عسكرة "لنجة".. حاضرة عرب الضفة الشرقية للخليج/ د. عبدالله المدني


في خطوة تصعيدية الغرض منها الهروب من أزماتها الداخلية والخارجية المتفاقمة (الضغوط الدولية حول ملفها النووي، وإنخفاض الطلب على نفطها، وإنهيار عملتها الرسمية، وإزياد شعوبها فقرا، وتضعضع مكانة وقوة حلفائها في دمشق وبيروت) بتهديد دول الجوار العربية وتعزيز إحتلالها للجزر الإماراتية الثلاث، أقدمت إيران مؤخرا على تدشين قاعدة عسكرية في ميناء لنجة على الساحل الفارسي المواجه لمضيق هرمز، تحت إسم "قاعدة الإمام محمد الباقر"، لتعسكر بذلك هذا الميناء الهاديء البعيد عن الصخب والضجيج، وتجعله خط النار الأول في أية مواجهة بحرية إذا ماإندلعت حرب جديدة في الخليج.
ولمن لا يعرف لنجة من الإخوة القراء من خارج المنطقة، فإنها مدينة على ساحل الخليج العربي، وجزءا إداريا من محافظة "هرمزكان" التي تمتد على سواحل الخليج بطول 187 كيلومترا وبمساحة 7.7 ألف كيلومتر مربع تقريبا، وعدد من السكان يصل إلى نحو 1.5 مليون نسمة. وتحد هذه المحافظة الإيرانية، التي تشتمل على أرخبيل من الجزر الكبيرة والصغيرة (من ضمنها جزر الإمارات المحتلة الثلاث) من الشمال محافظة كرمان، ومن الشرق محافظات سيستان وبلوشستان، ومن الغرب محافظات فارس وبوشهر، ومن الجنوب بحر عمان وخليج العرب. وتعتبر لنجة بوابة الدخول إلى بر فارس السني، حيث تقطن الأقوام والقبائل ذات الجذور العربية (مثل المرازيق والمناصير وبني حماد وآل بشر وآل بوسميط وآل علي وآل عبيدلي وغيرها) ممن إضطر الكثيرون من أبنائها للنزوح إلى دول الخليج العربية في هجرات متتابعة منذ القرن التاسع عشر بحثا عن الرزق أو هربا من الإضطهادين المذهبي والعرقي على أيدي السلطات الرسمية.
هذه المنطقة التي أستوطنتها القبائل العربية منذ عصور ما قبل الإسلام، ظلت – طبقا للرحالة الدانماركي "كارستن نيبور" -  مستقلة لمدة طويلة عن السيادة الإيرانية، وحافظ أهلها على لسانهم وزيهم العربي وعاداتهم وأنماط مساكنهم العربية، مكتفين بإمتهان أعمال الصيد البحري ونقل البضائع ما بين الساحلين العربي والفارسي للخليج، إلى أن رسم نادر شاه الافشاري خطة لتفريس المنطقة بالقوة عبر نقل سكانها العرب بعيدا إلى بحر قزوين وإحلال الفرس الشيعة مكانهم. غير أن هذه الخطة لم تنجح تماما بفضل صمود العرب السنة من أهل لنجه وماجاورها من مقاطعات مثل بندر عباس، وأبوموسى، وجاسك، وخمير، وقشم، أو بلدات مثل  شيبكوه، وبستك، وجناح وكوخرد، وباغ، وجارك، وغابند، وكنك، ومغوه، ودركهان، وهشتبندي، ولاور، وكلدار، وبوجير، أو قرى صغيرة مثل تشاه مسلم، وتشاه عبدالرحمن، وبستانه، وسورو، وجنكل، وديوان، ودزكان، وكندران، وشناص، وبيسه.
والمعروف أنه في العصور الحديثة، وكما تروي المصادر التاريخية المختلفة، سيطر أبناء عمومة القواسم من حكام إمارتي الشارقة ورأس الخيمة الحاليين على أراضي لنجة وتوابعها بدءا من عام 1750 ، وخاضوا معارك بحرية شرسة للدفاع عنها في مواجهة الغزوات البرتغالية والهولندية، ومحاولات الفرس من جهة، وحكام عمان الأباضيين من جهة أخرى بسط سيطرتهم عليها.
ولعل أشهر حكام لنجة من القواسم هو الشيخ خليفة بن سعيد بن قضيب القاسمي الذي تولى حكمها من عام 1820 وحتى وفاته في عام 1874 ، حينما خلفه ولده الصغير علي الذي فـُرض عليه وصي سيء إسمه محمد يوسف. فأنتهزت الحكومة الإيرانية هذا الوضع للتدخل في شؤون لنجة وفرضت ضرائب باهضة على سكانها من التجار والمزارعين والبحارة ممن لم يستطيعوا أداءها وفضلوا الهجرة إلى المشيخات العربية الواقعة على الضفة الأخرى من الخليج، خصوصا وأن الأخيرة كانت تشهد وقتها إزدهارا في تجارة التجزئة واللؤلؤ. ولم يكتف الإيرانيون بفرض الضرائب، إنما عاودتهم أحلام نادر شاه في السيطرة التامة على لنجة وتغيير هويتها العربي، فشجعوا الوصي محمد بن يوسف على التخلص من الحاكم علي بن خليفة القاسمي قتلا، متعهدين للأول بتعيينه حاكما بديلا. وقد تم بالفعل تنصيب محمد بن يوسف حاكما على لنجة في عام 1878 بعدما نفذ ما طــُلب منه، لكنه لم يهنأ بالسطة طويلا. إذ تم قتله بعد سنوات قليلة على يد قضيب بن راشد القاسمي الذي تولى الحكم من بعده. وحاول الأخير الاستقلال بلنجة عن الحكومة المركزية الايرانية بدعم من حكام رأس الخيمة و الشارقة القواسم. الا ان المقيم البريطاني في بوشهر حذر حكام هاتين المشيختين من الاشتراك في ذلك النزاع، الذي سوي بشكل مؤقت بموجب اتفاقية وقعت في عام 1885إعترفت فيها إيران بحكم الشيخ قضيب مقابل ضريبة سنوية قدرها 190 الف قران إيراني.
لكن الإتفاقية لم تنه حالة التوتر في العلاقات بين الإيرانيين وحكام لنجة القواسم. إذ سرعان ما تراجع الإيرانيون، بعد موت الشيخ قضيب في عام 1895 وتولي الشيخ محمد بن خليفة بن سعيد بن قضيب الحكم، عن تعداتهم بكف اليد عن لنجة وأهلها. حيث عادوا إلى التعامل بقسوة مع القواسم ورعاياهم من عرب لنجة وبر فارس العربي، وذلك من خلال إرسال أحد قادتهم العسكريين الغلاظ (حاجي أحمد خان دريابيكي الشهير بحاجي أحمد خان كبابي) على رأس حملة عسكرية.
وإستطاع دريابيكي المعروف بقسوته وظلمه وتعسفه أن يلحق الهزيمة بجيش الشيخ محمد بن خليفة القاسمي رغم إستبساله وصموده لعدة أيام. ولم يكن لدريابيكي أن ينتصر لولا تحايله وتآمره وتجسسه على القواسم الذين أحسنوا الظن به وأكرموه كعادة العرب، ناهيك عن مناصرة الإنجليز والأقلية الشيعية في لنجة له. ولما رأي الشيخ محمد الفضائع والمجازر وأعمال التخريب والإغتصاب التي يرتكبها دريابيكي ضد أهل لنجة، آثر أن يغادرها إلى الشارقة رحمة بأهلها من العرب السنة. وهكذا طويت في عام 1898 صفحة حكم العرب للنجة التي دامت نحو 150 عاما، وبدأت حقبة السيادة الإيرانية عليها، علما بأن السنوات الأولى التالية مباشرة لإنتهاء حكم القواسم في لنجة كانت أمور الأخيرة تــُدار من الباطن بأيادي الإنجليز.
إن التاريخ ليس مجرد حكايات تروى فقط، وإنما أحداث تستفاد منها الدروس والعبر. لذا فإننا لم نسرد ما سردناه هنا من وقائع تاريخية إعتباطا، وإنما لنؤكد من خلالها عدة حقائق: أولاها أن الأطماع الفارسية في أراضي العرب وممالكهم قديمة جدا وليست وليدة اليوم أو وليدة ظهور النظام الفقهي الحالي في طهران، وهو ما يتجدد الآن في تصريحات وتهديدات ملالي طهران وقادة حرسها الثوري، وثانيتها أن الفرس لم يحترموا يوما تعهداتهم إزاء جيرانهم وشركائهم في بحيرة الخليج، وإنما كانت أطماعهم تدفعهم دوما للتخلي عما وقعوا عليه، وهو ما لاحظناها في السنتين الأخيرتين حينما عادت الأبواق الرسمية وشبه الرسمية الإيرانية إلى إسطوانة المطالبة بالبحرين، دون أدنى إحترام للإتفاقيات والقرارات الدولية الخاصة بإعلان البحرين وطنا عربيا مستقلا (قرار مجلس الأمن الدولي رقم 278 لعام 1970 ). أما الحقيقة الثالثة فهي أن القوى الغربية مثل بريطانيا العظمى ساهمت تاريخيا بصور مختلفة في تشجيع الإيرانيين على الإضرار بالحقوق والسيادة العربية، وهو ما تقوم به اليوم مجددا بريطانيا ومعها الولايات المتحدة عبر إصطفافهما مع عملاء إيران وطابورها الخامس في دول الخليج العربية، وتشجيعهم على ممارسة الفوضى والخروج على الأنظمة الشرعية تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة : نوفمبر 2012
البريد الإلكتروني: elmadani@batelco.com.bh

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق