مسؤولية قيامة لبنان مسؤوليتنا/ الدكتور فيليب سالم

أنا واحدٌ منهم. هؤلاء اللبنانيون المنتشرون في العالم. تراهم اينما ذهبت في الارض. تعرفهم من وجوههم. وعيونهم مسمرة الى أرض في الشرق. ارض مصلوبة هناك. مصلوبة بين البحر وسوريا واسرائيل. وحده البحر يعانقها ويحبها. الارض مصلوبة في الجغرافيا، أما الوطن فهو مصلوب على خشبة آلامه. لقد صلبه اهله قبل ان يصلبه الغرباء. يقتلونه كل يوم ولكنه يرفض ان يموت. هؤلاء اللبنانيون المنتشرون في جميع بقاع الأرض هم "مملكة" لبنان التي لا تغيب عنها الشمس. لقد عملوا وتعبوا فأغنوا حضارات الدول المضيفة، كما أغنوا حضارات العالم. كل في عمله، فليس هناك بينهم متسول واحد يقف على قارعة طريق. قال جبران وهو يقف على مشارف مدينة نيويورك، المدينة التي احبته: "ايتها المدينة، نحن لسنا هنا لنأخذ منك فقط، بل لنعطيك ايضا. لقد جئنا لنشارك في صنع مستقبلك". وكان هؤلاء اللبنانيون اوفياء للبلاد التي عانقتهم واحتضنتهم فأحبهم اهلها. جاء في خطاب احد رؤساء الجمهورية في المكسيك: "ان لم يكن لك صديق من أصل لبناني ففتش عن واحد بينهم". هذا الحضور اللبناني المميز في العالم، هو النفط الحقيقي للبنان. هذا النفط هو اهم بكثير من ذلك النفط الموجود في اعماق البحر. ان عظمة لبنان في التاريخ وفي العالم لم تكن يوما في موارده الطبيعية، بل كانت دائماً ولا تزال في موارده الانسانية. كانت ولا تزال في انسانه.
يعقد غدا في بيروت وبدعوة من وزارة الخارجية والمغتربين مؤتمر عن "الاغتراب" اللبناني "كطاقة" كبيرة يمكن تفعيلها في سبيل خدمة لبنان وانمائه. ندوات ومؤتمرات كثيرة كانت قد عقدت في الماضي، الا ان معظمها لم يعبر حدود الخطابة والشعارات والفولكلور فضاعت في ذاكرة النسيان. وحتى لا ينتهي هذا المؤتمر مثل غيره من المؤتمرات نقترح ان يعالج القضايا المحددة الآتية:
أولا: توحيد الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم. فكما هو لبنان المقيم مشرذما بين من هم في 8 آذار ومن هم في 14 آذار ومن هم بين الاثنين، كذلك الجامعة فهي مشرذمة بين ثلاثة رؤساء. لذا تراجع دورها واصبحت عاجزة عن القيام بمهماتها الاساسية. وكنت قد شاركت شخصيا في لجنة استشارية بهدف توحيد الجامعة، الا ان قرارات هذه اللجنة اصطدمت بحقيقة الدولة، بحقيقة عدم وجود الدولة، وبعدم القدرة على اتخاذ القرار الجريء.
ثانيا: انشاء وزارة مستقلة عن وزارة الخارجية ترعى شؤون المنتشرين وتدعى “وزارة الانتشار اللبناني”. فكما هي وزارة النفط أهم وزارة في السعودية. ووزارة الفنون اهم وزارة في ايطاليا، فكذلك “وزارة الانتشار اللبناني” ستكون بمثابة اهم وزارة في الدولة اللبنانية. فبينما ترعى الوزارات الاخرى شؤون اللبنانيين المقيمين وعددهم نحو أربعة ملايين، ترعى الوزارة الجديدة شؤون اللبنانيين المنتشرين وعددهم نحو ستة عشر مليونا.
ثالثا: منح الجنسية اللبنانية لكل من يستحقها من المنتشرين، واشراك المنتشرين في العمل السياسي داخل لبنان وخارجه. وأقول “خارجه” لأن للمنتشرين دورا كبيرا وفاعلا في الخارج لدعم لبنان ودعم حقوقه لدى الدول المضيفة ولدى المؤسسات الدولية والهيئات العالمية.
رابعا: اشراك المنتشرين في الحياة اللبنانية بما هو أبعد من السياسة، وبناء جسور تواصل في العلم والطب والهندسة والادب والفن والقانون والاقتصاد. فلبنان كيان حضاري قبل ان يكون كيانا سياسيا. والعالم يعرف لبنان من خلال حضارته لا من خلال دولته. والسر هنا انه قد يكون للعمل السياسي للمنتشرين حواجز يصعب القفز فوقها. الا انه في العمل الحضاري ليست هناك حواجز تحول دونه. والسر الاخر انه ليس هناك من وطن بحجمه الصغير يمتلك الموارد الحضارية التي يمتلكها لبنان.
خامسا: الحفاظ على اللغة والتراث. ثلاثون سنة وانا أعيش خارج لبنان. لقد تعلمت انه لا يمكنك التواصل مع الارض والوطن من دون الحفاظ على التراث. وللحفاظ على التراث يجب الحفاظ على اللغة. من دون اللغة يندثر التراث. فاللغة لا تحمل معها الكلمة بقدر ما تحمل معها الحضارة. والذين هاجروا يعرفون ان المهاجر قد يمر بهجرتين: الهجرة الاولى عندما يبتعد عن ارضه. والهجرة الثانية عندما يبتعد عن اولاده واحفاده. فان لم تحافظ على التراث والحضارة يصبح الأولاد ابناء حضارة اخرى، فتكبر الهوة بينهم وبين اهلهم، وتاليا تزول العلاقة بينهم وبين الوطن الأم. من هنا يجب ان يطالب هذا المؤتمر بتأسيس مدارس في المهاجر لتعليم اللغة العربية وتعليم التراث. هذا اذا اردنا ان يحيا لبنان في العالم وأن يحيا في المستقبل.
غدا يستضيف لبنان بعضا من أبنائه المنتشرين في العالم في مؤتمر يبحث في شؤونهم. فماذا يا ترى سيرون؟ سيرون وطناً ممزقا ودولة لا رئيس لها. وسيرون “تجار الهيكل” يقهقهون، و”يعيثون في الارض فسادا”. ولو بُعث جبران حياً وقدم معهم لردّد للمرة الالف: “لكم لبنانكم ولي لبناني”. هذا هو “لبنانكم” اما لبنان جبران فلم يأت بعد.
منذ مئة عام وهذا الوطن الصغير يتأرجح بين الموت والحياة. وها هو اليوم في قبضة ازمة مصيرية ، لا بل وجودية. وان كان لبنان دائما في حاجة الى أولاده المنتشرين في العالم، فهو يحتاج اليهم اليوم اكثر من اي يوم مضى. فالحقيقة المؤلمة هي ان مسؤولية قيامة لبنان هي مسؤوليتنا نحن اللبنانيين مقيمين ومنتشرين. مسؤوليتنا نحن وحدنا لا غيرنا. غيرنا له مصالحه ومصالحه غير مصالحنا. غيرنا لا يحبه بقدر ما نحبه نحن. والحقيقة المؤلمة الاخرى هي انه اذا اردنا وتعالينا عن صغائرنا فنحن قادرون على انتشاله من الجحيم.
سنظل نحبه حتى الرمق الاخير. سنظل نحبه حتى لا يموت. سنظل نحبه حتى يقوم من موته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق