لعلّ الأيام حبلى/ جواد بولس

لم أستأذن جلسائي بالكتابة عن فرح جَمَعَنا، وعن وجع خبّأناه في حنايا أضلعنا، لمّا افترقنا وعاد كل واحد إلى بيته/حصنه الأخير.
رفيقٌ من زمن الشرار، حين كنّا شبابًا لا يعرف ليلنا حسدًا ولا خوفًا ولا عتابًا، دعاني وزوجتي لنحتفي معه بضيفه، عزيز يزور فلسطين وهذه ليلته الأخيرة فيها، ففي الصباح سيعود إلى شامه وليلها الطويل وبردى الذي كان ماؤه من تبر السماء.
الشتاء ما زال يسكن رام الله. المطر يتساقط كهاربٍ من مطاردة حفنة أشرار، يحاول أن يمسك أنفاسه ويمسح سوادًا أرخته خطايا النهار. البرد قارس ما غلبه إلّا دفء المكان وعشرةٌ "فاتوا مضاجَعهم" واجتمعوا صحبة وابنة الحقل وسكين وأمل. تحلّقنا طاولة بلا زوايا ولا حواجز. صغرانا ستطوي الخمسين عمّا قريب. كان اللقاء كما يليق بالشوق ينضج غفلة، كوجع ناي ثقبته يد الخسارة وحكمتها تجربةً وهاجس السفر.
عن سورية سمعنا، وعن كيف ينتقي الموت عرائسه بالبطاقة والهوية. عن حلم العطاش حوَّله جشع الطغاة إلى كابوس وشرايين دم قطّعتها نعال من خانوا الوعود ووثبوا أسودًا ضارية على أيائل الحقل. عن فرق تسمى زورًا معارضة ولدت بدنس من زناديق خلّفوها فرقًا تمتهن القتل وتزرع الفوضى والسراب. فإمّا الخسارة وإمّا الخسارة، لأن صوت الحلم هزم في البدايات وبعضه ما زال يجيء حشرجات توجع وتشعل ليل الخاسرين. حرب الأهل والإخوة، ضفة تلوح من خلال ثقوب أشرعة سفينة تغرق، أو، أمل الناجين، مصالحة تؤجل حمامات الدم إلى مواسم الصيد الأخير الذي حتمًا سيحل على أرض أحفاد غسان وأمية.
احترقنا بما سمعناه. عدنا إلينا، إلى ما كان يسمى فلسطين وبعد دقائق أمسينا كمن هرب إلى النار. فهنا، أنّى تطلعنا لن نرى إلا جزائر البؤس والأمل المهاجر. فقاعات من زيف وهاويات. احتلال في كامل "تألقه"، مدجّج بدبّاباته وبأحلام صباه وكذبه المقدس، فعندهم الأرض وعد الرب لنبيه ونبينا موسى وآله، ممن سبقوا، ملوكًا قبلناهم وما زلنا أنبياء، حقهم في الأرض والسماء كما جاء في الكتب. وعندهم الأرض بلا ناس، خاوية إلا من الذباب والفراش يُصطاد على مهل أو يطرد على عجل أو يحبس في زرائب من إسمنت وجوع.
أحلامهم ما زالت أحلامهم، وهم ماضون في صلواتهم وأحلافهم مع بني عرب وبني بوش، فالرب يسعفهم ويبارك لهم ويعطيهم من خير البلاد ما وعدهم به من سمن وعسل وصراعات بين إخوة عرب كانوا وفاز كل واحد منهم بإمارة ولم يتركوا للغاصبين ولا حتى عظمة!
لم نلتقط في سهرتنا ولو لحنًا واحدًا يصحبنا إلى غفوة على شرفة درويش أو ينسينا لحن المارشات الجنائزية وعويل البؤساء والعاجزين. فكلنا يسأل ما العمل؟ والجواب يحال لصدى السنين والرهان على حَمْلٍ، حتمًا سيحمل به المكان، ولكن ما حزرنا من سيكون الفارس صاحب الشرف النبيل والنسل الرفيع.
ما العمل سؤال غاب أو غُيِّب حين برعم البيلسان في ساحات العرب فبدأ التقويم شرقيًا بالخريف. ما العمل سؤال عطّل لعقود يوم ذابت النخبة في غيم القمم وبرودة القصر المنيف، ويوم نام المثقفون والمفكرون في حضن الخليفة. ما العمل سؤال هرِّب في دهاليز ما أشرقت عليها شمس وطن فخلت المجامع والدور والساحات لعلّامات في عُرفها ديفنشي زنديق وكافر وأينشتاين معتوه وماكر ومحفوظ مهادن ومخاتل.
لم نلتقِ على فكرة واحدة وجواب، بيد أنّنا اعترفنا بانتهاك أحدهم أو أكثر لجريمة القصور. وكذلك اعترفنا أن هنالك من يقترف جرائم النفاق أمام من سيفترس المنافقين على أول وجبة احتفالٍ بنصره والسلطان. وكذلك اعترفنا أن العاجزين فقط يضطرون للتنازل عن الحلم أمام واقع ملتبس، لا سيما إذا كانوا ذات يوم سادة على نواصي الحسم أو في الدواوين ومفارق الطريق.
افترقنا وتمنى كل واحد منا للشامي أن يصل بالسلامة وأن يعود إلينا بالسلامة، هنا أضفنا لتمنياتنا بعضًا من صلاة ودعاء، فلقد شعرنا أننا بحاجة لذلك.
عندما غادرنا المطعم، كان المطر يتساقط بغضب وكأنه كان يسمع حديثنا والظلمة كانت أشد سوادًا. خاصرة رام الله كانت تنزف من حب ومن غنج، فالليالي حبلى والأيام كذلك، هكذا آمن البشر، أولئك الذين لا يكثرون من السؤال وتكراره، ما العمل، ببساطة لأنهم يعملون قبل أن يصابوا بالعقم والعجز.
تركت رام الله المحتلة وعدت إلى بيتي في القدس المحرَّرة! على حاجز قلنديا أوقفني الجنود وسألوا إن كنت آتيًا من فلسطين فأجبتهم: وذاهب إليها. ففي الصباح سأزور مستشفى السجن في الرملة حيث تتحرَّز إسرائيل على أصحاب حلم وإرادة وبطون تجوع وتقاتل، أصحابها يحاولون أن لا يبقوا دمى ورهائن في يد من يصر على أن الأرض هنا بلا ناس وأنهم، كما صرخوا هناك في بازل، سيحولون خرائبها إلى قصور وشوكها إلى عسل وحليب. هناك هم صرخوا وهنا شيدوا دولة القهر والقمع والماضي وجعلوا الأيام حبلى والشتاء قادمًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق