سركون بولص الشاعر الذي بشر بآلام أمته في كل الجهات/ اسحق قومي

قراءات في قصائد الشاعر الراحل إلى الأبدية

الشعرُ ذلك السيد المطلق الذي يأخذك إلى عوالم تشبه الخرافات القديمة في نينوى الحزينة أو على أطلال بابل وخرائب أشور وأغاني الفرات العابث بجسد مابين النهرين،وإذا كان أفلاطون قد صنف الشعر بأنه أرقى أنواع الفنون، يبقى الشاعر كالمهندس الذي يصمم مخططاً لبناء برجٍ أو بناية تُدهش فيما بعد من يراها.هكذا تجلى الشعر في روح شابٍ آشوري متمرد من العراق.هو متمرد بكل المقاييس ..خرج من الحبّانية ولم يعد...بعد أن عاشرته آلهة الشعر هناك عمده الحزن إلى الأبد.وبعد تلك القرية التي طالما عاشها بكل ما كانت عليه ينتقل مع أسرته إلى كركوك وفي هذه المدينة الناشئة يريد أن يؤسس شخصية سركون المحارب ها هو ينتسب لجمعية الشعر، وكركوك يبدو أنها هي الأخرى لم تعد تكفي لطموحاته ولم تعد تتسع فضاءات الشاعر أو حتى سهول نينوى عاصمة ومجد أمته التي سيبشر بآلامها،فتراه يولّي شطره بغداد حيثُ فيها أمجاد العباسيين ولكنهُ وكعادته يمتدُّ كالضوء...وهناك يُثبتُ عناوينه ومفرداته البكر حيث يتوحد مع القصيدة السيابية وهنا لابدّ من القول أنَّ الأبجدية الشعرية عند الشاعر المسكون بالعشق والحزن كانت قد تكونت حيث الجد والاجتهاد ،وأوسمة المطر تأتيهِ ثمَّ يستيقظ نائماً ليرى أنهُ يحلمُ بأن يكون أمياً على القلوب وهنا يتخذ من الرمزية وفنون البديع سبيلا حيث تختفي ظلال ما يشاء أن يقوله علناً في جسد القصيدة الرمز.
الشاعر الآشوري الشاب يتألق في بغداد ولكن هناك من يُعيق دروب هذا المسكون بنور الآلهة التي تمنحه القدرة على تصدي الآخر الذي كان يقف عائقاً أمام تجربة سركون...
وربما همست له تلك الآلهة لتنذره أن بيروت هي المحطة التي سيتألق من خلال حدائقها واتساع صداها لكل ِّ تجارب المثقفين والشّعراء والمضطهدين فنراه يقصدها ولسنا ندري تماماً كم عاش الخوف والرعب والجوع والعطش حتى وصلها الشاعر المهجر الآشوري...
بيروت تلك المرأة التي تحتضن جميع طموحات هذا الشاعر القادم إليها من بلاد مابين النهرين، وهنا لابدَّ أن يتذكر سركون بولص وجه أُمه ووالده وأخوته.وخاصة أمه فقد افتقد ذاك الحنان وتلك الرعاية فهو محاصرٌ بصورها التي لا تفارقه ليل نهارْ.وها هي تُريد إقناعهِ بأن لا يزعج والده النائم في أيام الصيف الحارة...ها صوتها يأتيه قائلةً( بسا بسا سركون بابي بابوخ دميخا) وهذا القول له كم سمعته يردده أمامي ونحن في غرفته بمدينة شبنكونك الألمانية حين كان يعبُّ بكأسات من الويسكي وكانت دموعه تنزل للآمانة كان يقول لقد كنتُ ولداً عاقاً.
فانظر إلى ملامح وجهه فأرى فيها تراتيل عجوز وهي تنوح لفقد ولدها.
كم من موجة سونامي تضربه في أعماق عواطفه ومشاعره؟ ولكنه يتعزى بأنه سيجد من يتفهم تمرده وقصيدته.
في بيروت يختلفون ويأتلفون هؤلاء الزملاء لأنهم من مختلف البلاد ومنهم من هم من بلاد مابين النهرين، أجل يعرف بعضاً منهم...
سركون بولص ومجلة شعر تحقق له الحلم وبدأ يصعد في مدارج ملكوت الإبهار وراح سركون بولص يحطم الصياغات اللغوية والموروث الشعري ليبتني من أنقاضه برجاً سيتسع لكل عشاق القصيدة الحداثية.
بيروت تعجُّ بكل أنواع المغريات ولكن لابدَّ أن نرسم أو نتلمس الجوانب النفسية والبيولوجة عن سركون فقد كان برأي وجودياً إلى أقصى درجة ممكنة.ولم يكن مكيافلياً حيث تراه يحتاج إلى كل ضرورات الحياة لكنه كان ولا يوم يطرحها أو يجعلك تحس بأنه يطلبها.عزيز النفس كريمها مقتصد كل الاقتصاد في البوح عن مكنوناته إلا أنه كان أكثر بوحاً للأنثى من الذكر.
وربما كي نرسم دروباً تؤدي إلى هذه الحقائق فإننا نقول ما لمسناه ولم نكن مع جميع مراحل وحالات تجليه...وديع ذو سلوك رائع له ضحكة هادئة ملونة بالحزن والأسى ولكنه يبقى في الجانب البيولوجي شاب أسمر الوجه معقوف الأنف كصقرٍ بازي ،عيناه تتسع لمساحات الخمور وأغاني الغانيات في برج بابل وربما مثلها مثل تلك الصبية الحزينة التي تُغني آلماً على أطلال نينوى....
ولست أدي إن كنتُ على مقربة من الحقيقة إن قلتُ: أن عالمه العاطفي كان غامضاً ويتحاشى أن تلامس أطرافهُ ...
وسركون بولص كأسلافه الآشوريين والكلدانيين يحبُّ الصلاة قبل الفجر حيث كان يرتدي مثلهم لباسه الأبيض ليؤدي صلواته أمام الزقوات للآلهةٍ يراها هي وجوقاتها تعزف له مفردات القصيدة التي يكتبها...بعد أن يكون قد شرب الخمر وكأنه أحد الكهنة ....فالقصيدة عند سركون بولص كانت محراباً ينثرُ من خلالها بخوره التي كان ينسجها عباءات للعابرين بقصوره ....
سركون بولص يصل إلى نهاية القصيدة ثمَّ يسأل أية الجسور لم أصلها بعد؟
عناوين عديدة حاكها من دمهُ لنتوقف عند بعضها ونلج عالم تلك العناوين.
الأطفال المسحورين والمدينة.حيث نجد سركون يؤكد أنه جاء من الريف البسيط الرائع الساحر لكن سحر المدينة الكبيرة يُبهره...جبل القديس فأي الجبال عند سركون يمثل القدسية؟ هنا نؤكد على أنه راهب بالفطرة وهو قديس ولكنه متمرد على طقوس آلهته.كما أننا نرى في الجبل الشموخ والأعالي التي تهواها النسور
ويحب سركون دوماً الأعالي ليبتني هناك عشه الأبدي في القصيدة.
أزعم أن سركون كانت تسكنهُ الآلهة وراهب آشوري قديم كان تجتمع حوله الشعراء والأدباء في كل تجمعٍ حضره سركون.لكن وجوديته التي كان يعيشها كانت تحيرالآخر.لقد تعمد في نهارات جان بول سارتر،وهو يحقق الصور الضوئية لكولن ولسن في ضياع في سوهو.وهو محمل بأغاني البيرتومرافيا.لكنه أحياناً كان يميل إلى التقنيات الهيجلية في بناء القصيدة التي لم يُفصح عن كنهها.
فسركون كان يؤكد أن الزاوية القائمة لم تكن نتاج التقاء الخط الأفقي بالقائم.ولا الشروق بالغروب ولا حتى كيف يجري أنه الفرات.بل كان يؤكد على حالة الألم والحنين وربما في بعض عبثيتة تجده يرسم لوحة المسافر العاشق الذي لابدَّ أن يصل إلى الحرية المطلقة فكان يختار الألم.كما أن الزمن لم يكن يحتويه بل كان يحول الزمن إلى وسيلة للعبور حث الضفاف والمراعي والكلأ...فقد عاش سركون خارج أسوار الزمن حيث لم تكن للجاذبية ولا لنسبة أنشتاين ذلك التأثير في حياته بل كان يعيش داخل الزمن الذي كان يبدعهُ...لكنهُ يجد أحيانا لابدَّ أن يتجول في الحديقة ويمر على عرافة أزمور فهو يرى أن التواصل مع أسلافه الآشوريين تكون عنده إشكالية الحرف ونتاجاته الفكرية فتراه يعجن خبزاً للحصادين في حقول جدته.وهو كالقابض على الجمر بيديه حيث لم يكن إلاَّ لصنع اللحظة الزمنية التي كانت توصله إلى الضفة الأخرى.بحيث كان يتوحد مع الآخر من خلال العدمية المنبثقة عن اللغة التي لم تكن تتسع لطموح تمرده.وكينونة المستحيل كانت تُعاني منه.حيث يؤكد لنا من خلال أغوار روحه أنه يتقمص شخصية البطل سركون فتراه يهيم بالقلاع فيرى فيها العظمة والجبروت وكم من قلعةٍ أوبرجٍ انتصر فيها سركون بولص على أعداءه لكن سقوط البرجين في منهاتن كانت بالنسبة لسركون الصدمة إذ أدرك أن المقارنة بعيدة ولكنها كانت تعنيه فأجداده العظماء أصحاب بلاد مابين النهرين يُهزمون وإلى الأبد لكنه كان يؤطر ذاك الوجع بحوار مع الآخر .ولكن سركون كان يتحين الفرصة للرد على سقوط العظمة البابلية الآشورية في القصيدة حيث كان يبشر بآلام أمته الخالدة.
أما أن سركون بولص لا يرى أن هناك من جديد فهذا ما تقوله قصيدته لاشيء منذ أدم.هو كلافوازيه لاشيء يفنى ولاشيء جديد تحت الشمس كما يقول صاحب الأمثال في التوراة.
بقي أن نقول في أول القراءات في قصائد سركون بولص الشاعر المسافر إلى الخلود...كان يمزج بين الحلم والحقيقة وبين الواقع والمجهول وكان يُجيد فن القصيدة المؤثرة وكان الحاكم الذي استطاع أن ينشر ثقافة الحب بين رعيته رغم اختلاف مذاهبهم وأجناسهم وأعراقهم ولغاتهم.من بلاد مابين النهرين إلى سان فرانسسكو ترى سركون بولص.
وإلى لقاء ....
ألمانيا.
23/1/2008
اسحق قومي
شاعر وأديب وباحث سوري مقيم في ألمانيا.
WWW.ishakalkomi.com

هناك تعليقان (2):

  1. تحية لك أيها اللبناني المنتشر في البلاد كالضوء. مودتي لك.
    هناك وردت كلمة همست له وردت على هذا الشكل رجو تصويبها أو نشر هذا التنبيه ولكم فائق التقدير.
    توجد الكلمة بين وبدء:::
    وربما همست له تلك الآلهة لتنذره أن بيروت هي المحطة التي ...

    ردحذف
  2. تحية لك أيها اللبناني المنتشر في البلاد كالضوء. مودتي لك.
    هناك وردت كلمة همست له وردت على هذا الشكل )(همسة بالتاء المربوطة وهي بالتاء المفتوحة لأنها فعل وليس اسما) أرجو تصويبها أو نشر هذا التنبيه ولكم فائق التقدير.
    توجد الكلمة بين وبدء:::
    وربما همست له تلك الآلهة لتنذره أن بيروت هي المحطة التي ...

    أخوكم اسحق قومي

    ردحذف