مرر البرلمان الهندي بموافقة الائتلاف الحاكم الذي يقوده حزب المؤتمر مؤخرا تشريعا يجيز انشاء ولاية هندية جديدة تحت اسم ولاية "تيلانغانا" ليصبح عدد ولايات الاتحاد الهندي 29 ولاية (بعد أن كان عددها 16 ولاية فقط في عام 1971) إضافة الى المقاطعة الاتحادية التي تقع في نطاقها العاصمة نيودلهي. والولاية الجديدة سوف تستقطع من أراضي ولاية "أندرا براديش" المطلة على بحر العرب ذات التاريخ العريق والتي أصبحت في السنوات الأخيرة قلعة للبرمجيات وعلوم الحاسوب، على أن تظل العاصمة "حيدر آباد" عاصمة للولايتين خلال السنوات العشر القادمة. ويأتي هذا التطور إستجابة لرغبات الكثيرين من أبناء ولاية "أندرا براديش"، التي يسكنها اليوم نحو 40 مليون نسمة وتتكون من 23 مقاطعة سيلتحق عشر منها بالولاية الجديدة، ممن إتهموا الحكومة المحلية للولاية ومجلسها التشريعي بإهمال تلك الولايات العشر، ورأوا أن في إنسلاخها فرصة لايلائها اهتماما يتوافق مع تطلعات ابنائها، الذين قتل منهم 400 شخص خلال نضالهم واحتجاجاتهم من أجل تحقيق هذا الهدف منذ عام 1969 ، وبالتالي نيلهم قدرا من الازدهار الاقتصادي الموجود في المقاطعات الاخرى من "أندرا براديش".
ويقول المتابعون للشأن الهندي المحلي أنه على الرغم من أن هذه الخطوة جاءت إستجابة لمطالب شعبية مستمرة منذ نصف قرن، ولإزالة الإحتقان الداخلي الذي سببه أحد قادة تقسيم الولاية وزعيم حزب "راشتراساميتي بارتي" السيد "تشاندرا سيكارا راو" بإضرابه عن الطعام إلى أن يـُستجاب لطلبه وطلب أنصاره، فإنها - أي الخطوة - ذات علاقة بالانتخابات العامة التي ستجري في العام القادم على المستويين الاتحادي والمحلي، وذلك بمعنى أن حزب المؤتمر يسعى من وراء دعمه للقرار المذكور تحسين فرصه الانتخابية في ولاية "أندرا براديش" التي يمثلها في البرلمان الاتحادي 42 نائبا.
ويعتبر هذا الحدث سابقة في تاريخ الهند الحديث، حيث لم يسمح لأي ولاية تكونت من مجموعة من السكان من ذوي الثقافة واللغة المشتركة بالانقسام في الماضي، وإن كانت البلاد قد شهدت في عام 2000 إنسلاخ أراض من ولايات قائمة لتأسيس ولايات جديدة ذات ثقافة مختلفة عن ثقافة الولايات المُـنسلخ عنها. ففي ذلك العام ظهرت ولاية "تشاهاتيسغار" منسلخة من أراضي ولاية "ماديا براديش"، وظهرت ولاية "أوتارا كاند" منسلخة من ولاية "أوتار براديش"، وظهرت ولاية "جهار كاند" منسلخة من ولاية "بيهار". والمفارقة هنا أن ولاية "أندرا براديش" التي قادت عملية ترسيم حدود الولايات الهندية وفق لغات وثقافات سكانها في خمسينات القرن الماضي، وبما أدى إلى ظهور ولايات جنوبية ووسطى مثل ولاية "كارناتاكا" التي يتحدث أهلها لغة موحدة تسمى "كانــّدا، وولاية "مهاراشترا" التي يتحدث أبناؤها لغة الـ "ماراتي"، وولاية "كيرالا" التي تتحدث لغة الـ "ملايالام"، وولاية "البنجاب" التي تتحدث البنجابية، وولاية "غوجرات" التي تتحدث الغوجراتية.
وطبقا لبعض المراقبين فإن هناك مخاوف من أن تشجع هذه الخطوة أبناء ولايات هندية أخرى على طلب الانسخلاخ في ولايات جديدة، خصوصا وأن هذا المنحى واضح في مقاطعة "بونديل كاند" الواقعة في أواسط ولاية "ماديا براديش"، وفي مقاطعة "فيداربا" الواقعة إلى الغرب من ولاية "مهاراشترا" ذات الثقل الاقتصادي لوقوع ميناء بومباي ضمن نطاقها، وفي مقاطعة "غوركالاند" الواقعة ضمن أراضي ولاية "البنغال الغربية". غير أن المتوقع هو أن يصبر هؤلاء قبل تصعيد مطالبهم ليروا إن كانت ولاية "تيلانغانا" المستحدثة قابلة للحياة، لاسيما وأنها ولاية لا تطل على البحر بحسب حدودها المرسومة. والمعروف أن 40 بالمائة من سكان الهند يتحدثون لغاتهم الخاصة، مع تحدث شيء من الهندية من وقت إلى آخر. والمعروف أيضا أن باني إستقلال الهند وأول رؤساء حكوماتها "جواهر لال نهرو" كان معارضا لمنح اللغات المناطقية إهتماما كبيرا بحيث تؤسس وفقها حدود الولايات، وذلك خوفا من إنبعاث الروح الانفصالية المهددة لوحدة التراب الهندي يوما ما.
غير أن ما خشي منه نهرو قبل ستة عقود، صار بمرور الوقت حقيقة واقعة، ولاسيما في العقدين الأخيرين اللذين تميزا ببروز الأحزاب السياسية المحلية وتمكنها من تعزيز مواقعها على حساب الأحزاب الوطنية الكبرى العابرة للولايات كحزب المؤتمر، وبهاراتيا جاناتا، وجاناتا دال، والحزب الشيوعي، بحيث صارت رقما صعبا في التحالفات السياسية اللازمة لتشكيل الحكومات الاتحادية. وبطبيعة الحال فإن معظم هذه الأحزاب المحلية يمارس دوره الضاغط من خلال شعبيته المتأتية من إنحيازه للهوية المناطقية والثقافية. ويمكن هنا التدليل على صحة هذا الكلام بأنه منذ عام 1989 لم يستطع أي حزب من أحزاب الهند الكبرى أن يحصل على أغلبية برلمانية تتيح له تشكيل حكومة غير إئتلافية.
والحقيقة ان قرار الحكومة الهندية وبرلمانها الاتحادي الاخير لا يفتح الباب فقط امام حالة من التشظي للولايات الهندية القائمة الى ولايات اصغر حجما واقل سكانا، وإنما يفتح الباب أيضا امام تساؤلات كثيرة حول مسائل الهوية والنزعات الثقافية والجهوية وكيفية تعامل كبرى ديمقراطيات العالم معها. فمثل هذه المسائل والقضايا شكلت على الدوام تحديات للحكومة الاتحادية في نيودلهي بسبب تأثيرات دول الجوار عليها، ولاسيما باكستان وسريلانكا اللتين شهدتا مآزق مماثلة، ناهيك عن اسباب اخرى مثل تبني بعض الاحزاب الهندية الصغيرة لفكرة تفتيت ولايات كبيرة الى ولايات اصغر حجما وسكانا كي يسهل عليها التحكم بها سياسيا في مواجهة حزب المؤتمر العريق. فعلى سبيل المثال لا تخفي رئيسة الحكومة المحلية لولاية "أوتار براديش" والشريكة في الإئتلاف الحاكم السيدة "ماياواتي" رغبتها في تقسيم هذه الولاية الكبيرة والمزدحمة، التي يسكنها نحو 170 مليون نسمة من ذوي الافكار السياسية المختلفة والرؤى المتباينة لجهة الاستغلال الامثل والتوزيع الاعدل للثروات، ولجهة كيفية معالجة البيروقراطية المتفشية في اوصال الدوائر الرسمية إلى ولايات أصغر كي يكون لها الكلمة الفصل في ادارة إحداها دون منازع.
واخيرا فإن قرار البرلمان الاتحادي الهندي حول إنشاء ولاية "تيلانغانا" ينتظر، طبقا للإجراءات الدستورية والقانونية، موافقة المجلس التشريعي للولاية المعنية بالأمر بالدرجة الأولى وهي ولاية "أندرا براديش"، فهل سيوافق الأخير فيخلق بذلك سابقة يتخوف منها الكثيرون؟
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: أغسطس 2013
الايميل: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق