرق؟/ نبيل عودة

الأخوان المسلمون السوريون نحو "ربيع إسلامي": من اجل دولة مدنية ديمقراطية تعددية تداولية ومواطنة ومساواة تنبذُ الإرهابَ وتسودها العدالة والقانون والفصل بين السلطات.

أطلق الأخوان المسلمون في سوريا "عهد وميثاق "، ليكون ، كما جاء في بيانهم الهام:" أساساً لعقد اجتماعيّ جديد، يؤسّس لعلاقة وطنية معاصرة وآمنة، بين مكوّنات المجتمع السوريّ، بكلّ أطيافه الدينية والمذهبية والعرقية، وتياراته الفكرية والسياسية".
حين قرأت الخبر ، تذكرت تعقيبا قرأته مرة للفخر الرازي على آية "ويل للمطففين" ( الطفيف = الحقير ، الخسيس) وسجلته في احد دفاتري، قال في تعقيبه:" من طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلب لنفسه، فهو من هذه الجملة". فهل حقا يمكن ان يتجاوزوا ما اشتهر عنهم ، ام هي مناورة سياسية؟
اعترف ان تصديق ما قرأت كان صعبا للغاية، ومع ذلك أحسست بما يشبه عودة الروح والتفاؤل، ومع ذلك أكتب بشيء من التردد، خاصة لمثقف موضوعي مثلي لم يشاهد من الحركات الإسلامية ما يبعث على الثقة بإمكانية قبول الآخر المختلف ، او قبول مجتمع تسوده المساواة المطلقة ، نقي من فكر "أهل النار وأهل الجنة" ، تسوده رؤية مدنية لا تفرق بين المواطنين، ودستور حسب ارقى الصياغات الحقوقية الدولية ، والتزام نهج ديمقراطي في إدارة الدولة والمجتمع.
على الأقل هذا ما يتعهدون به.. وهو موقف لا نرفضه ، بل نثني عليه ونرحب به. ونرجو ان لا يكون كلاما في الهواء لأمر في نفس يعقوب.
وساتعامل مع عهدهم المعلن بترحيب ، واعترف اني ادخل في مفارقة ذاتية صعبة جدا، تحتاج الى أكثر من بيان وتعهد وطرح بنود هي حلم كل انسان عربي عقلاني وغيور على مصير الشعوب العربية ومكانتها في عالم لا يحترم التائهين وراء الغيبيات والخوارق، بل ينحني اجلالا للمجتمعات التي تطور العلوم و التقنيات والاقتصاد وتضمن كرامة المواطن وحقوقه ورقيه.وأمل ان يكون هذا البيان فاتحة لمرحلة جديدة .
أشعرني نص "العهد والميثاق" بتفاؤل كبير بأن العقل والعقلانية لم تغب وحاضرة في أذهان الجماعات الاسلامية.
والسؤال المحير لماذا ظلت غائبة حتى هذه اللحطة المصيرية ؟! هل طرحها الأن يحمل اهدافا لم تبرز بالعهد والميثاق؟
من ناحية أخرى اكون بلا ضمير اذا لم ارحب بحماس بمثل هذه المواقف ، وآمل ان ترتفع إلى المكان الأول بالتطبيق على ارض الواقع أيضا، بنبذ كل فكر، مهما كان مصدره، يتناقض مع العهد والميثاق المعلن. ولا بد، كما آمل،ان نلمس التغيير ليس بالنصوص فقط، وإذا لم يحدث التغيير الآن، والربيع العربي يواجه مرحلته الحرجة، في تونس ومصر وليبيا وسوريا، فسيفقد اعلان العهد والميثاق قيمته الفعلية، وسيزيد التوجس الدولي الواسع من ان يقود الربيع العربي إلى صعود تيارات أصولية تعمق الاحترابات الطائفية والإثنية في الساحة العربية والدولية ، وتثير مخاوف أوساط وطنية ويسارية وأبناء طوائف غير إسلامية ( وإسلامية غير سنية أو بالعكس)، وأقليات أثنية في العالم العربي، من أن يفقدوا حتى القليل جدا من الحقوق الناقصة التي حصلوا عليها من الأنظمة الفاسدة.
بيان الجماعة السورية الاسلامية بحد ذاته هام جدا اذا اتبعته خطوات عملية في نشر الثقة عبر خطاب حضاري مع الأقليات ، ونقد ونقض كل الفكر المهين الذي يملآ الفضاءات العربية والمعادي للمختلفين ثقافة ودينا وجنسا وانتماء اثنيا، عندها لن نتردد في القول انها قفزة عظمى لم يكن يتوقعها احد ، ومجرد اعلانها يعني ان عالمنا العربي بدأ يسير نحو مرحلة جديدة وعقلية جديدة، ستقلب كل حسابات المتربصين بمصيرنا.
الواقع بحكم تطوره يغير. وحلمنا القديم ان تنتصر العقلانية والتفكير العقلاني ويصبحان على رأس أجندة حركة لها دورها الكبير في الانتفاضة السورية، وشكل الخوف من صعودها إلى السلطة حججا وتبريرات لدى منظمات سياسية وطنية ويسارية، للدفاع عن نظام الأسد ، وتبرير جرائمه.
عهد وميثاق حركة الإخوان المسلمين في سوريا، هو تحول مثير وهام وحاسم ولا بد أن ينعكس إيجابا على الربيع العربي كله.
لأول مرة نقرأ طرحا إسلاميا ( سوريا حتى الآن) لا يمكن أن يعترض عليه أي جانب ، لأنه يطرح مصالح كل الأطراف ، وأهمية هذا الطرح تتلخص أيضا في هدف هام ، إقناع القوى المترددة والمتوجسة من صعود قوى إسلامية للسلطة في سوريا، على الصعيد الداخلي وعلى الساحة الدولية، بأن التغيير في النظام السوري لن يكون الا لمصلحة الشعب السوري ، والانتقال من نظام قمعي فاسد إلى نظام ديمقراطي علماني يضمن المساواة الكاملة لجميع المواطنين بدون تمييز.
هل حقا سنعيش مرحلة انتقال من الهرطقات المدمرة الى مضامين دينية عقلانية تليق بعالمنا المعاصر؟
في العهد والميثاق الصادر في (25 – 03 – 2012) يلتزم الإخوان المسلمون في سوريا ببرنامج واضح، اورد بنوده كاملة:
(1 – دولة مدنية حديثة، تقوم على دستور مدنيّ، منبثق عن إرادة أبناء الشعب السوريّ، قائم على توافقية وطنية، تضعه جمعية تأسيسية منتخَبة انتخاباً حراً نزيها، يحمي الحقوقَ الأساسية للأفراد والجماعات، من أيّ تعسّفٍ أو تجاوز، ويضمن التمثيلَ العادل لكلّ مكوّنات المجتمع.
2 - دولة ديمقراطية تعددية تداولية، وفق أرقى ما وصل إليه الفكر الإنسانيّ الحديث، ذات نظام حكم جمهوريّ نيابيّ، يختار فيها الشعب من يمثله ومن يحكمه، عبر صناديق الاقتراع، في انتخاباتٍ حرة نزيهة شفافة.
3 – دولة مواطنة ومساواة، يتساوى فيها المواطنون جميعاً، على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، تقوم على مبدأ المواطنة التي هي مناط الحقوق والواجبات، يحقّ لأيّ مواطنٍ فيها الوصول إلى أعلى المناصب، استناداً إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة. كما يتساوى فيها الرجالُ والنساء، في الكرامة الإنسانية، والأهلية، وتتمتع فيها المرأة بحقوقها الكاملة.
4 - دولة تلتزم بحقوق الإنسان - كما أقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية - من الكرامة والمساواة، وحرية التفكير والتعبير، وحرية الاعتقاد والعبادة، وحرية الإعلام، والمشاركة السياسية، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، وتوفير الاحتياجات الأساسية للعيش الكريم. لا يضامُ فيها مواطن في عقيدته ولا في عبادته، ولا يضيّقُ عليه في خاصّ أو عامّ من أمره.. دولة ترفضُ التمييز، وتمنعُ التعذيبَ وتجرّمه.
5 - دولة تقوم على الحوار والمشاركة، لا الاستئثار والإقصاء والمغالبة، يتشاركُ جميع أبنائها على قدم المساواة، في بنائها وحمايتها، والتمتّع بثروتها وخيراتها، ويلتزمون باحترام حقوق سائر مكوناتها العرقية والدينية والمذهبية، وخصوصية هذه المكوّنات، بكل أبعادها الحضارية والثقافية والاجتماعية، وبحقّ التعبير عن هذه الخصوصية، معتبرين هذا التنوعَ عاملَ إثراء، وامتداداً لتاريخ طويل من العيش المشترك، في إطار من التسامح الإنسانيّ الكريم.
6 - دولة يكون فيها الشعبُ سيدَ نفسه، وصاحبَ قراره، يختارُ طريقه، ويقرّرُ مستقبله، دون وصاية من حاكم مستبدّ، أو حزب واحد، أو مجموعة متسلطة.
7 - دولة تحترمُ المؤسسات، وتقومُ على فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، يكونُ المسئولون فيها في خدمة الشعب. وتكونُ صلاحياتُهم وآلياتُ محاسبتهم محدّدةً في الدستور. وتكونُ القواتُ المسلحة وأجهزةُ الأمن فيها لحماية الوطن والشعب، وليس لحماية سلطة أو نظام، ولا تتدخّلُ في التنافس السياسيّ بين الأحزاب والقوى الوطنية.
8 - دولة تنبذُ الإرهابَ وتحاربُه، وتحترمُ العهودَ والمواثيقَ والمعاهداتِ والاتفاقياتِ الدولية، وتكونُ عاملَ أمن واستقرار، في محيطها الإقليميّ والدوليّ. وتقيمُ أفضلَ العلاقات الندّية مع أشقائها، وفي مقدمتهم الجارة لبنان، التي عانى شعبُها - كما عانى الشعب السوريّ - من ويلات نظام الفساد والاستبداد، وتعملُ على تحقيق مصالح شعبها الإستراتيجية، وعلى استرجاع أرضها المحتلة، بكافة الوسائل المشروعة، وتدعمُ الحقوقَ المشروعة للشعب الفلسطينيّ الشقيق.
9 - دولة العدالة وسيادة القانون، لا مكانَ فيها للأحقاد، ولا مجالَ فيها لثأر أو انتقام.. حتى أولئك الذين تلوثت أيديهم بدماء الشعب، من أيّ فئة كانوا، فإنّ من حقهم الحصولَ على محاكمات عادلة، أمامَ القضاء النزيه الحرّ المستقل.
10 - دولة تعاون وألفة ومحبة، بين أبناء الأسرة السورية الكبيرة، في ظلّ مصالحة وطنية شاملة. تسقطُ فيها كلّ الذرائع الزائفة، التي اعتمدها نظامُ الفساد والاستبداد، لتخويف أبناء الوطن الواحد بعضهم من بعض، لإطالة أمَدِ حكمه، وإدامة تحكّمه برقاب الجميع.)
رأيت أهمية خاصة في استعراض البنود العشرة ، كما جاءت في بيان الحركة. وانأ على ثقة ان هذا البيان هو خطوة سياسية عقلانية هامة في معركة الشعب السوري للتخلص من النظام الطائفي القبلي المستبد. وآمل ان النص ليس مجرد شعارات تحتفي بعد الوصول للسلطة ، وللمجتمعات العربية تجارب مريرة لا يمكن تجاهلها.
وأيضا لا بد أن أضيف ان هذا التطور في الرؤية السياسية ، لحركة إسلامية لا بد أن يكون نقطة تحول هامة تترك إسقاطاتها على مجمل الإسلام السياسي ، على الأقل في دول الربيع العربي..
ما كان سابقا لم يعد يناسب المستقبل. إن التغيير الحتمي في مواقف الحركات الاسلامية، خاصة في دول الربيع العربي، ليس وليد لعبة سياسية. لأنه كان واضحا ، وهو واضح اليوم أكثر، ان الربيع العربي رغم كونه انتفاضة شعبية بدون قيادات وبدون تنظيمات حزبية جاهزة لتوجيهها ، أعطى مساحة نشاط واسعة للحركات الإسلامية ، الأكثر جاهزية تنظيمية لأسباب عديدة منها ان النظام كان يرى بها رغم العداء الشكلي، وسيلة من وسائل عزل المواطنين عن الحياة الاجتماعية والنضال السياسي الوطني، وإغراق الجماهير الواسعة بأوهام الخلاص من السماء. إلى جانب التزامهم "بأولي الأمر" ( أي قادة الأنظمة الفاسدة) الذي برز في الانتفاضة، أي ضد الثورة ( في مصر مثلا)!!
كنت على قناعة وما زلت، ان القديم والمشوه كله ، الديني والسياسي سيسقط ، وكان قلقي ان إسقاط "القديم – الجديد"، الذي أمسك بالسلطة، سيدفع إلى انتفاضات عربية جديدة قد تكون أكثر عنفا ودموية إذا ظن المسيطرون الجدد على دفة السلطة، انه يمكنهم تجاوز حركة التغيير الجذرية، والحلم بالديمقراطية والمساواة التي ألهمت ثوار ميادين التحرير، وبناء نظام طالباني.
من هنا الأهمية الخاصة، والتي تبشر بربيع إسلامي، كما جاء في عهد وميثاق الحركة الإسلامية السورية.
ونأمل أن يمتد هذا الربيع الإسلامي لما فيه خير الشعوب العربية.
يمكن تسجيل تاريخ هذا "العهد والميثاق" (25.03.2012) كرينيسانس شرقي وبداية عودة العالم العربي الى التاريخ .
هل يحق لنا ان نتفاءل بان رينيسانس شعوبنا العربية قد بدأ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرينيسانس = عصر النهضة الأوروبية.
nabiloudeh@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق