هكذا عرفت بدوي الحاج "ولو بعد حين!"/ سركيس كرم

"ما يشبهني هو صوت الريح...في يوم ممطر عنيف!.. يَصفُرُ عابراً للنفوس..للوجوه.. يرنو الى مقارعة الخلود.. هو ذاك الصدى العميق..هو المطر والريح"... وما من وصف يعبّر بدقة عن حقيقة الذات وخفاياها كذلك الذي ينبثق من أعماقها .. وصف يفجّر بركان أفكاره وهو في طريقه الى إكتشاف ما إختزنته الأيام الهاربة من قيود العمر ومحدوديته.. ينده من على كل مفترق فيرد صدى الكلمات المستلقي منهكاً في وديان الذاكرة.. فيعود الشاعر ليدوّن حروفه وكأنه يتلقى درسه الأول تحت سنديانة نفسه، محتمياً بإنفعالاته وتفاعلاته .. يفعل ذلك وكأنه يكتشف مع كل قصيدة تعابير مستترة تشبه ملامح نقشتها أزاميل الأزمنة وصقلتها جماليات الأمكنة وغموضها.. هكذا تبدأ رحلة بدوي الحاج في فضاء التحدي حيث لا تجروء الريح على معاكسته.. ولا حتى على العبث بحرف من ثورته إلى أن تطل من يخاطبها قائلاً: "..يشدني البعد إليك.. الى الجنوح من جديد... الى هوس لقياك.. الى كلام الشعر.. ومقعد الجنون العتيق..!" (ص 17) .. فإذا " مقعد الجنون العتيق" أشد تأثيراً في ذكرياته من كل الرياح والعواصف.
هي المرأة حاضرة بما تتمتع به من أنوثة وشقاوة وسحر في باكورة نتاجه الفكري "ولو بعد حين!".. تنتقي الصفحات وتختال دلالاً وعشقاً.. فيما يستسلم هو في مراحل كثيرة لرغبتها وسحرها وعطرها "أنتمي إليك.. فأن في الورد عطر وفي الوريد مطر.. ضاق بنبضي العشق حتى سكنت بين عينيّ والبصر..!" (ص 33). وبين الصلابة والرجولة من جهة وسحر الحبيبة من جهة ثانية يتأرجح بدوي متعلقاً بحبال النشوة، فتارة يحلق في أحلام تختزل الزمان والواقع، وطوراً يكاد لا يبتعد قيد أنملة في إنطلاقة اللحظة حتى يقر أماها "أترك اليقظة .. وأعود إليك ولو بعد حين!" (ص37) . كم هي قديرة .. كم هي بارعة حتى في اللعب والعبث وإقتناص الحنين في أوج عاصفة الغضب.. فحتى بدوي المتمرد يصرّح بملء إرادته " أفتش عنك.. عن رسمك.. عن حبك في مدينة العشق قبل أن يضيع!" (ص49).. ومن أين كانت الحيرة ستقبض على المشاعر لولا شقاوة تلك الفاتنة التي تتحكم بكل قواعد اللعبة ولو أدى ذلك الى خسارة المدينة والعشق معاً.. هي تفعل ما تشاء وليس باليد حيلة.. 
تستكين الريح بعدما بلغ الشاعر حالة يغمرها الهيام بعيدة كل البعد عن أي نوع من أنواع القساوة، فيناشدها "أيتها المرأة.. لي قلب واحد عاث به الشوق دمارا.." (ص75) .. من هنا ولا شعورياً يجرّد نفسه من سلاحه الوحيد فيهديها القلم الذي بحوزته مردداً ما فائدة القلم من دونها، من دون عطرها وعيونها ومفاتنها.. أليست هي من يوفر المداد الذي بواسطته ترتسم الكلمات المعبّرة عن الحب والحياة.. كما أنه ليس هنالك من لذة خارج إطار "مدينة العشق" وسيدتها الأولى!.. 
"ولو بعد حين!" يبرز بدوي الحاج الثائر أيضاً في مواقف ملتزمة بالدفاع عن الحق والوطن والأنسان.. فيحملنا من عالم الجمال الرائع بالرغم من شقاوته الى أرض الواقع بكل ما فيها من مآس وكوارث وتخاذل مع ما يقابل ذلك من أمل وعزيمة وبطولة..  يهتف بأعلى حروفه وبأغلى كلماته  "للمجد تاريخ حُفر...سطّرت عناوينه المقاومة.. دم الشهادة انسكب..أبطال رسمت فصول الملحمة..أرضنا، عرضنا..لا مساومة!!" (ص85) .. هنا تهّب عاصفة العنفوان التي لا تهادن ولا تساوم مستذكرة مجد الأيام التي تمكنّت فيها العين من كسر مخرز كبرياء المحتل وعنجهيته.. وما من متخاذل يسلم من عاصفة قلم بات بمثابة حسام يفتت العتمة في ليل العروبة الحزين.. قلم ينتفض كمارد بوجه الرتابة صارخاً ليوقظ الأمة "ناديت القدس وفلسطينا..سألتها عن ماضينا..قالت: نحن أمة تباهت بالهزيمة وبنشوة تباكينا..!" (ص88).. يا ليت الأمة بقيت على "نشوة تباكينا" يا بدوي وما سقطت في قعر الجهل المزمن على أيدي من وصفتهم أنت وعن حق "بالملاعين"، فاقدة أي أمل بمواكبة التطور، حاملة سيف القتل لتحاول أن تجر فيه العالم الى القعر معها في رحلة الشؤم السوداء عوضاً من ان تحاول الصعود من جديد نحو النور.. وها غزة "تلك الدماء المطروشة على الحائط..تسرح على خدود الثكالى والأرامل.. تزحف فوق التراب..ترويه!" (ص89) تشهد على هزيمة الأمة وتعاستها.
لا ينسى بدوي الحاج جذوره وإذا بأرداتا (أردة) مسقط رأس الشاعر حاضرة بذلك الدفء الذي لا توفرّه إلا والدة يظل "صدى صوتها يملأ المكان" .. فكم أنت محظوظة بأبنك يا جارتنا الغالية أردة لأنه في صلب وجدانه ما زال يعيش في الحنين الى أهلك، الى ملاعب الطفولة، الى أرض الرجال الرجال: "صدى بلدتي يعبر الزمان" (ص132). 
في ديوان "ولو بعد حين" تعرّفت بعمق على بدوي الحاج الشاعر، الثائر، المشاكس، العاشق، الملتزم بقضايا الوطن والأنسان، الحالم بغد يحتضن رؤيته حيث تصبح الحرية حقيقة والمحبة رفيقة تجتاح برقيها القلوب وبتسامحها المشاعر وبحنانها العقول.. "ولو بعد حين" ديوان يعكس في مضامينه أخلاقيات الكاتب وطموحاته وسعيه الدؤوب للإرتقاء نحو الإبداع الذي لا يرتكز إلا على إنسانية الأنسان وإرادة الحياة المفعمة بالنضوج الفكري والعدل والسلام والحب .. 
بدوي الحاج لقد عرفتك الآن جيداً وانت من أزدانت قصيدته "ما يشبهني" بتعابير تختصر سيرة مفكر يعشق الحرية مثلما يعشق المرأة: "ما يشبهني هو العصفور الطليق ينشد حرا.. لحن التغاريد! يرفرف وحيداً.. فيرسم الطريق.. ما يشبهني هو عناد الشمس.. وخجلها عند المغيب!".. 
بدوي الحاج هكذاعرفتك أكثر "ولو بعد حين!"..
("ولو بعد حين!" ديوان للشاعر بدوي الحاج من 160 صفحة سيتم إطلاقه في سيدني في 28 شباط 2015)
سركيس كرم - سيدني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق