أثلجت المواقف المصرية الرسمية الأخيرة قلوب كثيرٍ من المصريين والفلسطينيين والعرب، الذين كانوا يتطلعون إلى عودة مصر إلى موقعها الريادي الأول في قلب الأمة العربية، واستبشروا خيراً بعودتها، فنحن جميعاً بخير ما كانت مصر بخير، ونحن جميعاً أعزاء وكرماء ما كانت مصر عزيزة كريمة، تأبى الذل وترفض الهوان، ولا تسكت على الضيم، ولا تقبل المساس بكرامة العرب، أو الإساءة إليهم وإلى مشاعرهم، فها هي مصر التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أرض الكنانة قد بدأت تعود إلى عمق الأمة العربية والإسلامية، وأخذت تنفض عنها لباس الذل والهوان، الذي سربلها به نظام كامب ديفيد، وبدأت ترفع رأسها عالياً وتصدح بصوتها مجلجلاً، وكان نظام مبارك المخلوع يريدها مطأطأة الرأس، خافتة الصوت، خجولةً جريحة، ذليلةً مستباحة، تقبل بالمهانة ولا تقوى على الرد.
مصر الخامس والعشرين من يناير التي انتفضت بعزةٍ وكرامة ترفض المساس بكرامتها وسيادتها، وترفض الاعتداء على شعبها وحياة جنودها وعناصر جيشها، فقد انتهى الزمن الذي لا يعرف المصريون أين يقتل أبناؤهم، ولا كيف يقتلون، ولم يعد أحدٌ يقوى على إجبارهم ليتجاهلوا قاتلهم، ولم يعد في القاموس المصري مفردات المسامحة وغض الطرف، والسكوت على الظلم والاعتداء، فالكرامة المصرية العتيقة الأصيلة قد انطلقت من جديد، فأشعرتنا جميعاً بأننا أعزة، وبأن لنا دولةً كبيرة شقيقة قوية قادرة على حمايتنا، ومنع الاعتداء علينا.
مصر اليوم لم تعد مسؤولة عن الأمن الإسرائيلي، ولم تعد حرس حدودٍ عندها، ولم يعد في مفهومها أن الإسرائيلي هو السيد، وهو الخواجا الذي يجب أن يحترم ويقدر ويخدم، وأن حياته فوق حياة العرب والمصريين، وأن دمه عزيزاً لا يراق، وكرامته غالية لا تمس ولا تهدر، اليوم مصر تقول لإسرائيل أننا نحترم مواطنينا، ونقدر حياتهم وكرامتهم، ولا نسمح لأحدٍ أن يدوس على كرامتنا، وأن يمتهن مواطنينا، ويقتلهم بدمٍ بارد، ولن تقبل مصر للسفير الإسرائيلي أن يتجول في القاهرة بينما طائراتُ بلاده تقتل الجنود المصريين، وتنتهك السيادة المصرية أرضاً وجواً.
الشارع المصري اليوم يرسم خطوط معادلةٍ جديدة، مفادها الدم بالدم، والكرامة بالكرامة، فلا مكانَ للصمت إزاء العربدات الإسرائيلية، ولا عودة بالأمور إلى الوراء لأن تكون مصر بقيادتها وشعبها، وتاريخها وحضارتها، مجرد ساعي بريد، تنقل رسائل التهديد الإسرائيلية إلى الفلسطينيين عموماً وإلى سكان قطاع غزة على وجه الخصوص، مصر لن تسمح لمسؤولٍ إسرائيلي يعلن من أرضها انطلاق عدوانٍ جديدٍ على قطاع غزة، فلا تحلم تسيفني ليفني جديدة أن تعلن من القاهرة عدوناً إسرائيلياً على غزة، ولا يتطلع مناحيم بيغن جديد لأن يشرب فنجان قهوةٍ مع مسؤولٍ مصري، بينما طائراته وصورايخه تدك وتدمر المفاعل النووي العراقي.
اليوم هناك معادلة جديدة، وفهمٌ آخر للأمن القومي المصري، فقطاع غزة هو بوابة مصر الشرقية، وهي لن تسمح فيه بعملياتٍ عسكرية إسرائيلية ضد سكانه، وقد أبلغت الحكومة الإسرائيلية من مغبة القيام بأي عدوانٍ جديد على قطاع غزة، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي إن مضت إسرائيل في تهديداتها وأعادت الكرةُ بالاعتداء على غزة، وفلسطين جزءٌ من الأمة العربية، التي تربطها مع مصر وغيرها من الدول العربية اتفاقياتُ دفاعٍ مشترك، اليوم مصر تحيي هذه الاتفاقية، وتبلغ إسرائيل بأنها لن تسمح لها بالاعتداء على قطاع غزة خصوصاً وعلى الشعب الفلسطيني عموماً، وسيكون لها كلمتها العربية في مسائل كثيرة كالقدس والاستيطان والاعتقال والاغتيال والقصف وغيره.
مخطئ من يظن أن الكرامة المصرية قد تغيرت، أو أن الشخصية المصرية قد تبدلت وانقلبت، فالشعب المصري كان ومازال غيوراً حراً أبياً عزيزاً، لا يقبل بالذل والهوان، ولكن اتفاقيات الذل والعار في كامب ديفيد هي التي كبلته، وقيدت إرادته، وصادرت حريته، ورهنت قراره وباعت خيراته ومقدراته، اليوم المصريون يعودون إلى أصالتهم، ويستعيدون ما قد نزعه منهم حكام كامب ديفيد، وقد بدأ الإسرائيليون يدركون أن الأمور حولهم قد تغيرت، وأن الشمس قد طلعت على أشياء وحقائق جديدة ومغايرة لما كان القهر يخفيها، ويظهر نقائضها.
أيها المصريون هذه هي مصر التي نعرف، وهذه هي مصر التي نعتز بها ونفخر، مصر التي لا تعترف بأن إسرائيل دولةً عظمى، أو أنها حليفةً للدولة العظمى، فيحق لها أن تفعل ما تشاء وقتما تشاء، مصر التي تريد من إسرائيل أن تعرف قدرها، وأن تلزم حدودها، وأن تقف عن عربدتها، وأن تدرك أن حياة وأرواح المصريين ستكلفهم الكثير، وأن اعتذارها لن يطفئ لهيب غضبها، ولن يسكت الشعب المصري عن المطالبة بالثأر والانتقام، فمصر بشوارعها المنتفضة وشبابها اليقظ الواعي، لن يقبل بنتائج التحقيق الإسرائيلية، ولن تنطلي عليه معادلة القاضي والجلاد، ولن يسمح لإسرائيل أن تعتدي وتقتل، ثم تحقق وتعتذر، وهي لم تعد تقبل باعتذار إسرائيلي، لأنها بكل بساطة ستكرر اعتداءاتها، ولن تتوقف عن ممارساتها، ولكن رداً مصرياً آخر سيردع إسرائيل، وسيجبرها على التفكير ملياً قبل الإقدام على أي خطوة استفزازية أو عدوانية، ضد مصر أو ضد أشقائهم الفلسطينيين.
مصرٌ اليوم لن تناشد إسرائيل ضبط النفس، وتفهم الظروف والمستجدات، بل ستطلب منها الكف عن الاعتداء، والتوقف عن القتل، والامتناع عن قصف الفلسطينيين واستهدافهم، بل ستطلب منهم تفهم رد الفعل المصري، الذي سيكون مختلفاً عن المواقف التي تعودوا عليها، وأن عليها أن تتحسب لردودٍ مغايرة، وأخرى تطالب باستعادة السيادة، وبسط القوة، والعمل ضمن كل الأرض المصرية بكامل الحرية والسيادة، فلا اتفاقيات تمنعها من تحريك جنودها وآلياتهم في سيناء.
ها هي الثورة المصرية تؤتي ثمارها القومية الحقيقية، وها هو الشعب المصري ينفض عن نفسه غبار سنين الذل والهوان، ويؤسس لمعادلةٍ جديدة مفادها أن على إسرائيل إن أرادت البقاء في الوجود، والعيش بأمٍ وسلام، أن تحترم جيرانها، وألا تعتدي على حياة المواطنين العرب وممتلكاتهم، وأن تتوقف عن العربدة والتصرف في المنطقة باستعلاءٍ وهيمنةٍ واستكبار، فأمن مصر القومي يتطلب منها أن تؤمن جبهتها الشرقية مع قطاع غزة، وألا تسمح للطيران الإسرائيلي وقطع جيشه المختلفة أن تعربد وتقصف وتقتل، فهل أننا نحلم ونتمنى، وأننا مخمورين نتخيل، أم أننا فعلاً على أبوابِ مرحلةٍ جديدة، وسياسةٍ أخرى، وتوازناتٍ إقليمية تفهمها إسرائيل وتحسب حسابها، وتدرك أبعاد ونتائج إهمالها وتجاهلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق