الفنّانة المبدعة جاهدة وهبة تتألَّقُ في إنشادِ الغناء الأصيل/ صبري يوسف


درسَت العزف على آلة العود والبيانو، ودرسَت الموسيقى على مدى تسع سنوات، كما درسَت الغناء الأوبرالي والإنشاد البيزنطي والسّرياني، ودرست تجويد القرآن، إضافة إلى أنّها تحمل إجازة في علم النّفس ودبلوم في الدّرسات العليا في المسرح، وشاركت في المسرح الغنائي في العديد من الأعمال، فقد اشتغلت مع المخرج العراقي الكبير جواد الأسدي وغيره من مخرجي المسرح الكبار، وغنَّت باللُّغة العربيّة، والسّريانيّة، والأمازيغيّة والألمانيّة، والإسبانيّة والفرنسيّة .. بإحساسٍ عالٍ، وقدّمت صفوةَ الجَّمال والبهاء والإبداع الخلّاق خلال كلِّ أعمالها الغنائيّة والمسرحيّة الرّاقية. 
***
أدهشتني الفنّانة جاهدة وهبة فور استماعي لأوّل أغنية لها، شغفٌ عميق قادني للتوقّف مليَّاً عند تجربتها الفريدة في الغناء، حيث يجد المتابع بصمة الأصالة دامغة بوضوح في مسيرتها الفنّيّة من خلال الإرتقاء في بهاءِ النَّصِّ الأصيل نحو أرقى مرافئ الإبداع، حيث شقَّت طريقها في مسالك شاهقة وكوَّنت لنفسها خصوصيّة متميّزة في موسيقاها وألحانها الموغلة في روحانيّة صوفيّة مبهجة للروح والقلب. 
عندما سمعتُ صوتها المتفرِّد وهو ينساب بفرحٍ عميق إلى مسامعي، تولّد عندي إحساس مبهج فأنعشَ طلاسم غربتي المفتوحة على رحابِ الحياة، وبدا لي صوتها كأنّه منبعث من ربوعِ أحلامٍ غابرة، وأيقظَتْ في داخلي رغباتٍ مكبوتة وتوّاقة لسماعِ الطَّرب الأصيل وترنيم التّراتيل والمزامير والإنشادِ الصّوفي المنعش لتجلِّيات الرّوح. إستمعتُ إلى عذوبة صوتها وحسّها وتجلِّيات روحها المرنّمة برهافةٍ متناهية، كأنّها تناجي أرواحنا العطشى لهكذا نوع من الغناءِ الرّاقي! 
غمرتني سعادة عميقة وأنا أسمع أغانيها وآسرتني رهافتها وتجلِّيات أدائها، كأنّي كنتُ منذ زمنٍ بعيد في حالةِ إنتظارٍ لهكذا دغدغات لمرافئ الرّوح روحي. إنسابَ صوتها بكلِّ انتعاشٍ في أعماقي، متوغِّلاً بعذوبةٍ شفيفة بين مزارات قلبٍ مجنّحٍ نحو دروبِ الفرح والحنين إلى أعذب الألحان. هدهدَتْ بعبورهِا الدَّافئ طفولةً مسترخيةً في مرافئ النّسيان، وبلسَمَتْ آهاتِ طفولةٍ مضمَّخة بأصالةٍ موشَّحة ببعضِ وخزاتِ الأنين، شامخةً بصفاءِ صوتِها وألحانِها نحوَ هلالاتٍ متعانقة مع شذى بخورٍ منبعثة من قداسةِ أديرة قديمة، كأنّها تنشدُ خلاصةَ ألحانٍ تنامَتْ بين عوالمها البهيجة حفاوةَ النَّدى المتناثر على إخضرارِ وريقات الحنطة. 
تنشدُ الشِّعرَ بكلِّ تلاوينه الملامسة لتجلّياتِ روحٍ مقمّطة بوميض الإنبهار، تعكس لنا إنسانيّتها بأصفى ألقها، وتدغدغُ بمهارةٍ عالية الحنينَ الغافي في ثنايا الذَّاكرة البعيدة، كأنّها تحاكي عبر أدائها الغنائي، قصيدةً حالمةً خلال انبعاث لحظات شموخها في بوحِ الإنشاد. لأنَّ القصيدة هي الَّتي تختارها، ولا تجد مناصاً منها إلَّا بعد أن تغنّيها، فهي مدمنة في عشق القصائد، تعبُرُ خلالَ إنشادها في أعماقِ منعرجات جموح الخيال. تنشدُ المزامير والتَّراتيل والنُّصوص الصّوفيّة المستفيضة في إشراقةِ جموحات بوح الرُّوح، حيث ترى الغناء كأنّه شهيقها الَّذي يمنحها الحياة، لهذا تغدق علينا أبهى ما لديها من غناءٍ أصيل! 
تشبه جاهدة وهبة حبقَ القصيدة المتفتّحة على نضارةِ البساتين في توليفة ألحانِها، تتفاعل مع روحانيّة النَّص كأنّه جزء من كينونتها، وتترجمه عبر مساحاتِ عُرَبِها الصَّوتيّة المضمّخة بورعِ الإبتهال، فتنساب تجلِّياتها السَّارحة في مرامي الأحلامِ، متراقصةً على إيقاعِ بهاء الكلمات وعذوبةِ الأنغامِ، فتتوغَّلُ رويداً رويداً في حنايا القلب وتتصاعدُ على مسارِ تماهيات بهجة الرّوح نحوَ أقصى ابتهالات حبورِ السَّماء.  
كلّما تناهَت أغاني جاهدة إلى مسامعي، تراقَصَتْ روحي ألقاً من بهجةِ الإنتعاشِ، تمنحني فرحاً مماثلاً لتوهُّجات بهجةِ الإبداع، وكأنّي في أوجِ انغماسي في مناغاةِ مسارِ تدفُّقات خيوطِ القصيدة. تناجي بإنشادها وألحانها وأغانيها حلمَ الأطفالِ وألقَ العشَّاق وهم يغفون بين أحضانِ اللَّيل بفرحٍ كبير، تشبه أغانيها زخَّاتِ مطرٍ منبعثة من آهاتِ غيمة حُبلى بأزاهيرَ عشقٍ مبرعمة من نكهةِ العسل البرّي. 
تعتلي خشبة المسرح بكلِّ شموخٍ، فتتوهَّجُ ألقاً في محرابِ الغناءِ وتمسحُ من جبهتنا أحزانِ السِّنينِ بإنسيابيّة حميمة، وتغدقُ فوقَ ربوعِ أيّامنا أشهى مذاقاتِ الحياة، تغنّي كي تتطهّر من أوجاعِ الحياة، من خلال تلحين نصوصٍ تسكنها فتشعر بمتعة فائقة عندما تغنيّها بكلِّ تجلّياتِ روحها وكأنَّ الغناء هو بلسمٌ شافٍ لجراحاتها وطوقُ نجاةٍ عبر مسار غنائها المشبّع بأسرارِ الخلاص من تفاقماتِ أنين الحياة! 
تمتلكُ الفنّانة حنجرة حريريّة صافية من شوائب هذا الزّمان، أطلق عليها الفنَّان وديع الصّافي، مجاهدة: مناضلة في الغناء، فقد طاوعَ صوتها الكثير من الإنكسارات، إلى أن وصلَ أبهى درجات الوجدِ والإبتهال. يتوغَّل صوتها في مرافئ الرّوح الدَّافئة، كأنّها تحملُ بين أجنحتها رسالة فرحٍ إلى الحزانى كي تخفِّف من أحزانهم المتفاقمة يوماً بعد يوم، وتقدِّم إلى المشتاقين إلى ظلالِ البيوتِ العتيقة باقات القرنفل على إيقاعاتِ فرحٍ، فارشةً أمامنا ألعاب الطُّفولة المنسيّة، فتوقظُ في أعماقنا أحلاماً هاربة في ثنايا الغمام!  
تتميّز هذه المتشرِّبة بالأصالة والرّوحانيّة الفيروزيّة في فرادتِها ورقيّ تجربتها في دنيا الغناء، في وقتٍ غدا الكثير من آفاقِ الأغاني تصبُّ في ديكوراتٍ بعيدةٍ عن روحِ الأصالةِ والإنشادِ الحميم. صوتُها أصيل معبِّر عن مشاعر توَّاقة إلى حبورِ شهقةِ القصيدة، فقد غنَّت للكثير من الشّعراء ذوي القامات السَّامقة كأنّها حبقٌ ممتدٌّ من وهجِ الإبتهال المتدفِّق من إشراقةِ خيالٍ متماهٍ مع خيوطِ الصَّباح، يتماهى صوتُها معَ أزاهير ممراحة على إيقاعِ فضاءاتِ فيروز الجَّانحة نحو أبهى تجلِّياتِ صفوةِ الإبداع!
***
هل تغلغلَتْ في روحِكِ وأنتِ في أعماقِ الحلم، إشراقةُ العشقِ لأشهى الأغاني؟ أراكِ تصدحينَ بإبتهالاتِ فرحٍ وتجلِّياتِ بوحِ الرُّوحِ وكأنّكِ هلالة فرحٍ متدفِّقة في ليلةٍ قمراء من شهوةِ الغابات! تغنِّين "أكَابيلَّا" التّجويد أيضاً، وهي لغة ابتهاليّة من دون موسيقى مرافقة، تهدهدين الكبار من خلالِ إنشادِ أشهى الأغاني.
شاهدْتُكِ في لقاءَين مع المحاورِ البارع عماد دبّور عبر ممنوعه العابر في أصفى أبراج الحرّيّة، ومع الشَّاعرة البديعة بروين حبيب عبر لقاءاتها المشحونة بدندنات القصيدة، ومع الشّاعر المزدان بيراع الشّعر زاهي وهبي في بيته المعشوشب بأبهى يراعِ القصيدِ، وفي روافد أحمد علي الزِّين المسربلة بحنين هدهدات الرّوح عبر تجلِّيات بوحِ القصيدة، وإستمعْتُ إلى عشراتِ التَّرانيمِ والأغاني الصَّادحة في فضاءاتِ  اليوتيوب. وجدتُكِ صوتاً مجبولاً بالأصالة، مدهشاً في صفائه وعذوبته مثلَ دهشةِ قصائدٍ تتماهى معَ تجلِّياتِ شهيقِ الشِّعرِ، وكم كان الشَّاعر سعيد عقل بديعاً في رأيه عندما أطلقَ عليكِ "رنكَانة" أي رنين الكون، اسم فينيقي ينطبق على رحابةِ رنينِكِ الإنساني الخلّاق، صوتُكِ إشراقةُ حنينٍ إلى ينبوعِ الماءِ الزُّلال. صوتُكِ سؤالٌ مجنّحٌ نحو ظلالِ البساتين، حالةُ فرحٍ مجدولٍ بلهفَةِ وحنينِ المحبِّين. تغنّين على إيقاعِ شهوةِ الرّوحِ وهي ترقصُ من وهجِ الإبتهال، كأنّكِ في حالةِ عشقٍ مفتوحٍ معَ تلألؤاتِ النُّجوم. 
هل استلهمْتِ من ضياءِ القمرِ شوقَ الأرضِ لسموِّ السَّماءِ، أم أنّكِ تبرْعَمْتِ من حنينِ الغاباتِ إلى خريرِ السَّواقي في أوجِ ابتهالاتِ بزوغِ الرَّبيع؟! تراودني أسئلة مفتوحة على مساحاتِ جموحِ القصيدة.  
تغمرُكِ حالة إنصهارٍ معَ أعذبِ الكلام، مع وميضِ الشِّعر، مع أشهى أشواقِ الهيام. تتعانقُ بهاءُ القصيدةِ معَ حياءِ خدّيكِ، مع بسمةِ عينيكِ، معَ مروج ينابيعَ الرّوحِ، فتصبحُ القصيدةُ صديقةَ روحِكِ الأنقى، تتسامى الرُّوحُ معَ حبورِ الحرفِ، فتتألَّقين في خضمِّ ألحانِكِ، كأنَّكِ في حالةِ إبتهالٍ حلميّة مع أرقى حفاواتِ الكلام، تشمخُ البقاع مسقط رأسكِ أمامكِ، فيجرفكِ الحنين إلى مرابع الطُّفولة والصِّبا، إلى البيتِ الأوَّل، حيث تفتَّحت فيه قريحتكِ ومن هناك إنطلقتِ حيث جمهورك الأوّل: الأم الوديعة، الحاضنة الرَّؤوم، والوالد الَّذي زرع في آفاقِكِ مذاق القصيدة وعشق الشِّعر! .. هناك ودّعْتِ الجّمال، جمال الطّبيعة، وجمال الحياة الموسوم بالوالد المرفرف في مروج روحِكِ، والوالدة الَّتي خبَّأتيها بين جوانحك المحلّقة على مدى رحابة تجلِّيات الرّوح، شعرْتِ أنّكِ تحوَّلْتِ إلى كتلةٍ من يباس بعد رحيلها، ولم تجدين أجدى من القصيدة، وغناء القصيدة ينقذانكِ من شفير هذا اليباس! 
أيّتها المعجونة من طينِ المحبّة، الغارقة في اخضرار شُهُبِ الرّوحِ، الجّانحة نحوَ مآقي زرقةِ السَّماء. يا صديقةَ اللَّيلِ الحنون، يا غيمةً سارحة معَ هفهفاتِ نسيمِ الصَّباح. أيّتها العابرة على همهماتِ هدوءِ اللّيلِ إلى أحلامِ الطُّفولة، أنتِ عاشقة مشتعلة في يراعِ القصائد، نغمةُ فرحٍ مرفرِفة في أجنحةِ اليمام، حديقةٌ مزدانة بأغصانِ الأمل، أيَّتها المسكونة بشهيقِ الشِّعرِ، بأسرارِ كلماتٍ مملّحة بحبرِ الحنين، كم من القصائد تمايلت بتناغماتِ إيقاعها فوقَ سواقي العبورِ، كم من الدُّموعِ انسابَتْ من مقلتيكِ حتَّى تلألأ وميضُ الأنغامِ من تجلِّياتِ حبورِ الحنينِ فوقَ تيجانِ الحياة؟! 
جاهدة وهبة مطربة وملحّنة مسربلة بوشاحِ جمراتِ الألم ووهجِ الحبِّ وتلالِ الذّكريات، استلهمَتْ وهجَ القصائد من خشخشات الأشجار، من همهمات الرِّيح، وهسيس الكائنات وبهاء الطَّبيعة وشموخِ الجِّبال، ومن الذَّاكرة المعجونة بطينِ الحياة. كتبَتْ ولحّنتْ وغنَّت القصائد الّتي تشبهها، كي تسمو أثناء تجلِّيات الغناء فوقَ ينابيعَ الرُّوح، لعلّها تمحقُ أحزانَ السِّنينِ الوارفة فوقَ سهولِ القلب المستنبتة حول مرافئ الرّوح.   
تفرشُ ألحانَها بَلْسماً عذباً فوقَ أهدابِ القصيدة، فأنشدَتْ أشعار أُنسي الحاج ومحمود درويش وأدونيس وطلال حيدر وإيلي شويري وأحلام مستغانمي ولميعة عبّاس عمارة وعمر الخيام والشّاعرة الإيرانيّة فرّوخ فرخ زاد والشَّاعر الألماني غونترغراس والإسباني فريدريكو غارسيا لوركا، ومزامير داؤود والتّراتيل السّريانيّة والبيزنطيّة وأنشدت أجمل القصائد لاِبن عربي وجلال الدّين الرّومي ورابعة العدويّة واِبن الفارض والحلّاج!   
أريدُ أنْ أهمسَ لروحِكِ الهائمة في أشهى تجلِّياتِ الألحانِ، أسرارَ جموحِ الحرفِ إلى أقصى توهُّجاتِ الإبتهال، أريدُ أنْ أنقشَ على رحابةِ ذبذباتِ صوتِكِ تواشيحَ رعشةِ القصيدة، أريد أنْ أرسمَ بسمةَ القمرِ فوقَ خدودِ الطُّفولة. مراراً استوطنَتْ في مراميكِ أحزانَ السِّنين، وحدُها القصيدة بلسَمَت النّشيجَ المستوطنَ في قيعانِ مرافئ الذّاكرة، وحدُها الأغاني خفِّفَتْ من أنينِ الجِّراحِ المستفحلة في كينونتِكِ على مدى طفولتِكِ المبرعمة على وجهِ الدُّنيا. طفولتُكِ رحلةُ أسىً مشرئبّة بانسيابِ أنقى الدّموع، طفولتُكِ مسروجة بقناديلِ ليلةِ الميلاد، طفولتُكِ متجلِّية في فضاءِ الأنغام الَّتي توغَّلَت عميقاً في لبِّ الألحانِ المنبثقة من ذاكرتك المبلَّلة بندى الياسمين، إلى أن غدَتْ طفولتُكِ ينبوعَ إنطلاقٍ نحو أقصى تجلّيات إنشادِ القصيدة. 
هاجسُ العبورِ في لبِّ الأحزانِ راودَكِ مراراً، فعبرْتِ إلى قيعانِ الأنينِ كي تطهِّري الجّراحَ الخفيّة من جذورها عبرَ عذوبةِ الألحانِ، وكأنّ بهجةَ إنشاد الأغاني، كانت مفتاح الشّفاء والإنعتاق من أوزارِ الألمِ الجَّاثمِ فوقَ ربوعِ الطُّفولة المسربلة بالأسى والأنين، منذُ استشهاد والدكِ إلى أن غدا الحزن أليفاً لكِ لسنواتٍ طويلة، فما وجدْتِ أجدى من الغناء كي تردّينه على أعقابه من خلال تطهير الرُّوح من تشظّيات الأحزان المتناثرة فوق اشتعالِ غابات الحلم!  
كلَّما أسمع إلى أغانيكِ، يرقصُ قلبي طرباً من وهجِ انبعاثِ أبهى الأنغامِ. كلَّما أسمعُ إلى أغانيكِ، أزدادُ إنبهاراً في تجلِّياتِ روحِكِ الخلَّاقة في ألقِ العبورِ في أعماقِ أسرارِ بوحِ القصيدِ! 
كيف تشكَّلتْ هذه الرّوح التَّوّاقة إلى مسارِ نُجَيْمَاتِ الصَّباح من حيثُ ابتهالات بهجة الأنغام؟!
عندما أسمعُ مهاميز الطَّرب المنسابة من حفاوةِ الأداءِ، تستيقظُ في ظلالِ الرُّوحِ الخفيّة ينابيع دفء القصيدة، شوقاً إلى عناقِ بهجةِ الإبتهال، كأنَّكِ غيمة مندلقة من خاصرةِ السَّماءِ نحوَ براري الشِّعرِ، نحوَ أنغامِ جاهدة وهبة وهي تنشد أبهى الأغاني، كأنّها في رحلة انتعاشٍ نحو أهازيج بوح القصائد! 
منحْتِ نفسي بهجةَ العبور إلى معالم عاشقة مفتونة بالغناء الأصيل، مفتونة بشهقاتِ حبر القصيدة، فنّانة من لونِ زرقةِ البحرِ وهي تهفو إلى عناقِ نسيمِ اللّيلِ قبلَ أنْ تبتسمَ النُّجومُ لآهاتِ البشر! 
جاهدة وهبة صديقة حرفٍ مندلقٍ من مآقي الغمام، تتوّجُ بأنغامِها متاهات بوحِ القصيدة، فتعيدُ القصيدةَ إلى مساراتِ بهجةِ الإشتعال، كأنَّها مجبولة من يراعِ أسرارِ القصيدة، لهذا نراها تتوغَّلُ عميقاً في حبورِ تجلّيات الإنشاد وهدهداتِ الأغاني، صوتٌ منبعثٌ من عذوبة الرُّوح التَّوَّاقة إلى حبر القصيدة، تهفو القلوبُ بمتعةٍ غامرة إلى الإستماعِ لتوهُّجاتِ إبتهالاتِ "رنكَانة" المنسابة برنينِ الكون، على إيقاعِ تدفّقاتِ خيوطِ الحنين!
***
لِمَ لا، إنّها ابنة حضارة موغلة في الإبداع الأصيل، ابنة لبنان، ابنة الشَّرق الدَّافئ بأرقى تلاوين العطاء، ابنة القصيدة، ابنة المقام الموسيقي الأصيل، المتشرّبة بأغاني أم كلثوم، وعبدالوهاب، وأسمهان ووديع الصّافي، والمترعرعة على هدهدات أغاني فيروز.
.. ويبقى السُّؤالُ مفتوحاً، كيف لا يتأثَّر الزُّعماء والرُّؤساء والملوك العرب بهكذا حالات فنّية راقية وبكلِّ المبدعين والمبدعات من هذا الطِّراز الحضاري الخلّاق، ويستلهموا منهم أبجديات جديدة للعطاء كي يمنحوا مواطنيهم البهجة والغبطة والسَّعادة، وينتشلونهم من هذه الحروب والصِّراعات المجنونة والتّناحرات المريرة والرُّؤية العقيمة الّتي أودَت بالبلاد إلى شفير الجّحيم، فلماذا يتمتَّع الغرب وأغلب دول العالم بما يقدِّمه المبدعون والمبدعات في بلدانهم، ويحقِّق الغرب لمواطنيه كلّ وسائل الرّفاهية والسّعادة والهناء، إلَّا سياسات وأنظمة العالم العربي، لا تقدّم لمواطنيهم سوى الحروب والبلاء والخراب والحروب الممجوجة؟! فقد دمَّروا البلاد فوق جماجم العباد على مدى عقودٍ وقرون، فعلى الأنظمة والسِّياسات العربيّة وما يجاورهم أن يفهموا ويعوا ويدركوا جيّداً أن المنقذ الحقيقي لكلِّ هذا الخراب هو الإبداع بكلّ صنوفه، ابتداءاً من الموسيقى والغناء والشّعر والتّشكيل، مروراً بالمسرح والأدب والفكر الخلّاق وإنتهاءاً بكلِّ رؤية تنويريّة تصبُّ في ربوع السَّلام والحرِّية والدِّيمقراطيّة الحقيقيّة، بعيداً عن أيِّ تعصُّبات دينيّة وقوميّة ومذهبيّة وطائفيّة مقيتة، والتَّركيز على المواطن الإنسان، لأنَّ هذا المواطن الإنسان المنعتق من خزعبلات التَّعصُّب القومي والمذهبي والطَّائفي، مع عميق إحترامي للقوميات والأديان، هذا المتحرّر من كلِّ هذه الشّوائب، هو الّذي سيقود البلاد إلى بوَّابات الأمان، كما يقودها المجتمع الغربي والمجتمع الأوربي وكلّ مجتمعات الدُّول النَّاهضة، بعيداً عن أيِّ تعصُّبٍ، إلا التَّعصّب للحقِّ والعدالة والمساواة والحرّية والدّيمقراطيّة، عندها ستتحقَّق الرّفاهيّة والسّعادة والهناء والفرح والسَّلام للمواطن كلّ مواطن على أكمل وجه!

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef56@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق