الرقص على وتر العاطفة وعاصفة العقل التي تطول وتقصر في سيسولوجية الشاعر عثمان حسين/ هدلا القصار

بما أننا نؤمن أن جميع ما يقوم به الفرد على وجه الأرض يحمل حلما ورسالة تعبر عن رغبة تطوير الذات وتغذية المعرفة من ثقافة الحياة ... 
وهذا ما كنا نبحث عنه دون هدف في جلسة حوار أدبي جمعتني ببعض الزملاء الشعراء والكتاب في جالري غزة الثقافي، حيث استمعتما بقراءة بعض من نصوص الشاعر الفلسطيني عثمان حسين، الذي ذكرني أو أنني لم أنسى إهدائه لي ديوانه الأخير( كأنني أدحرج المجرات ) لأعيد قراءة ما بداخل هذا الشاعر الساكن/ الهادئ/ السارح في ملكوت التأمل... بسعيه للتعبير عن القيم الإنسانية، والوجودية، في قضايا مجتمعه المرتبط بقضاياه الحسية، مما شكل فراداته الشعورية، والابتكار في تنوع الأسلوب والمضمون ... من خلال تقنيات تصوراته الفلسفية الإبداعية  في تجربته التي خرج منها بما يقارب خمسة دواوين لا تخلو من العمق أنساني والاجتماعي والسياسي ... 

بيد أنني ما زلت أتأمل كلمات الشاعر وأعيد بذاكرتي إلى ما قرأته سابقا، فما كان من فضولنا سوى وضع مقارنة بين قديمة وجديدة بالتعاون مع مكتبة اتحاد الكتاب الفلسطيني. 
لنفتح باب البداية المحملة بمنجل النقد وسكين الفكر، ولنبحر في عالم شاعر علق صهيله في شريان القلم، دون أن يدرك إن عين الناقد نصف نائمة ونصف متيقظة، تراقب كيف يموت الشاعر ويحيى على أوراق الذات التي منحته الحب والألم، ومنحنيات الفكرة والموت والحياة، وما يعانيه في ظل الاحتلال في تجربته الثانية التي تحمل عنوان " البحار يعتذر عن الغرق " 
المحمل بمعانات متوضئة بمطر البوح العالق في حلق الشاعر الذي أرغم صوره الشاعرية على الانحناء  والنشوة الحاضرة في تجربة جعلته كغزالة تسرح في ملكوت المشاعر الإنسانية والوجدانية.. تسكن تسعة وثلاثون قصيدة، تناولناها بإسهاب فبل أن نغرق في محطات تجربته الأخيرة " وكأني أدحرج المجرات " لنؤكد انزحاياته الصورية التي تبتعد وتقترب من نافذة تطل على تسجيل لحظات الشاعر الواقعة  الدلالة المعني، في العبارات اللفظية، والتراكيب اللغوية في سياقات مختلفة تسير بين الواقع المرئي، وبين المفردات والمعنى، وبين الصور والمغذى، في  تنقله إلى تصوير حالات أخرى اشد قساوة وحزنا .

هذا ما استنتجتاه من ديوان يرتدي نصف حداد لبحار يعتذر عن الغرق " لكن لم يكن هذا البحار سوى الشاعر عثمان حسين، الذي استيقظ في نهاية المطاف لان يعتذر عن الغرق من عالم الحزن  .
لذا حاول الشاعر أن يحي خيالات الموت وسوداوية الرؤى، التي أفرغها على أوراق أبحرت بقصائد تحمل عناوين دالة على عتمة الشاعر، إلا وهي " البلاد التي رتبت ظلها" و الحياة / و/قصائد في متناول الوجع / تعب/ مشروع وطن / وطن مشروع/ سادية / استفزاز/ احتمالات../ أنا سيد الأمنيات/ الخريف الذي جاء قبل المجيء/ البحار يعتذر عن الغرق/ حالة / انهزامي ../ الخامسة / رباعية البقاء/ فاتحة/ نرجسية/ انتقام/ خاتمة / خماسية الوصول إلى جلفار/ توحد/ انكسار/ ارتطام/ اشتعال/ جلفار/ كتابات/ عقوبة / اشتهاء/ مجازفة/(( "قصيدة بأربعة أقدام" الأولى...، الثانية، الثالثة، الرابعة))/ خواتم/ بثينة/ و / ميسون . 

كغيمات استدرجتنا هذه العناوين لنعري ركاب القصائد، ونفضح ما يجول في قلب شاعر يتجول في زوايا الرؤية والألم، ليسبح في تجليات أمواجا من صور وضعها في أسطو أفرغت كل ما لديه من سادية الرؤى التي استنزفت مخيلة عراف جالت به الأقدار، إلى أن فتحت له رؤية ما خلف "سوسيولوجيا" الظواهر الإنسانية والاجتماعية التي لم تبتعد بعيدا عن المجتمع الغزي الذي ما زال الاحتلال يملك نجمته وغيرها من المجرات التي تكلم عنها الشاعر عثمان، في ديوانه ( كأني أدحرج المجرات) 

وبما أننا نحاول أن نختصر تصفيف النصوص، سنضع تجربة الشاعرة الثانية بعد ديوانه الأول ( رفح) لأول المشترك، كنموذج لتقنيات مخيلة الشاعر التي زرعها بصور تنحني لقصيدة " البلاد التي رتبت ظلها" 

عائد هكذا ....
والمكان يجرجر أنحاءه
السماء على عاتقي 
منذ ألف وخمسين عمراً
والمسف الذي راود الصبح 
وما زال يعوي
ويمضي معي في شتاتي
كأني تخلقت في ريئتيه
على مسمع من حدود المساء
كأني أعود كما شاء لي أن أعود 
بكل صدق وألم وغموض عبر الشاعر من خلال هذا النص عن بياض الحلم وعتمة الواقع في ظل خيال أعاده في نهاية المطاف إلى مساء شاء له أن يعود .
وهكذا جعلنا الشاعر ان نعيش ارتباطه بالحلم الذي تخطى الألم من خلال انخراطه بالعاطفة والعشق والموت والهروب من مخلفات الحزن، وما بينهم من بينات الابتكار والتوليد، وما خفية في الجزء العميق من رؤية الشاعر وما تحتاجه حدود كتابة (البحار يعتذر عن الغرق) وما يحمله من صور تطارد الأخرى، إلى أن يترك الشاعر أثرا له في كل قصيدة، سجل فيه ذاتيته بكل صدق، رغم فيضان الحزن الذي ماج في أرواق تضيء لنا رؤية جديدة من لحظات التأمل المنتقلة من رحم الجنين إلى الحياة ... 
انه شاعر يملك أسلوب ينبع من فكر عاطفي مهما تواضعت منزلته الإنسانية والوجودية . 
حيث يذهب بنا الشاعر إلى نص آخر بعنوان " كما يموت العازفون" 
ماذا ستخسر 
لو أخذت من الجريمة
 لحظة دموية 
وسفكت كوكبها سدى 
ماذا ستخسر
 لو تحاصر حكمتي 
وتفر حين اشاغل الوجع 
المقرفص في ثغاء الناي 
غير حمامة مكية
حملت مشيمتها البغية 
واستراحت من ضجيج القلب 
ماذا لو ينام الصبح فيجسد النهار 
وتتقيني كل فجر خائب ماذا ستخر 
غير انك لن تموت كما يموت العازفون 
الله يا وطني 
وطن الله في أوقاته 
والناس يكترثون بالناس 
الذين يلطخون حنينهم والزهور مصيدة 
****
جميعنا نعلم بالمثال القائل " يموت الزمار وأصابعه تحرك الأوتار دون وتر " أما شاعرنا في هذا النص طرح تساؤلات حول وجود الإنسان الذي يموت متألما إلى أن تذهب روحه إلى كفن الأقدار، لكن يبقى الألم متوارث عبر الأجيال ...
وفي نص آخر بعنوان " الحياة يعود الشاعر مرة أخرى ليذكرنا بما تاه منه فيما سبق من لغز "الحياة" التي انتهت حسب تقسيمه الشاعر لهذا النص الذي نثر على شكل ومضات معنونة بخمسة أحرف إلا وهي : ( تبدأ بالاف / ولام /و/ميم /و تنتهي ب / التا )
فلو جمعنا أحرف مقطوعات هذه القصيدة التي قسم فيها الحياة إلى خمسة احرف!! تجمع كلمة "الموت " فإلى أي حدا كان الشاعر عثمان حسين يعاني من سوداويات الحياة القائمة منذ تاريخ 1987 ، حسب تاريخ كتابة " نصوص البحار يعتذر عن الغرق، التي امتدت حتى العام 1991 ، فهل نعذر تكاثر الحزن عند الشاعر عثمان حسين، في مثل هذا الإبداع الذي حول صور الحياة اللامرئية إلى ضوء خرج منها بمخيلة كادت أن تتلبس الشاعر لولا قفز إلى تدوين تجارب أخرى متنوعة منها : (من سيقطع رأس البحر) (له أنتِ) و (الأشياء متروكة إلى الزرقة) وغيره من العناوين إلى أن أوصلنا إلى سريالية ديوانه الأخير( وكأنني أدحرج المجرات( كان الشاعر أراد يقص لنا ما بداخل كل نص من خلال عناوين أكثر انشراحا .... يبدوا ضوء الشاعر سار باتجاه قريحة أكثر انفتاحا حيث الألوان تظهر أكثر ضوءا .
هكذا قرانا أوراق الشاعر من قبيل السياحة حيث نقلتنا الدهشة والانفعال السريع إلى نصوص تنبثق من دائرة السيسولوجيا المكثفة بالصور والأفكار الممتلئة بالأصوات والألوان والروائح ... وما يعبر ذاكرته الدافئة لتشمل فضائه الذي ما زال يبحر ويبحر فوق أمواج تسجل هدير الغرق بأصابع تلمع بفضة الصور وذهب الأخيلة في أجندة شاعر يزدحم بإحزان العقل وقبور الرغبات واقتحامها الخفي والمجهول .
فيما تعرش مجرات الشاعر في  أوراق محملة بالألم، والمعاناة، والحيرة، والتساؤلات، وبداية النهايات، وغيرهم من الأسماء كـ "( أشرقت كفراشة مسها اللهب / نكوص/ أجهل ما اريد /قوسقزح/قول/ ألم / سؤال قديم/ السارق/الموت عادة مملة بأنياب/ رثاء/على غير العادة/ في حالتي / كأني أدحرج المجرات/ يوم عادي ) 
جميعها نصوص مملوءة بصور تلاحق عجلات الزمن وأنفاس فجرا قد يأتي وقد يذهب دون ضوء ... ليتكئ من جديد على صراط الموقف والموهبة بما أنها سيدة الإبداع . من حيث المضمون الثقافي .

إذا هذا هو الشاعر عثمان حسين، الطائر الجميل الذي صاحب كيانه، كما لو انه يشبه لوحات الرسم غير المنقوشة، لنرسم بأنفسنا حالاته المستلقية على سطور وضعت تحت مستوى الضوء، لتبقى كالإيقاع النفسي وشهقة الزفير في كلمات تشعل لهب الروح المسكونة في قلم يسجل الهم الوطني والنفسي والاجتماعي، كلما داهمته رؤية تعانق الحروف التي تنبض " بسيسيولوجية" العمق والإدراك الحسي والباطني...
وكأن الأفق تدحرج به حين أبحر في سماء الوجد، وابتهالات عالم لا يمر تحت سمائه، حيث ملائكة الروح تسير على ضفاف أفق يقترب من منجل لذة الألم الذي جعل الشاعر في نهاية المطاف أن يعتذر من الغرق، ليبحث في المجرات عن الجانب الروحي والإنساني في العشق والحب وما بينهما من ألم وحزن ورثاء، وما أدركتها لغة النفس من جماليات صور تعتمد على التأويل والتركيز والتحريض الذي يمدنا بالقيم الإنسانية كما جاء تأملنا في دواوين قصائده المتعددة الاتجاهات والمنابر لإنتاجه الفكري، لنرى انعكاس الحياة على نفس الشاعر، حيث يقتحم الخفي والمجهول والظاهر، ليجمع تناقضاته وانسلابه التأملي بالرؤى الصوفية في صور تخلق ذاته من عيوب التناقضات الإنسانية بحثا عن الأمان في ضبابية الحياة . 
مما أستحضرنا أغنيات شكسبير الوجدانية، حيث نزعات القلب والعقل تأتي من نهر السريرة, التي تتحول إلى صور تطارد الأخرى، لتبدو كالموسيقى تدخل الإذن قبل العين، التي لم تعد تقتصر على التأملات الفلسفية فقط  .

فماذا نقول لشاعر أراد الإبحار في حروف الزهد وعناق الورق بما لذا وطاب من إبداعات تعيد ترتيب أوراق الشاعر في " كأنني أدحرج المجرات " الذي بد لنا كسعال كاهن متعبا من نصف أنثى معتمة، ونصف عالم مشتت بحالات تكاد أن تكون فوق طبيعية الإنسان المتجلية في العمق الشعوري . 
ربما ماج الشاعر بأصابع خفية، وربما طاوعته حروف العلة بأصواتها المتحركة كلهاث هادئ تنتصب في روح الشاعر كزلزلة تصب في أناء تولد فرشات لذة الشعر التي أرغمت الشاعر الهروب من السوداوية إلى الحب والعاطفية ومفرداتها،  والغضب وعنفوانه، والمعرفة ومتدرجاتها، لنكتشف الوجه الآخر للشاعر عثمان حسين، من خلال قصائده المخصبة بشاعرية النص ونثريات الحداثة، في محاورة إستراتيجية الذات وآلياتها ....
مرة أخرى نسال ماذا لو رف النرد تحت أقدام خيال شاعر أدرك تماما معنى كاس قهوته، وما يحمله من حواس في قصائد تبحث عن أناء الشاعر في صحراء تتسع لجيوش نصوصه ونكهتهم المختلفة، حيث يطلق سهامه على أذان تلتقط ما يدور من رؤى الشاعر عثمان حسين، الذي لا تهجره صحوة ولا نوم، وكأنه يبحث عن الحب في ارض ملتهبة لا يمارس الحب فيها حيث يطلق خيالاته بأسئلة مشرعة يمتزج فيها الفهم بالشعور المتكئ على أفق يحمل مطر الأمل في مجرات تشمل الشمس والأرض والقمر والكواكب ومتفرعاتها .... 
ليدخل من جديد الهم الإنساني المتغلغل في شذراته اللاشعورية، ولنسمع دقات قلب شاعر يقودنا إلى تذكر بني آدم المكون من فرحا وحزن في مشاعر تتغذى على عالم الشعر والشعور الذي يضع الحكمة في مكان العلم.. 
حيث يلجأ الشاعر عثمان حسين إلى منظور الشعر القادر على أن يجمع حاجات مشاعرنا في الشعر الذي يمنحنا مفتاحا نكتشف من خلاله موائد إنسانيتنا التي نضعها في نصوص رسائلنا التي تنصت للمعنى الذي نواجه فيها انكساراتنا وأفراحنا وما وراء أفق الشاعر من مخيلة ورؤى لذا تدرك غصة الشاعر الفلسطيني عثمان حسين وما يجول في جوف مخيلته الصلبة .....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق