أتحف الشاعر سيف الدين ولائي فن الغناء العراقي بأروع الأغاني والأكثرها شهرة وعلى مدى عقود وعهود ومنذ أربعينيات القرن الماضي وحتى جريمة تهجيره من وطنه العراق من قبل مجرمي البعث الفاشست.
تمَّ تهجيره مع آلاف العراقيين المؤلّفة إلى إيران لكنه لم يُطِقْ هناك صبراً فآثر الهجرةَ إلى سوريا ليكون نزيلاً وجاراً للسيدة زينب ليس بعيداً عن العاصمة دمشق. عاش هناك زاهداً مكتفياً متشبثاً بأمل الرجوع للعراق والموت فيه وأنْ يكون مضجعه الأبدي تحت ثراه. لكنْ يأبى القدر الأعمى إلاّ أنْ يكونَ رحيله في سوريا وأنْ يكونَ مدفنه بجوار السيّدة زينب . رحل الفقيد ولم يرَ العراق ومنزله في الكاظمية الذي صادره البعثيون البُغاة القتلة.
شَهُرت أشعاره المُغناة بأصوات خيرة مطربي ومطربات العراق وأحببت منذُ أوائل شبابي بعضها حبّاً جمّاً دون أدنى معرفة بصاحب هذه الأشعار أذكرُ منها في أوائل وأواسط خمسينيات القرن الماضي : سمر سمار ياسمر بصوت رضا علي وأغنية يابة يابة شلون عيون عندك يابةْ غنتها نهاوند من ألحان رضا علي . وغنّت أشعاره الكثيرات من المطربات العراقيات وغير العراقيات مثل زهور حسين وعفيفة إسكندر ونرجس شوقي وفائزة أحمد ومَلك وراوية ولا يحضرني الكثير من الأسماء لأنني غبت عن العراق لسنينَ وعقود وفقدت اتصالي بالطرب العراقي.
سأُركّز في مقالي القصير هذا على أغنيتين فقط أحببتهما ولم أفارقهما طوال حياتي وحيثما وكيفما كنتُ هما أغنية [ جيرانكم يا اهل الدار / والجار حقّه عللجارْ ] ثم أغنية [ حركت الروح لمن فاركتهم ].
1ـ أغنية جيرانكم يا اهل الدار
نبوءة الفنان سيف الدين ولائي في هذه الأغنية :
في المقطع الأخير لهذه الأغنية نسمع شعر الفقيد بصوت فائزة أحمد [ أفضل منها بصوت ملحّنها رضا علي ] :
يا ظالم اللي عقبْ ظُلمهْ سِلمْ / يا اهل الدار
هيهات تنشفْ دمعتي / يا اهل الدارْ
إلاّ تبيّنْ حوبتي / يا اهل الدارْ
جيرانكم يا اهل الدارْ
...
من هو الظالم الذي عناه الفنان المظلوم سيف الدين ولائي ومن هم الجيران الذين خاطبهم وهل حفظ الجيران حقه ؟
ليس عسيراً على العراقيين الأسوياء معرفة أجوبة هذه الأسئلة. كشفهم تاريخ العراق منذ أوائل ستينيات القرن الماضي حتى سقوط صدام ونظام حكمه تحت بساطيل الغُزاة في نيسان من عام 2003 . الظالم معروف ومكشوف لكنَّ الجيران توزعوا بين ساكت عن الحق عاجز عن النطق والإحتجاج أو متورط في الظلم مُشارك القاتل في جريمته أو منتفع منها بالإستيلاء ومصادرة دور الجيران المُهجّرين.
هيهات تنشفْ دمعتي / إلاّ تبيّن حوبتي
وقد بانت الحوبة ونال الكثير من الظلّمَة والقتلة جزاءهم وعلى رأسهم القاتل والمجرم الأكبر صدام حسين وبعض أفراد عائلته وأقرب المقربين منه.
نعم يا ابن العراق الأصيل أيها الشاعر والفنان الخالد ، نعم، أردد معك ذات سؤالك : يا ظالم اللي عقب ظُلمهْ سِلمْ ؟
فليسمعْ العراقيون هذه الأغنية خاصة بصوت المطربة السورية الأصل فائزة أحمد.
2ـ أغنية حركت الروح لمنْ فارقتهمْ
أغلب الأغنيات التي لحّنها الفنان رضا علي لغيره من المطربات غنّاها بعدهن وهذا ما اقتضته العقود المبرمة بينه وبينهنَّ على ما يبدو. أي انه لا يتنازل عن حقه في أداء هذه الأغاني بصوته بعد تأديتهنَّ لها. باستثناء أغنية واحدة لم يغنها رضا علي أبداً على حد علمي هي أغنية ( حركت الروحْ لمن فارقتهم ) من شعر الخالد سيف الدين ولائي. لحّنها وغنّتها عفيفة إسكندر ونالت من الشهرة ما نالت حتى غنّاها في الآونة الأخيرة العديد من المغنين والمغنيات عراقيين وغير عراقيين حتى إني سمعتها بصوت سيّدة نرويجية أو سويدية لكنْ تبقى هذه الأغنية المتفردّة بصوت عفيفة إسكندر.
أحببتُ هذه الأغنية وجرّتني وأوقعتني في حبّها مقدّمتها شعراً ثم لحناً. فقد جمع شاعر الأغنية الأستاذ سيف الدين ولائي بحسّه الفني الغنائي العالي بين لفظتين متتاليتين تشتركان بحرفين هما الراء والحاء، أقصد : حركت الروح ... لكنّ الأكثر طرافةً في هذا الجمع هو تغيّر السياق الزمني لهذين الحرفين في كلمة الروح . إذ جاء حرف الراء سابقاً لحرف الحاء وهو مُخالف لسياقهما في كلمة حركت . يُذكّرني هذا بشعر شعبي معروف في العراق على ما أحسب يبدأ بعتاب غاية في الرقة والإنسانية يقول : وهنا يمنْ جنّا وجنّتْ /نشفعْ لَعِدْ غاياتهْ. المقصود الفعلين كُنّا ( جِنّا ) وكنت ( جِنِتْ ). أُصغي للكلمتين فيتناهى إلى سمعي صوت قرع الصنوج ( جمبارات ) الغجر ... جنّا وجنّتْ ... جن جن جن جن. حرف الجيم هنا هو الصوت الإنكليزي
CH
أُضيف أخيراً أنَّ الشاعر لم يقل قتلت الروح لمّنْ فارقتهم كما هو المألوف في العراق ( كتلتْ روحي ) بل فضّل عليه قوله حرقت الروح وهو قول أكثر بلاغةً وأقرب للنفس وأعمق أثراً وتلكم خصائص لا يمتلكها إلاّ المبدعون.
رغم ولعي وتولّعي بهذه الأغنية ومنذ أواخر خمسينيات القرن الماضي لي على بعض شعرها ملاحظة إذْ أني أحسب في هذا البعض ضعفاً أو تناقضاً وأعجب كيف فات على فطنة وموهبة الفنان الفقيد سيف الدين ولائي. أقصد البيت الذي يقول فيه
[[ أودّعهم وعُذّالي يشوفوني / إجو لا للشماتة ولا يلوموني
إجو بفراق أحبابي يسلّوني / عذولي صار لي سلوة بجفاهم .. ]]
أجلْ، هنا إعتراضي وصعوبة قبولي بمنطق ومنطوق كلمات هذه الأسطر لأني أرى فيها تناقضات منها كيف يكون العاذل مُسليّاً ومواسيّاً ؟
العاذل يلومُ ويشمت ولا يُخفف مُصيبة المُصاب كما نعلم وكما تقول لنا لغتنا فهل أنا مُخطئ في فهمي لهذه السطور ؟ من يُجيب ؟
للفنان الخالد نجلٌ في السويد هو الأستاذ جاسم سيف الدين ولائي وهو خير من يفهم شعر والده وهو كذلك شاعر كأبيه لذا أرجو منه ـ إنْ قرأ كلمتي هذه ـ أنْ يُلقي بعض الضوء على هذا اللَبَس في كلمات هذه الأغنية التي أبدع رضا علي في صياغة لحنها.
هناك بالطبع أغانْ أخرى كثيرة كتب كلماتها الفنان الراحل المرحوم سيف الدين ولائي لكني ذكرت فقط الأغاني التي أثّرتْ فيَّ ووجدت لها عندي أصداء خاصة لأنها جاءت في ظروف معيّنة كنتُ فيها مستعداً للتجاوب مع كلمات هذه الأغاني ولتسلسل الزمن أحكام على البشر.
كلمة أخيرة لا بدَّ من قولها : هناك في سفر الأغاني العراقية أغنية معروفة غنّاها ياس خضر في كلماتها تفرّد وإبداع وقد كتبها شاعرها فجعلها برأس بدأ به قصيدته وأنهاها بخاتمة فيها فجيعة فهي قصة كاملة في قصيدة واحدة. أعني قصيدة " المكيّر : مشيتْ وياه للمكير أودعّنهْ...
ثم أنهاها نهاية تنضح بالدموع الحارة جرّاء فراق الحبيب : ورد للناصرية ردودْ / مخنوق بألف عَبرةْ.
نعم يا عراق ! ورد للناصرية ردود مخنوك بألف عبرة !
في ظني أنَّ شاعرها هو زامل سعيد فتّاح أو عريان السيّد خلف !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق