النحت فن كباقي الفنون كالرسم، الموسيقى، التمثيل، التصوير وغيرها كما الآداب من شعر، قصص رويات ومقالات... هي حاجة انسانية لا تشيخ ولا يأتي عليها القدم لأنها ترفد الإنسان بطاقة دفاقة، تفتح الآفاق، تطرق الأبواب المسكوت عنها من المورثات الإجتماعية البالية التي تقعد الإنسان وتفقده حس الرؤيا والتفكير في غدٍ أفضل عماده القيم الإنسانية السامية في عالم تحاصره الماديات وتسوده شريعة الغاب وتفقده حس التذوّق.
الفنان النحات توفيق مراد له لغته المميزة، اشكالاً لها ابعاد تعبيرية منها الواضح والصريح او الكامن في عمق المنحوته التي تعكس فكرة، وهو الذي اختار منشاره و ازميله ليحفر معاناته التي تنطق بدون فم او لسان، ويجسد ما تختزن الذاكرة في لوحاته ويجعل من الحلم حقائق ملموسة ، في صياغات عديدة ومتعددة ولها مفهوماً حقيقياً راقٍ يشتمل على المجاز والمحاكاة والرمز... في الصوّر والأشكال الثلاثية الأبعاد، الوطني، التراثي التاريخي والبعد الديني والروحي هذه الأبعاد التي يظهرها مراد من خلال منحوتاته التي تحاكي الحب والحنين والغيرة والجمال والأمل... ويعطي مراد الشجرة عمراً ابدياً دائم الخضرة والنضارة، يغرس عروقها في اعين الناظرين حتى لزمان لم يأتِ بعد...
معرض مراد ومشغله غابة من الأرز والسنديان، المنحوتة التي توثق لتاريخ لبنان،اماكنه ورجالاته، كفخر الدين،قدموس وجبران وغيرهم ، رغم سنوات الغربة الطويلة ما زال لبنان يسكن في وعية وحتى في لا وعيه، وهذا ما تلمسه في لوحاته وتأنسه في حديثه.
البعد التراثي، يتجلى في اللوحة التي تصوّر جدّ مراد (جميل) في الشروال واللبادة والشاربين العريضين المفتولين وبندقية الصيد، هذه اللوحة بالذات تشكل صورة لرجالات لبنان الذين يشكلون القاسم المشترك الأكبر بين اللبنانيين من مشرق البلاد الى مغربها ومن شمالها الى جنوبها رغم اختلاف كَتَبَةُ التاريخ اللبناني على هذا التأريخ حيث لكل فئة مفهومها لا بل كتابها الخاص بهذا التاريخ.
اللوحة فعلاً تحفرعلى المحيا حباً وتعلقاً بالأرض ومدى التصاق اللبناني بها. ويشترك البعد التراثي مع البعد الوطني الذي خصصه مراد بلوحة تحمل شعار الجيش اللبناني بشرفه وتضحياته ووفائه، ولم يغب الحلم الوطني عن لوحات مراد فكانت لوحة الهدف المنشود التي من خلالها يجسّد حلمه الوطني بالحرية والعدالة والمساواة في ظلال الأرز.
اما البعد الديني فيجسده مراد في لوحة (سلامي اعطيكم) التي يبدو فيها السيد المسيح مسمّراً من أجل خلاص البشرية بالإضافة الى لوحات لقديسين من لبنان واستراليا.
وللهجرة قصة مع مراد كما مع كل لبناني مهاجر، فقد هاجر مراد عام 1969 وهو في ريعان الشباب في عمر الثانية والعشرين، هذه القصة نحتها مراد في لوحة معبّرة (السفينة الفينيقية) وفيها البعد الثقافي وحب المغامرة وطائر الفينيق الذي احترق وبعث مجدداً من الرماد كما تقول الأسطورة.
نشير الى ان مراد الذي عشق النحت منذ نعومة اظافره، افتتح اول مشغل له في طرابلس لبنان وهو ابن العشرين، وعرضت اعماله في لبنان واستراليا وتم توثيق اعماله وحياته من قبل التلفزيون الوطني الأسترالي(اي بي سي) والقناة العاشرة، وفي لبنان اجرى تلفزيون LBC تحقيقاً موسعاً عن اعمال مراد التي تعكس تجاربه وأفكاره سواء كان في لبنان او استراليا.
أخيراُ، لقد استطاع مراد سبر أغوار فنية بعيدة تدلّ على عشق وحب ورؤيا وايمان وإبداع فني مليئ بالحس الإنساني والذوق الرفيع فوصل الماضي بالحاضر، وأضاء على المستقبل من خلال شعلة الأمل التي تتجلى في معظم اعماله .
سدني
0 comments:
إرسال تعليق