حين سألت طمرة: من منكم بلا خطيئة؟/ جواد بولس

لا أعرف إن أحسن القدر صنيعًا مع مدينة طمرة الجليلية حين جعل أحداثها تتبوأ هذا الأسبوع، مرّةً أخرى، صدارة الأخبار المحلّية؛ فما شهدناه من اختلافات في رأي الناس، ومواقفهم حول زيارة نفتالي بينت، وزير التربية والتعليم الإسرائيلي للمدينة، وقيامه بجولة على بعض مدارسها محاطًا بلفيف من رجال العلم والتدريس وبرفقة رئيس البلدية وكبار موظفيها، سيطوى، بعد أيام، كما طويت زيارات وزراء إسرائيليين لقرى ولبلدات عربية في الماضي القريب والبعيد، وستُنسى هذه الزيارة إلى أن يقوم وزير آخر بزيارة لقرية أخرى، قد تستدعي نقاشًا أو انتقادًا أو هجومًا، وقد لا تستدعيه، فما دامت نواطير البلاد غفّلًا، ستبقى الغلبة لمن بيديه العصا، والميادين لمن عصى.    
رغم الاحتجاجات الخفيفة، فلقد نجحت زيارة الوزير بينت في طمرة، بينما فشلت فيها قبل أكثر من شهر، الفرقة الفلسطينية المبدعة "وطن على وتر" من إقامة عرض مسرحي دعيت لإحيائه على أحد مسارح المدينة، التي رضخت عمليًا، لتهديدات البعض، وأجبر منظمو العمل على إسدال ستائر الهزيمة، وإلغاء العرض بحجة أن أعضاء الفريق الفلسطيني المسلمين مسّوا، أحيانًا بعروضهم،الإسلام وتعاليمه. 
صوتان صارخان في براري طمرة. فصدق من صرخ أن بينت هذا ما هو إلا رئيس حزب، حفر، في المعركة الانتخابية الأخيرة، على ظبات سيوفه، آيات استعداء عرب الدولة، وأشهرها في وجه الشمس والحق، دونما تردد أو خجل، وصدق، بالمقابل، من صرخ: لكنه يجيء طمرة كوزير مسؤول باسم حكومة إسرائيل عن جهاز التربية والتعليم، بما يوفّره هذا من قوة وميزانيات وملاكات عمل ومراكز، ولذلك، واجبنا أن نستقبله ونحسن قراه، ونجني ما نستحقه من تعب عرقنا ومن زهر بلادنا ومن خير لأهلنا ولبلدنا.
لعلها من المفارقات التي عودنا عليها واقعنا وواجهتنا بها حياتنا، وهي وإن أرادها البعض مصبوغة بلون واحد، تبقى كالطيف مفروشةً كقوس قزح، ومثله تجود حينًا بالأمل وأحيانًا يمور ويغيب ، فحين مضى الطمراويون في رحلة تيههم، وكانوا يعزفون كل على وتره وربابته، كانت مدينة سخنين، أخت طمرة وجارتها، تحتفل بفوز فريق شاباتها ببطولة دولة إسرائيل في كرة القدم حتى جيل ١٨، واستحقاقهن، بسبب هذا الفوز، تمثيل الدولة في ملاعب الأمم وفي المباريات التي سيرتفع فيها، بشكل طبيعي، العلم بلونيه الأزرق والأبيض، ليرفرف إلى جانب علم دولة سينافس بطلها الفريق السخنيني الإسرائيلي البطل.  
يستطيع من يتابع أخبار قرانا ومدننا أن يملأ صفحات من هذه المفارقات ويمتليء، بالتالي، بالدهشة وأكثر؛ فالحياة ولّادة للتحديات وللفرح والحزن وسيرورتها فضّاحة ودفّاقة، لا سيما في وضعيتنا نحن أبناء الأقلية الفلسطينية في إسرائيل التي يفرض واقعها عليها، كل يوم، حكاية ومسألة وفزورة ومعضلة. ربما كانت إقامة القائمة المشتركة، التي مثلت أغلبية الجماهير العربية في انتخابات الكنيست الأخيرة، أشهر هذه المفارقات، ولا أقول المواجهات لأنني ما زلت، ككثيرين مثلي، ننتظر كيف سيكبر وسيتصرف "الصبي"!     
فنوّاب القائمة المشتركة، يتصرفون، على الرغم من مرور أكثر من شهرين على إقسامهم يمين الولاء لدولة إسرائيل ولقوانينها، وإعلانهم كأعضاء كنيست كاملي الصلاحية والحصانة والقوة، على أنّهم ما زالوا في مرحلة التليين أو التسخين، إذا ما اقترضنا الاستعارة من عالمي السيّارت أو من عالم الرياضة؛ فلغاية كتابته لم نسمع عن أي اجتماع جدي وضعوا فيه وبحثوا، بعيدًا عن العناوين والعموميات، مجمل رؤاهم السياسية التفصيلية، وتعريفاتهم الوحدوية لما يرونه كقضايا جوهرية تعيشها الأقلية العربية، علمًا أن في بعضها تكمن مخاطر وجودية تواجهها مجتمعاتنا وتهدد لحمتها وهوّيتها الوطنية، كما ولم نسمع عن ماهية أولويّاتهم الاجتماعية والسياسية المتفق عليها، وما تفرضه تلك الأولويات من برامج عمل نضالية عينية، تستشرف حماية مستقبلنا وبقائنا أعزاء آمنين في بيوتنا ووطننا، وتعطي المواطن العادي مؤشرات واضحة لخيارات وطنية حينما يفرض الواقع على هذا المواطن حدثًا كما حصل في طمرة والناصرة وباقة وسخنين وغيرها.  
ينزع بعض المتفائلين إلى طمأنتنا، مؤكدين أن حال الجماهير العربية في البلاد هو  "عال العال"، وكلّما تساءلنا عن غياب موقف واحد من المشتركة في قضية عامة ملحة،  أسكتونا وحجتهم أن نوّاب المشتركة ما زالوا يتعايشون بوئام وسلام، وها هم كالأحبة في رياض "الزهراء"، ولم يخرج منهم "ناشز"، ولا زاغ بارح أو صفق سارح، فمن منا آمن بالوحدة ودعمها، ها هي تتراقص أمامه كالبرق في ليل الشرق الدامس.        
لن أفسد على أحد فرحته ولن أكون نبي غضب، لكنني، كلّما سمعت صمت القادة، في مسائل شعبية مفصلية وهامة، تذكرت أننا، نحن العرب، أول من اخترع علم المخترة والوجاهة وتفنن أجدادنا بضروب من الشنشبة والطبطبة ومثيلاتها. ولن أفسد على أحد بهجة الوحدة ومتعة الشراكة،  لكنني أخشى من هذه الرمادية الطاغية في مطارحنا، فنحن أفراخ  أقوام عشقت الغبار وتغزلت بغيومه، ولأن الرمادية اليوم، رديفة للحكمة وللحذاقة والشطارة، وأخت غابرة وليست عابرة، للتوفيقية المعاصرة كما هي في علم السياسة وإدارة شؤون العامة ومصالحها.
"إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة" كانت حكمة المنصور لمن نصحه بالتدبر وعدم العجلة، فبماذا تبررون صمتكم  يا قادة إزاء زيارة بينيت، ولماذا لا تباركوها لأن العبرة باللب وليست بالقشور؟ وأين المشتركة حين لوحق الفن والابداع في قرانا وعلى مسارح بلداتنا؟ وأين المشتركة ممَّن يدعو لتتريك وممَّن يبكي على حلب؟ وهل ستهنئون شابات سخنين على نصرهن؟ وأين وأين ...
لا تقتلونا بضرورة المحافظة على الوحدة، فباسم الوحدة نقبل أن  تستبعدوا نقاشات في مواضيع هامشية، ولكن ستبقى وحدتكم  شرعية إذا عرّفتم، بدون تردد، ما هي المصلحة العليا لهذه الجماهير، وإذا استطعتم، متوحدين بظلها، مجابهة كل صوت لا يعمل باسم تلك المصلحة الوطنية العليا للجماهير، وستبقى وحدتكم مبررة وشرعية إذا تعاطى دعاتها مع القضايا الخلافية الملحة بكل مسؤولية وجرأة وحزم، وهذا لن يتم إلا إذا توافقتم عل تتويج الوطني سيدًا على السياسي والاجتماعي، لأن "فساد الرأي أن تترددوا"، كما علّمكم قبل قرون، من أحب الغبار مثلنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق