الكبير يحيى السماوي .... كالحجر الذي رفضه البناؤون وأصبح رأسًا للزاوية/ الأب يوسف جزراوي


هو نجمةٌ مضيئةٌ ومشعةٌ في سماء الأدب العربي المُعاصر. سراجه لا ينضب زيته، ولا تنطفىء فتيلته، سكب معاناته الإنسانيّة والوطنية في  قصائدَ حلّق خلالها بأجنحةٍ لا تحدها سموات، عصرَ فيها قلبه، ومنح من وهج شرايينه كتابات أفرغها في قلبِ القارئ العربي، ليعطيه طاقة روحيّة، وهو يترجم له أحاسيسه ومعاناته، بل قُلّ أحزان شعبه ومحنة بلده، مقدّمًا له دواوين من الشعر فيها ومضات، إضاءات، كالجواهر واللآلئ، تؤم للناسِ بدربٍ عريض يُهدي إلى الطريق السويّ. دواوين تضمنت نجواه وشكواه. ولكن شعره أكثر من نجوى، وليس صدىً لمعاناة شخصية، بل أكثر ممّا نتصور ونظن. هو صوت القارئ ولسانه أيضًا، بل لسان حال الوطن المنكوب. ورغم أنَّ المصائب لم تأتِ عليه فرادى، إلّا أنَّ شاعرنا لم يفقد براءة الطفل وجمال الزهرة ورقة النسيم، بل ظلّ فلاحًا مُثابرًا في بستان المحبة الكوني.
بتاريخ 16/3/1949 تشرفت بمولده مدينة السماوة العراقيّة أرض المناضلين في كلّ مجالات الإبداع ؛ حيث استقبلته الحياة في محضن أبوين كريمين، دفعاه لطلب العلم والمثابرة، وقد تحملا الكثير من المشاق لتعليمه، رغم أنه وِلد في كنف أسرة عراقيّة فقيرة الحال ولكنها على شيء من الثقافة والكثير من الإيمان، إذ كان بيته أول مدرسة تعلّم فيها دروس الحياة وقيم النبل، وإذا كان أبوه الحاج عباس قد غادر الحياة قبل هجرة ابنه يحيى، فإنَّ والدته الحاجة هدية رحمهما الله قاست لوعة الفراق وطول الغياب مع شدَة الشوق والحنين لفلذة الكبد وشطر الروح أثر هجرته القسرية، بعد أن تضامنَ مع عذابات شعب عانى من القمع والقهر والضياع واستلاب الحقوق، وآثرَ أن يهربَ مُشردًا باحثًا عن وطنٍ مُستعار. كان الليل في منفاه مُتَأبدًا، والصباح مَعصوبًا، وكيف لا! وجرح قلبه باتساع الوطن المسلوب. لكنه طحن بالصبر صخرة الإشتياق، وطيّب بالدمع طعنات الفراق، سلّم لله أمر وطنه، فهو خير مُعين وأفضل طبيب، عسى أن يتحول الرماد لهيبًا، في وطنٍ باتت الفجيعة ماءه أما خبزهُ فنحيب؛ وطن أنهاره مسلولة وإنسانه مصلوب!. إنّه العراق ذلك الوطن المنحور على مذابح الساسة والحكّام الذين جعلوا من اثاره خرائب وحطامًا.
 هاجر أبو شيماء عن أرض الحضارات ومهد الديانات وملتقى الثقافات مُنظمًّا إلى المعارضة العراقيّة وهو يُمني النفس بحلم العودة في يومٍ ما، بيد أنه لم ينفطم لحظة عن حبّ العراق وعشق مرابع الصبا، وإن كان منذ زمنٍ بعيد لا يمتلك منهما سوى اسمه الكبير!. تجاوزت شهرته وطنه الأصلي الذي نشأ فيه والأوطان التي لجأ اليها يومَ هرب من بطشِ نظامٍ ديكتاتوري ، فعانى من شظف الحياة، ليقبع مصلوبًا خلف قضبان غربته الطويلة المضحرة.
 هادن الكلمة مُذ أصدرَ ديوانه الثاني "قصائد في زمن السبي والبكاء" يوم كان طالبًا في كلّية الآداب عام 1971، إلى لحظة صدور ديوانه الثالث " قلبي على وطني" عام 1992 الصادر في السعودية،مُرددًا القول المأثور: " يا نحلة لا تلسعيني ولا أودّ عسلاً منك"، ألّا أنه ظلَّ ذلك الفارس المحارب من على فرس الكلمة، والشاعر المُعارض صاحب الرأي المستقل والفكر المتألق والذكاء المتقد والكلمة البنّاءة الحرّة، الذي التحق للعمل في اذاعة عراقيّة معارضة  تبث من جدة. كما أنَّ أستاذنا الذي نفاخر به هو أول من أطلق على الجواهري لقب "النهر الثالث".
واذكرُ أنَّ الرجلَ كان قد روى لي كيف استقطب الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد كبار الشعراء والأدباء في العراق، يقف في طليعتهم الجواهري والبياتي، الذي كتب له مرثية قبيل وفاته بيومين، فنظر إليه البياتي حين شرع أبو علي بقراءة مضمونها أمامه: فحدثه بصوت تخنقه دموع أليمة:" إنّني أول شاعر يقرأ مرثيته قبل أن يحتضنه القبر". فشاعرنا ودون أيّ مغالاة صندوق ضخم يحمل الكثير من الذكريات، سيّما وهو عاصر كبار الكبار أمثال ( الجواهري، البياتي، عبد الرزاق عبد الواحد، بلند الحيدري، مظفر النواب) وغيرهم كُثار.
إنَّه القامة العراقيّة الشعرية يحيى السماويّ الذي أستعيرُ فيه قول أمرئ القيس" وهل يخفى القمر"، فهو تلك العلامة المضيئة في تاريخنا العراقي والعربي الحديث، وواحد من رعيل الشعراء العراقيين المعارضين الكبار، فتشرف العراقيون بهم.
تخرج يحيى السماويّ شاعر العراق الكبير في كلّية الآداب/ الجامعة المستنصرية، بغداد 1974، ثم اشتغل في حقول التدريس والصحافة والإعلام. ارتبط بأم أولاده الأربعة: شيماء، نجد،  علي، سارة عام 1980، إذ كانت تتلمذ تحت يديه في ثانوية السماوة ، حيث كان مدرس اللغة العربية وآدابها على موعدٍ للقاء بنصفه الآخر الذي رافقه في السراء والضراء. مضت السنون وأجبر مربي الأجيال على خدمة العلم في زمنٍ كان يُعفى فيه المعلم من هذه الخدمة، لأنه رفض خيانة مبادئه.
هو صاحب الديوان الشهير ( مسبحة من خرز الكلمات ) وديوانه الأشهر (قلبي على وطني 1992)؛ حيث كان ذلك الديوان صوتًا مدوّيًا لرفض ممارسات نظام حبس انفاس شعبه وقمع حريتهم بعد أن شنق حمائم السلام وهجّر طيور الحُبّ من اعشاشها. عاصر أبو شيماء ذلك النظام حتّى عام 1991 بعد فشل الإنتفاضة الشعبية التي شارك فيها مُقاتلاً وخطيبًا؛ إذ فرَّ بجلده إلى السعودية، بعد أن تذوق قساوة الملاحقة المستمرة وبشاعة الاعتقالات الظالمة والمعاملة التعسفية و مرارة أبشع أنواع التعذيب.
أنتج السماويّ ما يربو على 25 مجموعة شعرية ، وقدمت عنه أكثر من 20 اطروحة ماجستير ودكتوراه في العراق والوطن العربي وبعض البلدان الأجنبية . نُشرت قصائده في العديد من المجلات العراقيّة والعربية الأدبية والاسترالية والسنغافورية والامريكية والإيرانية. حصل على العديد من الجوائز ابرزها: جائزة الإبداع الشعري برعاية الجامعة العربية عن ديوانه" هذه خيمتي .... فأين الوطن" عام 1998، ودرع ديوان العرب عام 2007، وظفر بجائزة البابطين عن ديوانه الموسوم " نقوش على جذع نخلة" 2008. حصل على جائزة جبران خليل جبران العالمية / سيدني 2014، ودرع وقلادة البياتي في مهرجان البياتي الذي أقامته رابطة الشاعر عبد الوهاب البياتي بتاريخ 17/6/2015 في سيدني. كما كُتبَ عنه بأقلامٍ عراقيّةٍ وعربيةٍ أبرزهم د. علي جواد الطاهر والشاعر الروائي السعودي د. غازي القصيبي الذي حظي بمنزلتين سياسية ودبلوماسية، صاحب القصيدة الشهيرة التى أرسلها لملك السعودية الراحل فهد بن عبد العزيز والتي تسببت في إقالته كوزير، واستهل أول بيت فيها بقوله: " بيني وبينك ألف واشٍ ينعب، فعلامَ أسهب في الغناء وأطنب". ولا يفوتني أن اذكرَ أنَّ السماويَّ عضوٌ في أتحاد الأدباء العراقيين، وعضو أتحاد الُكتّاب والادباء العرب، وعضوٌ في أتحاد الادباء الاسترالي، عضو رابطة قلم العالمية، وعضوٌ في رابطة شعراء العالم.
ينامُ ابو علي وفي عينه قافية، ويفيق وفي بؤبؤ عينه الثانية رباعية. إنّه المتأرّق دائمًا وأبدًا، ينام ولا يرتاح. إنّه إبن الشعر، إبن الأرق، إبن المحبة والإبداع العراقي. يقرأ كثيرًا وينام قليلاً، معلّق على جدران الغربة، غارق في ذاكرة الوطن. يدخن بإفراط ويغلق هاتفه الجوّال حين يمتشق القلم، لينشر مبادئه وقناعاته المُختمرة بفرن الاعماق بلغةٍ تشد القارئ وتحفر الإبداع فيه، لغة يعجنها ويصقلها لتأتي طوّاعة بين يديه، فميزته لا تكمن في تمكنه من اللغة العربية وحسب، بل في القدرة على استخراج تركيبات لغوية ساحرة. فعندما تتزاوجُ لغة الإبداع بصاحبها فإنّه من غير شك ستولدُ القصيدةُ ويولدُ النصّ الأدبيّ وتولد القطعة النثرية بأبهى حلّة، وكيف إذا كانَ المبدعُ قد انغمسَ في تفاصيل عالقة في جسد الذاكرة لتكتب همّ الوطن ومعاناة الشعب من حاكم أرعن وساسة لا يفقهون من الحياة إلّا الفساد والقتل والتعصب. والحال، أنَّ السماويّ يحب العربية ويتقنها حدّ الإبداع، ولا يرضى بسواها لكتابة أدبه الغزير، فهو الشاعر والأديب والناقد والباحث، الذي اضطر بسبب الظروف التي عصفت بالبلد على مدار العقود التي خلت إلى الإنعطاف عن الشارع الرئيسي إلى طريق ترابي،في زمنٍ تراجع الذائقة العامة، وانحسار عدد قراء الكتب، فحاول السماويّ النهوض باللغة والادب معًا قفزات إلى الأمام. وقد نجح في مسعاه إلى حدّ كبير بشهادة الكثير. ولا يخفى على أحد بإنَّ العربية الفصحى ظلت أداته المفضلة لإظهار فكره الراقي ونفسه السمحة وإيجاد أسلوبه الخاص  لتعبيره الأدبي الذي يتسم بالمحبة الكونية. فهو حين يقف على منصة المنبر تلقاه كبلبلٍ جريح يُرفرف بصمتٍ وهو يُغرد اناشيد المحبة والسلام، وحين تقرأ له تلتمس استعداده للتضحية من أجل الغايات النبيلة والأهداف السامية. ولا بُدّ لي أن اعترف أنَّ الرجلَ حين تجمعك به محطات الوجود ستجده من الوزن الثقيل في الشعر والثقافة والإنسانيّة واخلاقيات الحياة.
تفوح من نصوصه الشعرية النثرية تارة رائحة عطر وبخور لا يغيب عنها حزن صامت، غير أنَّ اعماله الأدبية لا تنشر مناخ الإحباط. وتارة أُخرى يتغزل بالوطن، كغزل الحبيب بحبيبته المدجج بالقبلات والزهور والحنين والاشواق، يتغزل بوطنٍ حلم أن تسكنه العنادل والعصافير والهدهد والحمام، يحاوره البحر وسواحل الرمال، يرتفع فيه الإنسان والبنيان. يقطن السماويّ في مدينة أديلايد منذ أن وطات قدماه أرض بلاد الكنغر عام 1997 قادمًا من جدة ، فكان ولا يزال كشهاب يضيء سماء حياتنا، وكوميض نور في عتمة غربتنا المضجرة، بكلّ ما له وما عليه في شخصيّةٍ إنسانيّة وأدبية متميزة ذات طابع فريد ورؤية مستقبلية واضحة، ولا غرابة في الأمر، لأنه صاحب عقلية متقدة وفكر خلاق وخيال ثرٍّ، رأى المستقبل بمنظار الإنسان المحب والفاحص المتأمّل. ذلك هو يحيى السماويّ الشاعر المتألق والإنسان المرموق، الذي عرفته شديد الحساسية، دافئ الإنسانيّة، يضع نفسه في مكان الطرف الآخر فيرى ما لا يراه الآخرون!. يحيا يحيى في العادة مع قلمه وكتاباته، قليل الخروج من المنزل، وحين يسدل الليل ستاره على أرض منفاهْ، تلقاه وحيدًا منعزلاً لا يحاور أحدًا، سوى القمر ، وفي الصباح يرافق الشمس ليعلن حالة مُعانقة قلمه للورق، متأمّلاً في الطبيعة الخلابة؛ يتزين بزيِّ جمالها وصفائها، ليكتب بأسلوبٍ رقيقٍ جذّابٍ يشدُّكَ إليه، يجعلُكَ تبحرُ معهُ في رحلة الحرفِ إلى شواطئ الكلمة الممتعة. يكتب عن قضية إنسان في مأساة وطنٍ، الطبيعةُ فيه بدأت تشيخ، والخضرةُ في السنديان بدأت مرغمة تأخذ لون الرماد، يكتب للملأ عن ذهنية تغيرت وسلوكيات تصحّرت، وعن عراق ترمّلت المحبة فيه، بعد أن تغيرت لا خارطته وحسب، بل هويته، وإنسانه.
تعود معرفتي بالاستاذ يحيى السماويّ إلى قبل عامين، ومع دوران عجلة الحياة التي تجري بسرعة البرق في أستراليا، لبّى الرجل مشكورًا دعوة رابطة الشاعر عبد الوهاب البياتي يوم حدثته شخصيًا عن المهرجان. دارت بيننا في بادئ الأمر أحاديث الكترونية ومن ثمَّ مكالمات هاتفية ومن ثم لقاءات جماعية. وأذكرُ يوم جاء مساء السادس عشر من حزيران عام 2015، حيث كنتُ في استقباله صحبة الصحافي صباح عبد الرحمن في مطار سيدني قادمًا من فردوسه الأرضي أديلايد ،  تعانقنا بعفوية وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن طويل. كانت السيارة تركض بنا في شوارع سيدني التي استقبلت السماويَ بأمطارٍ غزيرة وبرد قارص. في الطريق المطر ينهمر يجلد كلّ شيٍء امامنا، اهتاجنا البرد، ولكن حرارة قصته التي تدمي القلوب، اعادت الدفء لقلوبنا التي كانت تترقب لقاءنا على أحرّ من الجمر. خاطبني كما يخاطب الورد الندى، حفزه صمتي وإصغائي لفتح مغاليق الذاكرة واسترجاع الذكريات. كنتُ أنصت إليه بدقة وإمعان كما استمع للكمان وهو يقصّ حكايته الموجعة، ودموع محبّته تتفجّع على خدّيه وهو يتحدث عن أمه التي لم تسعفه الغربة ليقول لها قبل إغفاءتها الأخيرة " تصبحين على جنة " . كلّ أحاديثه كانت توجيهات وكلّ كلامه حكم وعبّر وكلّ شجونه  كانت صادقة وعفوية، وأدركتُ عبرَ حديثه الشيق، كيف جمرة انتظار العودة إلى مسقط رأسه تُذيب ثلوج غربته. واستلخصت من طيات الحوار الذي نشّط الذاكرة وأنعش الخيال ، أدام الإنتشاء وصقل الوعي بعد أن وسعَ المعارف، كيف ذبلت اوراق العمر بشوق تليد لوطنٍ يؤرقه حتّى في الاحلام. كان لقاءً لطيفًا ودودًا صادقًا عفويًا، لاحظت فيه أنَّ شاعرنا الكبير يعرف عني مثلما أعرف عنه، فاتصل الود بيننا واقعيًا منذ تلك اللحظات.
وحين ترجلنا من السيارة إلى منزل الدكتورة سحر الصومعي التي اولمت مأدبة عشاء على شرف الأستاذ يحيى في دارها العامر، وقفنا على عتبة الدار الخارجية ندخن السجائر، تبادلنا الآراء، وتحدثنا فيما تحدثنا عن الوضع الكارثي في العراق وعن جحيم بغداد اليوم، وأيقنتُ أنَّ هذا الرجل الذي بلغ العقد السادس من عمره بقي رهين عذابات نظام الأمس ومكبّلاً بسلاسل غربته الطويلة في منفاه الإختياري. طالت فترة وقوفنا على ايقاع المطر المنهمر بشدة في ليلٍ حالك السواد، كانت عيناه جميلتين لكنهما متعبتان، ذاته جريحة،  جسده مُنهك، يلتوي بأكمله ألمًا من حصى الكلية اليسرى، تبللت ثيابنا وامتزجت شجوننا المنهمرة مع زخات المطر المُتساقطة، احاديث لا تعدو أن تروي واقعًا مُحزنًا. وحين استلمت منه خيط الحديث، ايقنتُ أنَّ الرجلَ متمسك بحبال الرجاء بانتظار غدٍ جديد، تشرق فيه الشمس لتُزيل لعنة الظلام، غير أنّني اعترف هنا أنَّ قدرته على الإصغاء كانت قد أدهشتني، وأن نقاء حواره سحرني، فالرجل يحظى بكفاءةٍ أدبيةٍ عالية ومسحةٍ إنسانيّةٍ قلّ نظيرهما، جعلتا منه دُرة الحديث ومركز الحوار، فكان كالبدر في سماء سيدني التي أمطرت غيومها طويلاً.
حكى لي الأستاذ السماويّ وللآخرين عن رحلة العمر المتعبة، وما أكثر ما تعرض في مسيرته من ملاحقات أمنية وعقبات وتحديات وأزمات وانكسارات واحباطات، ولكنه كان دائمًا صامدًا قويًا. وكيف تقاطع مع أطراف سياسية تتفاوت قيمتها على مدارات سنوات الحياة، وكيف ظلَّ ثابتًا يحمل منارة التنوير ويضيء مصابيح الحرية ويرفض الأغلال والقيود ويدافع عن القيم الإنسانيّة وتعددية الإنسان في شجاعة واخلاق سامية ينفرد بهما. وأذكر أنه وقت فتح جروح الذاكرة كنتُ أكاد ألتهم كلماته وأعيش معه ذكرياته. فأدركته رسولاً للمحبة خاصّة بعد أن علمت كيف عفى عن ذلك الشخص الذي ذاق على يديه ابشع أنواع التعذيب.  فضلاً عن أنه شديد المراس، واسع الثقافة، دائم الاطلاع، كثير النسيان، شديد الطيبة والحساسية؛ بحيث لا يثقل كاهل أحد، عفيف النفس، حلو الكلام،لا يحبذ التصادم بالاخرين، إلّا إذا أجبر على ذلك، يتألم بصمت وخفاء، كثير الحياء. ولعلَّ أهم ما يميز ذلك الشاعر العراقي المرموق هو انتصاره لحرية الوطن وقيمة المبدع والإبداع ودفاعه الدائم عن الإنسان وقيمته وانحيازه للطبقات الكادحة وإيمانه العميق بظاهرة الإنسانيّة، وتفاؤله المفرط، وحماسه المتجدد دومًا. وعرفتُ خلال إقامته القصيرة في سيدني ومرافقتي له كيف أنه يقرن الأفعال بالأقوال، وكيف تعجبه المبادئ ولا تستهويه الحدّية في الامور، فهو مع الحق مهما اشتدّت المضايقات أو المغريات، لا يرضى الإنحناء إلآ لخالقه. ولا أجد حرجًا إذا قلت: إنَّ السماوي تنطبق عليه حكمة السيّد المسيح له المجد " الحجر الذي رفضه البنّاؤون، أصبح رأس الزاوية" ( متّى 21: 42). أجل إنه واحدٌ من الأشخاص الإنسانيين الذين عرفتهم ولن أنساهم ما حييت.
لقاءات ثقافية وحورات إنسانيّة متنوعة جرت بيننا في سيدني صحبة الأصدقاء من رابطة البياتي والمشهد الثقافي، وجدته يروي فيها بعض ذكرياته ويتحدث إلى من حوله بموضوعية دون تفرقة أو تمييز أو أهواء، ولا يصدر الأحكام العرجاء، بل كان عابئًا للزاد والملح الذي جمعه مع رفقاء الامس واليوم، يُشخص النقطة البيضاء في الصفحة السواد، ولا يبحث عن النقطة السوداء في اللوحة البيضاء. وتلك من شيم الأصلاء والعظماء الذين لا يصنفون الناس حسب المصالح والمنافسات التي يتحكم فيها النقص أو الهوى ولا يصبغون البشر بألوانٍ فكرية أو إنتماءات سياسية، دينية أو عرقية، لأن الجانب الإنساني يسبق ذلك كله. 
للسماويّ شبكة اتصالات واسعة مع الناس بحكم شاعريته، ولديه مجموعة من العلاقات مع شخصيات رفيعة القدر من أنحاء الوطن العربي والعالم في مجالات الشعر والأدب والسياسة والإعلام بكلّ فروعه، ولا غرابة في الأمر، فالرجل يحمل قلمًا رصينًا سخّره للمحبة الكونية، ويمتلك قصائدَ بين دفتي كتب عديدة تُزين بيت القارئ العربي، علاوة على أنه يتمتع بالخلق الدمث والأدب الشديد والتواضع الكبير، ناهيك عن البساطة والتوازن الشخصي، حتّى تميز بالرصانة والطيبة شكلاً وموضوعًا في دائرة علاقاته الإنسانيّة والثقافيّة. واذكر للرجل إنّه شرفني يومَ ارسل لي من محل سكناه رسالة مفادها: "سيبقى مساء يوم السابع عشر من حزيران عام 2015 منقوشاً بنبضي في القلب والذاكرة ، ليس لأنه اليوم الذي شهد ولادة الوليد البكر لـ " رابطة عبد الوهاب البياتي للشعر والثقافة " متمثلا بالمهرجان المُدهِش حضورا عربيا وعراقيا ، ولا لأن المهرجان كان تظاهرة ثقافية إبداعية فحسب ، إنما ولأن المهرجان كان لوحة بانورامية جسّدت وحدة العراق أرضا وشعبا وتآخي مكوناته ، كما أفضى المهرجان الى حقيقة أنّ الجهود الفردية المستضيئة بشمس المحبة ، يمكن أن تحقق ما تعجزعن تحقيقه الجموع المستضيئة بفوانيس العنت المذهبي والفئوي والجغرافي والأيديولوجي . شكرا للأب الأديب " يوسف جزراوي " عميد فلاّحي بستان " رابطة عبد الوهاب البياتي للشعر والثقافة " وشكرا لبقية الفلاحين الرائعين العاملين معه ... فلولاهم لما كانت الرابطة، ولما أقيم المهرجان، والشكر موصول لكل مَنْ أسهم في غرس وردة في حديقة المهرجان الأول ... وحتى نلتقي في المهرجان السنوي الثاني: قبلة لجبين كل المكرّمين بدرع وقلادة الإبداع وشهادات التقدير، ولكل مَنْ حضر".
كما تفضل عليَّ مؤخرًا بقراءةٍ نقديةٍ وكلمةٍ نثرية تزين كتابي "ملحمة كلكامش" الذي سيرى النور قريبًا في بلدي العراق ضمن مطبوعات دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع. إنني إذ أكتب اليوم في مولودي الأدبي الجديد ( مبدعون عرفتهم عن قربٍ) الذي تبنته دار ميزوبوتاميا، عن الأستاذ الشاعر الذي يعرفه القاصي والداني يحيى السماويّ فإنني أقدِّم قيمة عراقيّة رفيعة الشأن عن إنسانٍ جاء من طين جنوب بلاد وادي الرافدين إلى سيدني بعد رحلة تغرّب طويلة وعصيبة، حمل خلالها هموم بلده ومعاناة جيله وأحلام مستقبله؛ رحلة أنجبت الإبداع  في ولادات قيصرية مستمرة يطول الحديث عنها إن بدا.
بارك الله فيه وله، إنسانيًا وأدبيًا ومختصًا باللغة العربية وهو يسبر أغوار النفس الانسانيّة بكتابات تفتح الذات على جمال الوجود. تحية إلى ذلك الإنسان العراقي الأصيل الذي علمته الغربة وصقلته الأحزان والصعاب، فظلَّ واقفًا كالشجرة المثمرة الوارفة، يستكمل دوره في ثمار الكلمة اليانعة،مواصلاً عطاءه الإنسانيّ والثقافيّ مستكملاً مشواره الأدبيّ بشكلٍ يجعلنا نُفاخر به ونتشرف فيه على الدوام .
لك أيها ألأستاذ الكبير يحيى السماويّ نخلة العراق الباسقة الشامخة، قبلة محبة بفم تلميذك الكاهن البغدادي اطبعها على جبينك الذي قرأت فيه تاريخ بلدي المجبول من المحبة والمواطنة والتعددية والعيش المشترك. بالمختصر لقد غرسَ السماويّ الأثر بعد أن عرفَ كيف ينقش أسمه بالحجر والبشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق