" إذا كنتَ تريد السلامَ عليك أن تستعدّ للحرب " ! هذه العبارة التي شاهدها الفرنسيون على القنوات الإخبارية العمومية والخاصة منذ اللحظات الأولى لعملية السرفال في مالي كانت مكتوبة – بالفرنسية طبعا - في شكل وَشْمٍ على ذراع بعض الجنود وهم يفحصون عتادهم العسكري. وكانت عيون الكاميرات مَعنيّة بها إلى درجة أنها لم تقترب منها وتلتقطها فحسب بل حاولت أن تلفت انتباهَ المشاهِد من خلال إظهار الجنود وهم في حالة ثقة وتركيز ، وتقديمهم هادئين مبتسمين على أنهم فعلا التجسيدُ الحي لرسالة السلام التي تحملها الجملة المذكورة أعلاه.
ومن حق المرء أن يتساءل هنا : أليست الحرب نقيضا للسلام ؟ ألا تلجأ الحرب لاستعمال القوة في أعنف صورها فتقتل وتدمر وتخرب وتحرق .. وتغدو بذلك المرادفَ التام للشر ؟ عن أيّ سلام يتكلم إذن أصحابُ عقيدة الحرب من أجل السلام ؟
من المعلوم أن مقولة " الحرب من أجل السلام " أصبحت منذ زمان في عداد البديهيات أو الابجديات التي لا يجد دعاة الحروب حرجا من تكرارها على مسامع المهتمين بالنزاعات المسلحة أو المواطنين المعنيين بها مباشرة أو المعارضين لها. ولا يجد مفكرو وفلاسفة الحرب حرجا من الدفاع عن رؤيتهم بالقول أنه على كل من يريد الوصول إلى السلام أن يستعمل القوة لإقناع الخصم والعدو بضرورة التراجع أمام تقدمه أو التخلي عن المواجهة أمام زحفه ، ولابد من التعاطي للعنف حتى ولو كان في أبشع صوره وإظهار الشراسة الوحشية لزرع الرعب في صفوف العدو وتحطيم معنوياته ، والزج به في النهاية إلى قبول وقف المعركة وتسليم نفسه وطرح السلاح وقبول شروط المنتصر.
وبالرغم من أن منطق هذه الرؤية يُمكن مبدئيا أن نفهمه فإنّ تبرير الحرب بإرادة السلام التي توجد وراءه تعترضه الكثيرُ من الشكوك والأسئلة ، ومن بينها سؤالان رئيسيان . أولا ،هل يمكن رؤية فرض شروط المنتصر -مباشرة أو من خلال المؤسسات الدولية الخاضعة لقوانين من وحي الأقوياء وإملاءاتهم -على المهزوم كطريق يمكنه على المدى المتوسط والبعيد أن يؤدي إلى السلام ؟ ثانيا ، هل يمكن النظر إلى مقولة " الحرب من أجل السلام " على أنها صادقة فيما يخص إرادة تحقيق الهدف المعلن عنه ؟ بلغة أخرى هل تعبّر المقولة " الحربية السلمية " عن الحقيقة ؟
تكمن بعض عناصر الجواب عن السؤال الأول فيما يلي : اللجوء إلى الحرب واستعمال القوة العسكرية اللازمة وممارسة العنف في أشكاله المتعددة من إراقة الدماء وتحطيم سلاح العدو وتدمير البنيات التحتية .. ، هي الوسيلة التي تؤدّي – حسب اصحاب هذه العقيدة – إلى غاية يسمونها السلام. نحن ، إذن ، في قلب المقولة المكيافيلية " الغاية تبرّر الوسيلة " ، أي أنّ كل شيء يصبح مباحا إذا كان يساعد على تحقيق الهدف ، حتى وإن كان هذا الشيء في طبيعته يقف في تعارض صارخ مع طبيعة الغاية المعلن عنها.
بالنسبة لعموم الناس وكثير من المفكرين والفلاسفة والناشطين في المجتمع المدني يجب أن يكون هناك توافق وانسجام بين طبيعة الوسائل وطبيعة الغايات ، فإذا كانت الغاية هي السلم والسلام فيلزم للوسائل أن تكون سلمية أي لابد للسلام كغاية أن تظهر عناصرُه ومقدماته وعلاماته في الأدوات والطرق المؤدية إليه ، مما يعني بكل بساطة تجنب الوسائل العنيفة كاللجوء إلى الحرب والمواجهة والصراع والمزايدة في الكلام بالسب وتلفيق التهم ، وتبني النقد الهدام .. ومن ثَم تعويضها بطرق عكسية كالتهدئة والحوار..
كان غاندي في الهند ومارتن كينغ لوثر في أمريكا ، وأيضا لانزا دل الفاسطو Lanza del vasto في أوروبا ، وآخرون من المفكرين في الشرق والغرب ، تفطنوا إلى أن السلام كما يتصوّره الكبارُ والأقوياء ليس سلاما حقيقيا لأنه مبنيّ سلفا على منطق القوة ويمكن له أن يؤدي إلى ارتكاب أخطاء ومظالم وتجاوزات واختراقات فيبتعد بذلك عن القانون والعدل . ويعتقد هؤلاء أن أول شيء يمكنه تفادي الفتن والحروب هو التعامل بعدل مع القضايا المختلَف عليها بين الأفراد والمجتمعات والدول. وهذا يعني مثلا أنّ تبنّي الحياد في القضايا التي لا غبار عليها كالقضية الفلسطينية العادلة هو أمر مرفوض لأن في السكوت عن التنديد بالاحتلال والمطالبة بتطبيق العدالة الدولية مساهمة في تكريس الممارسات العدوانية على المستعمَرين. وبالإضافة إلى تمسّكهم بمبدأ " التحرّك من أجل السلام يسبقه العملُ على تحقيق العدل " ، يهاجم دعاةُ السلام منطقَ " الحرب من أجل السلام " بناء على حقيقة تقول إنّ العنف الذي يمارَس أثناء الحروب يثير في أغلب الأحوال كما يؤكّد التاريخُ ذلك ردودَ فعل عنيفة تتبعها ردودُ فعل من نفس النوع عند الآخر وهكذا .. وهذا يعني بكل وضوح أن العنف يؤدّي إلى العنف الذي يصبحُ سجينَ منطق الفعل وردة الفعل الذي يمكن تصوّرُه كثعبان أو تنّين يأكل ذنبَه في حركة دائرية.
صحيح أن تصوّر العالم والآخر والذات من خلال ثقافة اللاعنف كفعل ورد فعل في آن واحد لشيء يبدو مجرّد أوطوبيا أي شيئا خارجا عن المعقول والحياة كفضاء تتجاذب فيه القوى البشرية وتتفاعل من خلال مصالح كل واحدة منها. بكلام آخر ، وعلى عكس الاشكال والوجوه المادية والتمظهرات العدوانية التي تتقمصها الحياةُ كصراع من أجل تحقيق الذات ومصالحها أو البقاء وإلغاء الآخر في حالة المواجهة ، تبدو ثقافةُ اللاعنف فكرةً غريبة عن حقيقة الإنسان كفضاء نفسي وعاطفي يسيطر الانفعالُ فيه على أغلب الأفعال والتصرّفات ، وظاهرةً أجنبية عن الحياة كشبكة من الصراعات والعلاقات المتوتّرة . نعم ، هذا صحيح ، لكن ما يميز الإنسانَ عن غيره من المخلوقات أنه أيضا كائن أخلاقي وعقل يفكّر ويتدبّر ويحلل الأشياءَ والأحداثَ بدراسة أسبابها ونتائجها وربط صورها الآنية بالماضي وما كانت عليه في الأمس واستنتاج القوانين العامة والخاصة المتحكمة في نشأتها وتطوّراتها.. ، وهو بهذا يُعتبَر طاقة قادرة على لعب أدوار إيجابية في النزاعات والانقسامات بين البشر ، وتبنّي الحيطة والحذر من كلّ ما من شأنه الزجّ بالإنسان إلى استعمال القوة بطرق مبالَغ فيها يمكنها أن تكون سببا في خلق الفوضى وزرع الخوف وحصد الأرواح وتخريب الأرض والنفوس... ألم يتساءل الفيلسوف الألماني سبينوزا حول القوة الفردية لفحص ما يجعلها تكون في تضاد مع العنف ؟ ألا يمكننا ، تبعا لما يطرحه في قسم كير من كتابه " الأخلاق " ، رؤية الفرد القوي الحر الواعي بحريته الحقيقيّة كإنسان يستقي " سلطتَه " قبل كل شيء من فهمه للعالم ، الشيء الذي يمكّنه من رفض نفسه أن يكون مجرّد لعبة في أيدي اللاعبين فيه ، وتجنبه كل انفعال يسبب الأحزانَ مثل كراهية الآخر والخوف من الموت واتباع رغبة الانتقام وتلبية نداء العنف ؟
تعوّد دعاةُ الحروب على القول بأن الحكم على استعمال القوة باعتبارها عنفا وشرا ترفضهما النفسُ المسالِمة هو تعبير عن وجهة نظر أخلاقية ، وترجمة لموقف ساذج وغبي لا يخدم في العمق قضية السلام بقدر ما يساهم في تكريس المواجهات والخلافات ، ويسبب في تهيىء أجواء الحرب . أما إذا قيّمنا الأشياء من منطلق سياسي فإن الحرب تصبح – دائما حسب هؤلاء - وسيلة ضرورية لفرض السلام خصوصا لمّا تُستنفَذ السبلُ السلمية والمعقولة وتصل الأزمة بين الجهات المتخاصمة إلى حالة ميئوس منها. هنا يستنجد المتحمّسون للحروب بتأويل كلام بول فاليري " لا يوجد بين البشر إلا علاقتان : المنطق أو الحرب " بطريقة تفيد أنهم حاولوا عن طريق العقل والتفكير المنطقي تجنب الحرب وما تسبّبه من ضحايا وخسائر مادية ومعنوية ، لكن الجهة الأخرى لم تفهم ولم تقبل فما كان عليهم إلا اللجوء إلى الوسيلة الأخيرة أي الحرب.
كل هذا جميل ومفهوم مبدئيا ، لكن لكي نفهم مقولة " الحرب من أجل السلام " علينا أن نعالجها بالضرورة في ضوء مقولة أخرى ، معروفة جدا ، تُعزى إلى تشرشل - ويستعملها محللو النزاعات المسلحة والمتخصصون في المواجهات العسكرية وكأنها تمثل القانونَ العام الذي يحكم كل حرب – تقول بأنّ " الضحية الأولى في الحروب هي الحقيقة ". وهذا يعني عموما أنّ ثلاثة أشياء تخضع إما لعمليات تعديل وتشويه ، وإمّا لعمليات تعتيم وإخفاء والتزام الصمت : أسباب الحرب ، وأهدافها ، وما يحصل في ميدان القتال .
إنّ الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء اندلاع الحروب يصعب على مَن لا يعمل في قلب الدوائر المخططة لها والمتصورة لاستعداداتها وتنظيماتها ومراحلها ، والمموّلة لها ، والجهات المسئولة عن اتخاذ القرار ببدايتها.. أن يحيطَ بها عِلما . لكنه يستطيع من خلال معرفة الخيوط العامة للخريطة السياسية والايديولوجية والاقتصادية للمناطق التي تجري فيها الأحداثُ الساخنة أن يتخمّن الحقيقة أو يلمّ ببعض جوانبها ، وبالخصوص إذا كان واقعُ علاقات القوة بين الفاعلين الكبار عالميا والمهتمّين بها لا يغيب عنه.
إنّ قراءة سريعة لتصريحات وتعليقات مديري العمليات العسكرية ومقارنتها بشهادات صحافيي ومصوري الحروب ، ومراسلي القنوات الفضائية والصحف الالكترونية والمكتوبة الذين يعملون في الميدان تساعد القارىء على أن تكون له فكرته الخاصة عن " الحقيقة " التي تسعى الجهة غير الشفافة إلى إخفائها عن الناس. وغالبا ما يقوم المسئولون السياسيون والعسكريون بتوحيد لغتهم وانتقاء مفرداتهم لإعطاء صورة جميلة وإيجابية عن الحرب التي يخوضونها ويتحملون تبعاتها. كم من مرّة سمعنا عبارات من نوع " حماية المدنيين " أو " العمل على حفظ الأمن والاستقرار " أو " الدفاع عن حقوق الإنسان " أو " تحرير الشعوب " ساقها المتدخلون عسكريا وسياسيا من مثل حلف الناتو وفرنسا في ليبيا ، والولايات الأمريكية وإنجلترا في العراق ، وبعد ذلك اكتشف العالم الحقيقة المُرّة أي أن التدخل كان من أجل أهداف غير معلن عنها أفرزت انقسامات داخلية في صفوف المواطنين والأحزاب السياسية والطوائف الدينية والجماعات الإثنية فتحولت إلى فتن طاحنة وحروب أهلية.
لا جدال في أنّ الحرب الإعلامية أثناء المعارك هي سلاح استراتيجي فعال يُمكّن قائدي العمليات العسكرية من التكتم على ما يحدث في أرض الواقع وعمليات القتال ، والإفصاح في أغلب الحالات فقط عما يخدم صفهم وقضيتهم. لكن هذه الحرب هي حرب نفسية بامتياز تقصد إلى تحطيم معنويات العدو ، بالإضافة إلى رفع معنويات الجنود المنتمين إلى راية الجهة التي تصدر عنها الأخبار. وهذا يعيد إلى ذاكرتنا فكرة يُضرب بها المثل تقول بأن " الحرب خدعة ". أرجو أن لا تكون قد نسيتَ ، أيها القارىء العارف بالتاريخ الإسلامي ، رائدَ الحرب النفسية أثناء المعارك ، الصحابي نعيم بن مسعود وكيف تعامل بحيلة ودهاء مع العدو في معركة الأحزاب المسماة أيضا بالخندق !
إذا كان الكذب في الأدب والشعر والفن عموما لا يمكن التعامل معه والحكم عليه بمعيار أخلاقي أو ديني إذ هو أولا وقبل كل شيء " كذب فني " تماما كما هو ضده إذ هو " صدق فني " ، فإن للحرب معجمها ومفاهيمها وقيمها وشرائعها. ومن ثَم فإن الكذب في الحرب هو من قبيل خلط الأوراق قصد تغييم رؤية العدو في تقييم الأوضاع والأشياء ، والزج به إلى ارتكاب أخطاء فادحة يمكنها أن تؤدّي به إلى الهزيمة.
ويبدأ الكذب في الحرب ، باعتباره وجها من وجوه الخديعة أو المناورة الاستراتيجية ، قبل اندلاع العمليات العسكرية بأسابيع بل وبأشهر وفي بعض الحالات بأكثر من ذلك . ويُعتمَد في ممارسة هذا الكذب على أداة أسلوبية هي " التكرار " لها تأثير إقناعي في نفوس عموم الناس وكلّ الجهات المقصودة بمحتوى خطاب الكذب . لكن الهدف منه يختلف باختلاف الظروف والسياقات ، والأنظمة السياسية والمصالح المتنازع عليها . ويكفي للتدليل على هذه الفكرة أن نحيل إلى الكيفية التي هيّئت بها أمريكا تدخّلَها في العراق ، وفرنسا في مالي.
ففي الحالة الأولى ، لجأت الإدارة الأمريكية ، تحت رئاسة بوش الصغير ، للدفاع عن كذبة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل إلى تجنيد كل طاقاتها واعتماد التكرارية المثيرة للدهشة قصد تضخيم هذه الكذبة. وكان الهدف من هذا التضخيم هو تحويل الكذبة إلى حقيقة في دماغ العالم، وبالتالي إثارة زوبعة دولية ، سياسية وإعلامية حول الأخطار الجسيمة الناتجة – حسب الكذبة - عن امتلاك العراق للسلاح المزعوم. هكذا سمح الاعتقادُ بصحة " أكبر كذبة ' في بداية القرن الواحد والعشرين للأمريكيين بصحبة كلبهم الوفي ، الإنجليزي طوني بلير ، بغزو العراق وإلحاق الدمار الشامل بأهله والخراب المستمر بأرضه. ولا يفوتنا أن نذكّر القارىء هنا بعنصر لعب دورا رئيسيا في تشجيع نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على غزو الكويت ، ولم يكن هذا العنصر غير كذبة أولبرايت وزيرة الشؤون الخارجية الأمريكية أيام بوش الكبير لمّا نسقت مع المخابرات - إثر علمهم بأن الجيش العراقي يخطط للهجوم على الكويت - ردةَ فعل روّجوا لها تقول بأنّ أمريكا لا تتدخل ولن تتدخل في شؤون العرب وهم أدرى بمشاكلهم وكيفية حلها. لكن ما أن وضع الجنود العراقيون أرجلهم في الكويت حتى غيّر الأمريكيون موقفهم وأعلنوا عن استعدادهم لفعل كل شيء لمساعدة بلد محتل على استرجاع سيادته. وبدأ منذ ذاك الحين العدّ التنازلي بصدد تغيير وجه منطقة الشرق الأوسط وتغيير خريطتها الجيوسياسية ..
ولا يمكن فهم حجم المفاجأة في الحالة الثانية أي دخول فرنسا في حرب ضد الجماعات الجهادية في مالي إلا بالوقوف على كذبة مكّنتها من تهيىء عملية السّرفال في تستر وهدوء بعيدا عن الصحافة ووسائل الإعلام ، وأيضا عن فضول المجتمع المدني الفرنسي وتساؤلاته القلقة الشرعية أمام غموض ما ستؤدي إليه سياسة التدخل العسكري في بلد أفريقي كان من قبل مستعمَرة فرنسية. وقد اعتقدت الجماعات المسلحة في مالي بصحة هذه الكذبة ولم تر فيها مناورة أو ما قد تنطوي عليه من خطة استعداد حربية ، فتقدمت في سذاجة وغرور نحو جنوب مالي قاصدة العاصمة باماكو. ولم تفطن للمخبّأ في هذه الكذبة إلا بعد أن باغثها القطُّ الوحشي الفرنسي الإفريقي بالهجوم عليها ودفعها إلى التراجع والهروب ملحقا بها خسائرَ فادحة معنوية ومادية .
ويبدو أن الكذبة أو المناورة السياسية التي سدّدت ضربة موجعة إلى الجماعات الجهادية تكمن في تصريحات الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزير الشؤون الخارجية لورون فابوس ، في العديد من وسائل الإعلام منذ شهر يوليوز 2012 ، تقول حرفيا ، وفي تكرارية لافتة للانتباه ، بأن فرنسا لن تتدخل أبدا في شؤون مالي. ألم يصرّح لورون فابوس مثلا في 12-7-2012 بجمعية الصحافة الدبلوماسية شارحا بعض أسباب اتخاذ فرنسا قرار عدم التدخل في مالي بقوله : " يوشك أن تكون هناك ردة فعل مستعملة ضد " المستعمِر " . نستطيع أن نساعدهم ، ونحن نساعدهم ، لكن تحمل المسؤوليات يعود للأفارقة بمساعدة دولية " ؟ ألم يقل فرانسوا هولاند مباشرة من قصر الإليزي في ندوة صحفية بتاريخ 13-11-2012 أي قبل شهرين من بداية عملية سرفال : " كيفما كان الحال ، لن تتدخل فرنسا في مالي أبدا " ؟ لماذا لم يقل هولاند مثلا : " لن تتدخل فرنسا إلا إذا اقتضت الحاجة ذلك " أو " عند الضرورة " أو " عند الاقتضاء " أو " بسبب قاهر " ؟
لمعرفة ما يخبأه الخطابُ السياسي عند الكبار ، أصحاب النفوذ في العالم ، لابد من الإلمام بنَحْو هذا الخطاب ولغته ومصطلحاته ، لهذا لما قال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بأنّ فرنسا لن تتدخل في مالي مهما كان الحال ، فَهِمَ العارفون بخبايا اللغة السياسية أن ما يقصده من " مهما كان الحال " أو " أبدا " هو " آن الأوان للدخول في المواجهة المسلحة ، وسنكون في الخط الأول " ! وهذا ما لم تُحِطْ به الجماعاتُ الجهادية عِلما !
ومن حق المرء أن يتساءل هنا : أليست الحرب نقيضا للسلام ؟ ألا تلجأ الحرب لاستعمال القوة في أعنف صورها فتقتل وتدمر وتخرب وتحرق .. وتغدو بذلك المرادفَ التام للشر ؟ عن أيّ سلام يتكلم إذن أصحابُ عقيدة الحرب من أجل السلام ؟
من المعلوم أن مقولة " الحرب من أجل السلام " أصبحت منذ زمان في عداد البديهيات أو الابجديات التي لا يجد دعاة الحروب حرجا من تكرارها على مسامع المهتمين بالنزاعات المسلحة أو المواطنين المعنيين بها مباشرة أو المعارضين لها. ولا يجد مفكرو وفلاسفة الحرب حرجا من الدفاع عن رؤيتهم بالقول أنه على كل من يريد الوصول إلى السلام أن يستعمل القوة لإقناع الخصم والعدو بضرورة التراجع أمام تقدمه أو التخلي عن المواجهة أمام زحفه ، ولابد من التعاطي للعنف حتى ولو كان في أبشع صوره وإظهار الشراسة الوحشية لزرع الرعب في صفوف العدو وتحطيم معنوياته ، والزج به في النهاية إلى قبول وقف المعركة وتسليم نفسه وطرح السلاح وقبول شروط المنتصر.
وبالرغم من أن منطق هذه الرؤية يُمكن مبدئيا أن نفهمه فإنّ تبرير الحرب بإرادة السلام التي توجد وراءه تعترضه الكثيرُ من الشكوك والأسئلة ، ومن بينها سؤالان رئيسيان . أولا ،هل يمكن رؤية فرض شروط المنتصر -مباشرة أو من خلال المؤسسات الدولية الخاضعة لقوانين من وحي الأقوياء وإملاءاتهم -على المهزوم كطريق يمكنه على المدى المتوسط والبعيد أن يؤدي إلى السلام ؟ ثانيا ، هل يمكن النظر إلى مقولة " الحرب من أجل السلام " على أنها صادقة فيما يخص إرادة تحقيق الهدف المعلن عنه ؟ بلغة أخرى هل تعبّر المقولة " الحربية السلمية " عن الحقيقة ؟
تكمن بعض عناصر الجواب عن السؤال الأول فيما يلي : اللجوء إلى الحرب واستعمال القوة العسكرية اللازمة وممارسة العنف في أشكاله المتعددة من إراقة الدماء وتحطيم سلاح العدو وتدمير البنيات التحتية .. ، هي الوسيلة التي تؤدّي – حسب اصحاب هذه العقيدة – إلى غاية يسمونها السلام. نحن ، إذن ، في قلب المقولة المكيافيلية " الغاية تبرّر الوسيلة " ، أي أنّ كل شيء يصبح مباحا إذا كان يساعد على تحقيق الهدف ، حتى وإن كان هذا الشيء في طبيعته يقف في تعارض صارخ مع طبيعة الغاية المعلن عنها.
بالنسبة لعموم الناس وكثير من المفكرين والفلاسفة والناشطين في المجتمع المدني يجب أن يكون هناك توافق وانسجام بين طبيعة الوسائل وطبيعة الغايات ، فإذا كانت الغاية هي السلم والسلام فيلزم للوسائل أن تكون سلمية أي لابد للسلام كغاية أن تظهر عناصرُه ومقدماته وعلاماته في الأدوات والطرق المؤدية إليه ، مما يعني بكل بساطة تجنب الوسائل العنيفة كاللجوء إلى الحرب والمواجهة والصراع والمزايدة في الكلام بالسب وتلفيق التهم ، وتبني النقد الهدام .. ومن ثَم تعويضها بطرق عكسية كالتهدئة والحوار..
كان غاندي في الهند ومارتن كينغ لوثر في أمريكا ، وأيضا لانزا دل الفاسطو Lanza del vasto في أوروبا ، وآخرون من المفكرين في الشرق والغرب ، تفطنوا إلى أن السلام كما يتصوّره الكبارُ والأقوياء ليس سلاما حقيقيا لأنه مبنيّ سلفا على منطق القوة ويمكن له أن يؤدي إلى ارتكاب أخطاء ومظالم وتجاوزات واختراقات فيبتعد بذلك عن القانون والعدل . ويعتقد هؤلاء أن أول شيء يمكنه تفادي الفتن والحروب هو التعامل بعدل مع القضايا المختلَف عليها بين الأفراد والمجتمعات والدول. وهذا يعني مثلا أنّ تبنّي الحياد في القضايا التي لا غبار عليها كالقضية الفلسطينية العادلة هو أمر مرفوض لأن في السكوت عن التنديد بالاحتلال والمطالبة بتطبيق العدالة الدولية مساهمة في تكريس الممارسات العدوانية على المستعمَرين. وبالإضافة إلى تمسّكهم بمبدأ " التحرّك من أجل السلام يسبقه العملُ على تحقيق العدل " ، يهاجم دعاةُ السلام منطقَ " الحرب من أجل السلام " بناء على حقيقة تقول إنّ العنف الذي يمارَس أثناء الحروب يثير في أغلب الأحوال كما يؤكّد التاريخُ ذلك ردودَ فعل عنيفة تتبعها ردودُ فعل من نفس النوع عند الآخر وهكذا .. وهذا يعني بكل وضوح أن العنف يؤدّي إلى العنف الذي يصبحُ سجينَ منطق الفعل وردة الفعل الذي يمكن تصوّرُه كثعبان أو تنّين يأكل ذنبَه في حركة دائرية.
صحيح أن تصوّر العالم والآخر والذات من خلال ثقافة اللاعنف كفعل ورد فعل في آن واحد لشيء يبدو مجرّد أوطوبيا أي شيئا خارجا عن المعقول والحياة كفضاء تتجاذب فيه القوى البشرية وتتفاعل من خلال مصالح كل واحدة منها. بكلام آخر ، وعلى عكس الاشكال والوجوه المادية والتمظهرات العدوانية التي تتقمصها الحياةُ كصراع من أجل تحقيق الذات ومصالحها أو البقاء وإلغاء الآخر في حالة المواجهة ، تبدو ثقافةُ اللاعنف فكرةً غريبة عن حقيقة الإنسان كفضاء نفسي وعاطفي يسيطر الانفعالُ فيه على أغلب الأفعال والتصرّفات ، وظاهرةً أجنبية عن الحياة كشبكة من الصراعات والعلاقات المتوتّرة . نعم ، هذا صحيح ، لكن ما يميز الإنسانَ عن غيره من المخلوقات أنه أيضا كائن أخلاقي وعقل يفكّر ويتدبّر ويحلل الأشياءَ والأحداثَ بدراسة أسبابها ونتائجها وربط صورها الآنية بالماضي وما كانت عليه في الأمس واستنتاج القوانين العامة والخاصة المتحكمة في نشأتها وتطوّراتها.. ، وهو بهذا يُعتبَر طاقة قادرة على لعب أدوار إيجابية في النزاعات والانقسامات بين البشر ، وتبنّي الحيطة والحذر من كلّ ما من شأنه الزجّ بالإنسان إلى استعمال القوة بطرق مبالَغ فيها يمكنها أن تكون سببا في خلق الفوضى وزرع الخوف وحصد الأرواح وتخريب الأرض والنفوس... ألم يتساءل الفيلسوف الألماني سبينوزا حول القوة الفردية لفحص ما يجعلها تكون في تضاد مع العنف ؟ ألا يمكننا ، تبعا لما يطرحه في قسم كير من كتابه " الأخلاق " ، رؤية الفرد القوي الحر الواعي بحريته الحقيقيّة كإنسان يستقي " سلطتَه " قبل كل شيء من فهمه للعالم ، الشيء الذي يمكّنه من رفض نفسه أن يكون مجرّد لعبة في أيدي اللاعبين فيه ، وتجنبه كل انفعال يسبب الأحزانَ مثل كراهية الآخر والخوف من الموت واتباع رغبة الانتقام وتلبية نداء العنف ؟
تعوّد دعاةُ الحروب على القول بأن الحكم على استعمال القوة باعتبارها عنفا وشرا ترفضهما النفسُ المسالِمة هو تعبير عن وجهة نظر أخلاقية ، وترجمة لموقف ساذج وغبي لا يخدم في العمق قضية السلام بقدر ما يساهم في تكريس المواجهات والخلافات ، ويسبب في تهيىء أجواء الحرب . أما إذا قيّمنا الأشياء من منطلق سياسي فإن الحرب تصبح – دائما حسب هؤلاء - وسيلة ضرورية لفرض السلام خصوصا لمّا تُستنفَذ السبلُ السلمية والمعقولة وتصل الأزمة بين الجهات المتخاصمة إلى حالة ميئوس منها. هنا يستنجد المتحمّسون للحروب بتأويل كلام بول فاليري " لا يوجد بين البشر إلا علاقتان : المنطق أو الحرب " بطريقة تفيد أنهم حاولوا عن طريق العقل والتفكير المنطقي تجنب الحرب وما تسبّبه من ضحايا وخسائر مادية ومعنوية ، لكن الجهة الأخرى لم تفهم ولم تقبل فما كان عليهم إلا اللجوء إلى الوسيلة الأخيرة أي الحرب.
كل هذا جميل ومفهوم مبدئيا ، لكن لكي نفهم مقولة " الحرب من أجل السلام " علينا أن نعالجها بالضرورة في ضوء مقولة أخرى ، معروفة جدا ، تُعزى إلى تشرشل - ويستعملها محللو النزاعات المسلحة والمتخصصون في المواجهات العسكرية وكأنها تمثل القانونَ العام الذي يحكم كل حرب – تقول بأنّ " الضحية الأولى في الحروب هي الحقيقة ". وهذا يعني عموما أنّ ثلاثة أشياء تخضع إما لعمليات تعديل وتشويه ، وإمّا لعمليات تعتيم وإخفاء والتزام الصمت : أسباب الحرب ، وأهدافها ، وما يحصل في ميدان القتال .
إنّ الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء اندلاع الحروب يصعب على مَن لا يعمل في قلب الدوائر المخططة لها والمتصورة لاستعداداتها وتنظيماتها ومراحلها ، والمموّلة لها ، والجهات المسئولة عن اتخاذ القرار ببدايتها.. أن يحيطَ بها عِلما . لكنه يستطيع من خلال معرفة الخيوط العامة للخريطة السياسية والايديولوجية والاقتصادية للمناطق التي تجري فيها الأحداثُ الساخنة أن يتخمّن الحقيقة أو يلمّ ببعض جوانبها ، وبالخصوص إذا كان واقعُ علاقات القوة بين الفاعلين الكبار عالميا والمهتمّين بها لا يغيب عنه.
إنّ قراءة سريعة لتصريحات وتعليقات مديري العمليات العسكرية ومقارنتها بشهادات صحافيي ومصوري الحروب ، ومراسلي القنوات الفضائية والصحف الالكترونية والمكتوبة الذين يعملون في الميدان تساعد القارىء على أن تكون له فكرته الخاصة عن " الحقيقة " التي تسعى الجهة غير الشفافة إلى إخفائها عن الناس. وغالبا ما يقوم المسئولون السياسيون والعسكريون بتوحيد لغتهم وانتقاء مفرداتهم لإعطاء صورة جميلة وإيجابية عن الحرب التي يخوضونها ويتحملون تبعاتها. كم من مرّة سمعنا عبارات من نوع " حماية المدنيين " أو " العمل على حفظ الأمن والاستقرار " أو " الدفاع عن حقوق الإنسان " أو " تحرير الشعوب " ساقها المتدخلون عسكريا وسياسيا من مثل حلف الناتو وفرنسا في ليبيا ، والولايات الأمريكية وإنجلترا في العراق ، وبعد ذلك اكتشف العالم الحقيقة المُرّة أي أن التدخل كان من أجل أهداف غير معلن عنها أفرزت انقسامات داخلية في صفوف المواطنين والأحزاب السياسية والطوائف الدينية والجماعات الإثنية فتحولت إلى فتن طاحنة وحروب أهلية.
لا جدال في أنّ الحرب الإعلامية أثناء المعارك هي سلاح استراتيجي فعال يُمكّن قائدي العمليات العسكرية من التكتم على ما يحدث في أرض الواقع وعمليات القتال ، والإفصاح في أغلب الحالات فقط عما يخدم صفهم وقضيتهم. لكن هذه الحرب هي حرب نفسية بامتياز تقصد إلى تحطيم معنويات العدو ، بالإضافة إلى رفع معنويات الجنود المنتمين إلى راية الجهة التي تصدر عنها الأخبار. وهذا يعيد إلى ذاكرتنا فكرة يُضرب بها المثل تقول بأن " الحرب خدعة ". أرجو أن لا تكون قد نسيتَ ، أيها القارىء العارف بالتاريخ الإسلامي ، رائدَ الحرب النفسية أثناء المعارك ، الصحابي نعيم بن مسعود وكيف تعامل بحيلة ودهاء مع العدو في معركة الأحزاب المسماة أيضا بالخندق !
إذا كان الكذب في الأدب والشعر والفن عموما لا يمكن التعامل معه والحكم عليه بمعيار أخلاقي أو ديني إذ هو أولا وقبل كل شيء " كذب فني " تماما كما هو ضده إذ هو " صدق فني " ، فإن للحرب معجمها ومفاهيمها وقيمها وشرائعها. ومن ثَم فإن الكذب في الحرب هو من قبيل خلط الأوراق قصد تغييم رؤية العدو في تقييم الأوضاع والأشياء ، والزج به إلى ارتكاب أخطاء فادحة يمكنها أن تؤدّي به إلى الهزيمة.
ويبدأ الكذب في الحرب ، باعتباره وجها من وجوه الخديعة أو المناورة الاستراتيجية ، قبل اندلاع العمليات العسكرية بأسابيع بل وبأشهر وفي بعض الحالات بأكثر من ذلك . ويُعتمَد في ممارسة هذا الكذب على أداة أسلوبية هي " التكرار " لها تأثير إقناعي في نفوس عموم الناس وكلّ الجهات المقصودة بمحتوى خطاب الكذب . لكن الهدف منه يختلف باختلاف الظروف والسياقات ، والأنظمة السياسية والمصالح المتنازع عليها . ويكفي للتدليل على هذه الفكرة أن نحيل إلى الكيفية التي هيّئت بها أمريكا تدخّلَها في العراق ، وفرنسا في مالي.
ففي الحالة الأولى ، لجأت الإدارة الأمريكية ، تحت رئاسة بوش الصغير ، للدفاع عن كذبة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل إلى تجنيد كل طاقاتها واعتماد التكرارية المثيرة للدهشة قصد تضخيم هذه الكذبة. وكان الهدف من هذا التضخيم هو تحويل الكذبة إلى حقيقة في دماغ العالم، وبالتالي إثارة زوبعة دولية ، سياسية وإعلامية حول الأخطار الجسيمة الناتجة – حسب الكذبة - عن امتلاك العراق للسلاح المزعوم. هكذا سمح الاعتقادُ بصحة " أكبر كذبة ' في بداية القرن الواحد والعشرين للأمريكيين بصحبة كلبهم الوفي ، الإنجليزي طوني بلير ، بغزو العراق وإلحاق الدمار الشامل بأهله والخراب المستمر بأرضه. ولا يفوتنا أن نذكّر القارىء هنا بعنصر لعب دورا رئيسيا في تشجيع نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على غزو الكويت ، ولم يكن هذا العنصر غير كذبة أولبرايت وزيرة الشؤون الخارجية الأمريكية أيام بوش الكبير لمّا نسقت مع المخابرات - إثر علمهم بأن الجيش العراقي يخطط للهجوم على الكويت - ردةَ فعل روّجوا لها تقول بأنّ أمريكا لا تتدخل ولن تتدخل في شؤون العرب وهم أدرى بمشاكلهم وكيفية حلها. لكن ما أن وضع الجنود العراقيون أرجلهم في الكويت حتى غيّر الأمريكيون موقفهم وأعلنوا عن استعدادهم لفعل كل شيء لمساعدة بلد محتل على استرجاع سيادته. وبدأ منذ ذاك الحين العدّ التنازلي بصدد تغيير وجه منطقة الشرق الأوسط وتغيير خريطتها الجيوسياسية ..
ولا يمكن فهم حجم المفاجأة في الحالة الثانية أي دخول فرنسا في حرب ضد الجماعات الجهادية في مالي إلا بالوقوف على كذبة مكّنتها من تهيىء عملية السّرفال في تستر وهدوء بعيدا عن الصحافة ووسائل الإعلام ، وأيضا عن فضول المجتمع المدني الفرنسي وتساؤلاته القلقة الشرعية أمام غموض ما ستؤدي إليه سياسة التدخل العسكري في بلد أفريقي كان من قبل مستعمَرة فرنسية. وقد اعتقدت الجماعات المسلحة في مالي بصحة هذه الكذبة ولم تر فيها مناورة أو ما قد تنطوي عليه من خطة استعداد حربية ، فتقدمت في سذاجة وغرور نحو جنوب مالي قاصدة العاصمة باماكو. ولم تفطن للمخبّأ في هذه الكذبة إلا بعد أن باغثها القطُّ الوحشي الفرنسي الإفريقي بالهجوم عليها ودفعها إلى التراجع والهروب ملحقا بها خسائرَ فادحة معنوية ومادية .
ويبدو أن الكذبة أو المناورة السياسية التي سدّدت ضربة موجعة إلى الجماعات الجهادية تكمن في تصريحات الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزير الشؤون الخارجية لورون فابوس ، في العديد من وسائل الإعلام منذ شهر يوليوز 2012 ، تقول حرفيا ، وفي تكرارية لافتة للانتباه ، بأن فرنسا لن تتدخل أبدا في شؤون مالي. ألم يصرّح لورون فابوس مثلا في 12-7-2012 بجمعية الصحافة الدبلوماسية شارحا بعض أسباب اتخاذ فرنسا قرار عدم التدخل في مالي بقوله : " يوشك أن تكون هناك ردة فعل مستعملة ضد " المستعمِر " . نستطيع أن نساعدهم ، ونحن نساعدهم ، لكن تحمل المسؤوليات يعود للأفارقة بمساعدة دولية " ؟ ألم يقل فرانسوا هولاند مباشرة من قصر الإليزي في ندوة صحفية بتاريخ 13-11-2012 أي قبل شهرين من بداية عملية سرفال : " كيفما كان الحال ، لن تتدخل فرنسا في مالي أبدا " ؟ لماذا لم يقل هولاند مثلا : " لن تتدخل فرنسا إلا إذا اقتضت الحاجة ذلك " أو " عند الضرورة " أو " عند الاقتضاء " أو " بسبب قاهر " ؟
لمعرفة ما يخبأه الخطابُ السياسي عند الكبار ، أصحاب النفوذ في العالم ، لابد من الإلمام بنَحْو هذا الخطاب ولغته ومصطلحاته ، لهذا لما قال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بأنّ فرنسا لن تتدخل في مالي مهما كان الحال ، فَهِمَ العارفون بخبايا اللغة السياسية أن ما يقصده من " مهما كان الحال " أو " أبدا " هو " آن الأوان للدخول في المواجهة المسلحة ، وسنكون في الخط الأول " ! وهذا ما لم تُحِطْ به الجماعاتُ الجهادية عِلما !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق