أطلت نداء خوري على المشهد الشعري والثقافي في هذه الديار كشاعرة رفيعة المستوى ، ومبدعة مختلفة لها شخصيتها الشعرية وأدواتها الفنية ، وأسلوبها الخاص ، ولغتها الخاصة ، وأيقونتها الكتابية الخاصة . وامتد صوتها الصادح في هذا المشهد العريض مترامي الأطراف ، الذي فيه ما يتشابه ويتشابك ، وفيه ما يشذ ومختلف ومغاير يكتب خصوصيته ، وذلك عبر قصائدها الجميلة التي نشرتها على صفحات المجلات والدوريات والملاحق الثقافية الفلسطينية وأصدرتها في مجاميع شعرية بلغ عددها أحد عشرة ديواناً ، وأيضاً من خلال مشاركتها في الندوات الأدبية والنشاطات الثقافية والأمسيات الشعرية .
وقد جاءت نصوصها وكلماتها لتشف عن روح وثابة ومقاتلة رافضة للقيود والسلاسل التي تكبل المرأة ، وللقيم والأفكار الرجعية المتزمتة التي تجعل منها أسيرة وسجينة أدوات حياتية ، ونجدها تتمسك بحريتها وتتمرد على كل المسلمات والتقاليد الاجتماعية البالية والفرضيات الإنسانية المقيتة التي تحد من طموح الأنثى وتغتال إنسانيتها ولا تقر بحقها في الحياة والوجود الإنساني .
إنها صوت يتحلى بالجرأة والشجاعة في البوح الصادق عن نبضات وارتعاشات الجسد واشراقات الروح الأنثوية ، والتعبير عن الرؤى والمواقف تجاه قضايا المرأة ، وتصوير التجارب والمشاهد الحسية ، وكانت عنونت إحدى قصائدها بـ "حبل غسيل جسدي" .
وفي قصائدها نلمس تلك الروح الرومانسية الهائمة الحالمة الثائرة المتفجرة بالغضب ، التي ترفض القيد وكل ما هو سائد ومألوف ، وهي بذلك تتجاوز نصوص الكثير من الشاعرات العربيات والفلسطينيات المحدثات . وتدل موضوعاتها وعناوينها ودلالاتها النفسية ، وما تحمله من إشارات ودلالات وإيحاءات ورموز على مراحل تجربتها الإبداعية ونضوجها الفني .
نداء خوري شاعرة تساورها مشاعر الغربة الروحية والفكرية في عالم قاهر للذات النفسي والجسدي ، وذات تجربة شعرية خصبة تحتشد بصور الألم والمعاناة على الصعيدين الخاص والعام ، وينطوي نصها الشعري على قلق ذاتي اضطرابي ، فردي وجمعي ، ونقرأ فيه وجه المرأة المستلبة والمظلومة ، والوطن ، والإنسان ، وذكريات الماضي الجميل ، وروح الثورة والتمرد ، ولغة الجسد الذي مزقته الهزائم والنكبات .
والقارئ لدواوين نداء يجد العمق الجدلي والتخييل الذاتي الشعري ، وما تمثله وتجسده نصوصها من مشروع إبداعي تحرري منحاز لقضايا المرأة وانتصار لحريتها ، وتعامل المجتمع العربي التقليدي الذكوري معها ، الذي يهينها ويمسخها ويهمشها ويحاصرها . ويشعر بالومض الخافت للهب ، والثورة النفسية التي تضطرب في أعماقها وصدرها وتكشف الأسرار سحيقة الأغوار في روحها المتمردة من ترابية الجسد ، الذي طالما سبح في مفاهيم دونية أساءت إليه .
إن كتابة نداء خوري متورطة في الجسد الذي يحتل الحيز الكبير موقع الصدارة في كتاباتها الشعرية الحافلة برؤية ابستمولوجية للفعل الإنساني في علاقته بالجسد الذي يأبى الصمت والخفوت واضطرام أواره . وتجربتها في ذلك تمثل نموذجاً متميزاً ومتفرداً للشعر النسوي الإنساني الذي يعيد الاعتبار للجسد والروح الأنثوية . وعن الجسد في شعرها تقول نداء في احد الحوارات معها : " الجسد هو الدليل القاطع على عبثية وجودنا ، وهو إثبات لعبور الروح في هذه الدنيا ، هو تجسيد لذواتنا ، هو العنوان الذي نقيم به، هو العنوان لزمن لنا ، وللجسد جمال وشهوة وملائكية . وله سقوط ونزوة ، للجسد احترام وقدسية كما أن له خطاياه وجروحاته وآلامه . والجسد إطار الروح ، هو لنا إطار في الحياة كما هو لنا إطار لصورنا عندما ندخل إليها ونسكن الجدار بعد الموت ، أجسادنا حواجز تقضي ونحن نحاول أن نتجاوزها ونعبر منها إلى الآتي ، ألسنا نحن شعب العبور وأناس العبور ما بين أسطورة الزمن ومعصية الوجود . اوليست ضحايانا أجسادا تتقدم ، متمردة على روحها ، وقوة الحياة تدفعها إلى نفي الحياة ، لأجل أن تحقق الروح ذاتها . وهل لأحد فينا أن يعترف إلى أي حد نحن مشغولون بكيف تحقق الروح ذاتها داخل الجسد ".
ومن أشعار نداء التي تحكي عن لغة الجسد وعمق المشاعر الإنسانية الدافئة ، وتلامس هموم المرأة العربية وعذابها ، وتعانق الحب والحلم والحرية عبر بوابة نسيم الحياة وكل ما هو جميل فيها ، نقتطف هذه السطور :
العطش من جسد نساء
أشلح عيوني لأنام
عارية
من عيون الناس
يأتيني الماء
يعلمني وجع العري
وسر البكاء
يشربني
يبل ريقه
ينهنه ويحمد ربه الذي
خلق العطش من جسد نساء
ولنداء خوري ديوان بعنوان "الخلل" وفيه ترتقي بجماليات الكتابة الشعرية ، وتطمح إلى لغة تتجسد فيها الحياة ، الحب ، الضياء ، حيث ينتصر الخير على الشر ، والنور على الظلمة ، والحياة على الموت ، لغة تعيد للإنسان صورته الإنسانية الحقيقية . والخلل الذي تتحدث عنه وتعنيه هو الخلل القائم في حياتنا الاجتماعية والسياسية وسلوكيات وأخلاقيات الناس وممارسات رجال الدين ، فضلاً عن الفوضى والتسيب والانحلال الذي اجتاح مجتمعنا بفعل الثقافة الاستهلاكية المتعولمة ، ومن واجبنا كمثقفين ومبدعين ومصلحين العمل على تغييره وإصلاحه .
وهو ديوان يمثل صرخة المرأة المقهورة المظلومة في مجتمع رجعي متخلف لا يعرف الرحمة ، ولا يؤمن بالحرية ، ويصادر حقها باتخاذ القرار ، ويمنع عنها الميراث ، إنه ثورة على المسلمات وقيود المجتمع وقيمه المتوارثة واستعباد الرجل ومصير الأنثى ومستقبلها . وفيه تصور شاعرتنا نداء خوري شفافية الروح التي تبحث عن المطلق ، عن المثال ، عن الجوهر ، عن انتصار الروح على كل ما يحيط بالواقع من خلل .
إن قصائد نداء خوري إنسانية وانسيابية مفعمة بالجدة والدهشة والرقة الأنثوية والعبق الشاعري ، وتغرق بالوجد والمؤانسة ولغة الجسد ، وتمنح الحروف جمالاً والقاً وأنوثة تثير الكلمات . وهي ذات قيمة وأبعاد إنسانية بإطار فلسفي ، تبتعد عن التقريرية والمبالغة ، وتزخر بالصور الشعرية الراقية والمعاني الخلابة ، واللغة المتميزة بالنضارة والجمال والتعبير البلاغي البديع والجميل ، وتوظف فيها العبارات والرموز الدينية للتعبير عن عالمها الداخلي والروحي .
وفي الإجمال ، نداء خوري شاعرة متألقة ومتأنقة ، وشاعرة الصورة الشعرية الجمالية ، تسكن روحها لغة الجسد ، وكتابتها تتميز بنوعية خاصة ترتكز على البوح والإلهام الشعري والإيضاح الجريء عن رغبات الروح والجسد وما يحفل بهما من طاقات وافتنان ، والتداخل بينها وبين الجسد يمنحنا الدفء الإنساني ، ويعطينا قمة الأداء الشعري .
0 comments:
إرسال تعليق