المفكر التونسي الراحل عفيف الأخضر – ثقافة العلم والايديولوجيا/ شاكر فريد حسن

 هوى عن شجرة الفكر والمعرفة ، هذا الاسبوع ، الكاتب والمفكر والمثقف والمناضل اليساري التونسي المثير للجدل العفيف الأخضر ، بعد حياة صاخبة مليئة بالألم والوجع والقهر والعذاب النفسي والاحلام الضائعة والابداع الفكري الغني والخصب . وكانت وسائل الاعلام قد تناقلت قبل فترة قصيرة ان العفيف الأخضر وضع حداً لحياته  في منزله بباريس جرّاء مرض العضال ، الذي عانى منه خلال العقد الاخير .
وبرحيل العفيف الأخضر انتهت حياة انسان ومثقف علماني ومفكر نقدي لم يكل من النضال والكفاح والكتابة ضد التسلط والفساد والاضطهاد والديكتاتوريات ، ولأجل مجتمع عربي مدني تحرري تسوده العدالة الانسانية والارادة الحرة والرخاء الاقتصادي والرفاهية والديمقراطية الحقة .
العفيف الاخضر هو قامة فكرية شامخة ، ومن رواد الفكر التنويري  العقلاني الحداثوي ، امتاز بالحدة والصرامة والشجاعة الفكرية المتناهية ، وعرف كأحد اشرس الأصوات والأقلام اليسارية التي لا تهادن . اشتهر بسجالاته ومشاكساته وراديكاليته وتمرده على الشائع والمألوف ، ولم تنفصل عنده المعرفة عن الحياة والسياسة . انتمى للجيل الأول من الماركسيين العرب ، وكان مقاتلاً ومنافحاً عنيداً في الدفاع عن العقلانية والعلمانية والحداثة السياسية والاجتهاد العلمي والاصلاح الديني بروح عصرية خلاقة ومبدعة . انشغل بالقضايا الفكرية والايديولوجية وبهموم الواقع العربي الرديء والبحث عن سبل اصلاحه ، رافعاً رايات وشعارات الحرية والعدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروات ، داعياً الى الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي في المجتمعات العربية .
العفيف الأخضر من مواليد تونس لعائلة فلاحية فقيرة ، عاش حياته بشكل اسطوري ، عانى الغربة والهجرة والتشرد والفقر والبعد عن الوطن ، والتحق بالثورة والمقاومة الفلسطينية  في سبيل الحق الفلسطيني المشروع ، وقضى سنوات عمره في بيروت وباريس .
اهتم العفيف الأخضر بعدد من المفكرين والشخصيات الفكرية والاصلاحية ، الذين اعجب بمواقفهم من الفكر والسياسة والحياة بشكل عام . وتأثر في مطلع شبابه ، وباعترافه ، بطه حسين وشبلي شميل ولطفي السيد وسلامة موسى واحمد امين والعقاد الشاب وبرموز الاسلام المستنير مثل قاسم امين والطاهر الحداد والفاضل بن عاشور والفاسي،  كما تأثر بالتيار الوجودي وخاصة سارتر وبالتيار الماركسي وخاصة ماركس وروزا لوكسمبورغ وبتيار التحليل النفسي وخاصة فرويد .
واذا كان العفيف الأخضر بدأ حياته ماركسياً الا انه في العقدين الاخيرين تغيرت قناعاته الفكرية واعاد النظر في مفاهيمه على ضوء التحولات الجديدة وسقوط الانظمة الاشتراكية والشيوعية العالمية ، واعتبر خصماً لليسار والمحافظين على حد سواء ، وانتقل من الماركسية الى الليبرالية واصبح ليبرالياً متحمساً للافكار والمفاهيم الليببرالية هو ومجموعة من مثقفي اليسار العرب الذين تغيرت قناعاتهم الايديولوجية .
للعفيف الأخضر مقالات كثيرة نشرها في العديد من المجلات والصحف العربية والمواقع الالكترونية . وله عدد من الأعمال والمؤلفات الفكرية التي وضعها اهمها : التنظيم الحديث ، الموقف من الدين ، اعادة تعريف الاسلام بعلوم الاديان ، هذيان الشعور بالذنب وغير ذلك . كما وترجم "البيان  الشيوعي "واعتبرت ترجمته من أكثر الترجمات متانة ورصانة وامانة وجمال ، ولا تزال المرجع الوحيد والموثوق به للبيان الشيوعي حتى يومنا هذا .
اتصف العفيف الأخضر بالجراة والشجاعة في نقد ممارسات الانظمة والاحزاب ، التي تتبنى الايديولوجية الماركسية ، وخاض المعارك الفكرية العنيفة ضد قوى الارتداد والسلفية والظلامية والرجعية وابلى بلاءً حسناً في التصدي لجماعات وتيارات الاسلام السياسي السلفي الجهادي التكفيري ، وله في هذا المجال مداخلات عميقة ونصوص عدة حول اصلاح الاسلام وتحديثه ، وكيفية  مواجهة قوى التأسلم والتعصب الديني ، منها مداخلته الموسومة " كيف نجفف ينابيع الارهاب السياسي ".
ويؤكد العفيف الاخضر  ضرورة قراءة الفكر الديني بمنطقية وعلمية وعقلانية  ويرى " ان الفكر الديني عبر التاريخ كان معادياً للفكر العلمي ومثبطاً لوتائر التطور وللطاقات الابداعية عند البشر كما كان الانتماء سبباً في التعصب والفوقية وحب السيطرة واتسلط والاستهتار بالآخرين مما تنتفي معه اية فرصة للحرية والعدالة والمساواة وازدهار العلم والمعرفة وتطوير الطاقات البشرية وتكريس السلم وروح التعاون بين الشعوب وتبادل خبراتها " .
العفيف الأخضر مثقف عضوي ومفكر حر مشاكس ، ونقدي تنويري معارض ، وليبرالي حداثي،  كتب أجمل واروع وأهم مقالاته ونشرها في موقع "الحوار المتمدن" ، واسهم في اثراء ورفد المشهد الفكري والحياة الثقافية العربية بمنجزاته ومداخلاته الفكرية والفلسفية . واذا كان رحل بجسده فسيظل خالداً بأفكاره التجديدية واحلامه بغد مشرق جميل، ومجتمع ينعم بالحرية والمساواة والكرامة والديمقراطية والعدالة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق