مطالبٌ شعبية من فصائل الثورة الفلسطينية "1"/ د. مصطفى يوسف اللداوي


كثيرةٌ هي مطالب عامة الشعب الفلسطيني من فصائل الثورة الفلسطينية، وقادة العمل الوطني فيها، وهي مطالبٌ قديمة ومستجدة، كانت تتفاعل في نفوسهم قبل الثورات العربية بسنواتٍ ومازالت تسكن قلوبهم ولم تغادر، وقد كان لديهم الجرأة الكافية لأن يصدحوا بمواقفهم، ويعبروا عن أرائهم، ويوجهوا النقد الذي يرونه لمن يستحقه، ولكنهم كانوا يخشون على الثورة، ويحرصون على الوطن، ويخافون على صورة قضيتهم، ويعملون بجد للحفاظ على صورتهم الفلسطينية الناصعة لدى حلفائهم وإخوانهم، فقد كانوا يقبضون من أجل وطنهم على الجمر المتقد، ولكنهم اليوم وفي ظل موسم الثورات الشعبية، يرون أهمية وضرورة أن يواجهوا قيادتهم بما يرونه فيهم عيوباً وتقصيراً وانحرافاً، وأن يطالبوهم بما يرونه حقاً لهم ولشعبهم وقضيتهم، وملكاً لأمتهم ولأجيالهم من بعدهم، ولعل عامة الشعب الفلسطيني يرى ما لا يراه قادة الفصائل الفلسطينية، ويعرفون عن تفاصيل قضيتهم وخبايا مشكلتهم أكثر مما يعرف ويدرك قادة الشعب الفلسطيني، إذ أنهم يعيشون على أرضهم، وبين أهلهم، في وطنهم أو شتاتهم، يدرسون قضيتهم ويتابعون تفاصيلها، ويعانون من عدوهم ويكتوون بظلمه، ويقاسون من اعتداءه واحتلاله، ويستمعون إلى مختلف وجهات النظر الشعبية، التي لا تعرف الكذب، ولا تتقن النفاق، ولا تتعمد التصنع والتجمل، وكل همها هو الحقيقة، مهما كانت مرة وقاسية.

أم يظن قادة فصائل الثورة الفلسطينية على اختلاف طيفها السياسي، وتباينها الفكري، أن الشعب الفلسطيني لا رأي له، ولا وجهة نظر عنده، ولا عقل مميزٍ له، وأنه لا يتابع ولا يراقب، ولا يحفظ ولا يسجل، ولا يقارن ولا يناظر، وأنه يحسن التقليد، ويتقن التبعية، ويسلم للقيادة بما ترى، فالرأي رأيها، والمشورة مشورتها، وأن القرار عنده هو ما تتخذه قيادة الفصائل، ولهذا فإنهم يرون أنه لزامٌ على الفلسطينيين أن يسلموا للقيادة بما ترى، وأن عليهم ألا يرفعوا أصواتهم معارضين لها، أو مخالفين لسياستها، أو رافضين الإلتزام بقراراتها، أو الخضوع لتعليماتها، وأنه لا يحق للنخبة الفلسطينية والعامة أن تسجل عليهم العيوب، أو أن تعد عليهم الأخطاء، كما لا ينبغي لها أن توجه لهم النصح والإرشاد، أو أن تقوم بدور الرقيب والمفتش، والمتابع والمدقق، فهذه ليست من مهامهم كما أنها ليست من اختصاصاتهم، إذ أن المطلوب منهم فقط هو أن يصفقوا للقيادة عندما يذكرُ اسمها، ويهتفون لها عندما تقف أمام المنابر تخاطب الجماهير، أو تطل عليهم من النوافذ والشبابيك، كما أن من واجبهم أن ينبروا للدفاع عن قيادتهم وعن مواقفها، في الخطأ والصواب والحق والباطل، عندما يحاول البعض النيل منها أو الإساءة إليها، أو التعريض بها، أو توجيه النقد إليها.

الفلسطينيون أصبحوا أهل خبرةٍ ودراية، وأصحاب تجربةٍ ومدرسة، فصغيرهم كما كبيرهم خبيرٌ في السياسة، يحفظ التواريخ ويشارك في الأحداث والمناسبات، وله في كل حدثٍ ومناسبة رأيٌ ووجهة نظر، ولكلٍ ولاءه السياسي وانتماءه الحزبي، ولديه القدرة أن يخضع أراء مختلف الفصائل الفلسطينية للتدقيق والمعاينة، والاتزان والرجحان، أو المغامرة والمقامرة، فقد مضى على نكبتهم نيفٌ وستون عاماً، وقد خاضوا حروباً عدة، ومعارك قاسية، منها حرب النكسة التي شردت المشرد فيهم، وأجبرت اللاجئ على اللجوء من جديد، وزادت في القيد قيدٌ جديد، وأضافت إلى المعاناة معاناةً جديدة، فضلاً عن العديد من الحروب الموضعية، والاجتياحات المكانية، وأعمال القصف والتدمير والتخريب، والطرد والترحيل وغيرها الكثير، الأمر الذي جعل من عامة الفلسطينيين أطرافاً في هذه المعادلة السياسية، والمعركة العسكرية، يؤثرون فيها ويتأثرون بها، ولهذا فلا يعتقدن أحدٌ من قادة فصائل الثورة الفلسطينية أن صمت الفلسطينيين عجز، أو أن سكوتهم رضى، أو أن عدم ثورتهم هي قبول بالأمر الواقع، أو أنهم حيرى وضعافٌ وخائفين ومترددين، وأنهم جبناء لا يقوون على المعارضة، وضعفاء لا يقدرون على المغامرة، أو أن تجربتهم ضحلة، وخبرتهم محدودة، أو أن ألسنتهم عيية، وأقلامهم مكسورة، وأحبارهم جافة.

قد تجدون فيما سيلي ويتبع من هذه المقالات المتسلسلة، أن الشعب الفلسطيني لا ينسى ولا يغفل، وأنه يمهل ولا يهمل، وأنه يحفظ صغائر الأمور قبل عظائمها، وأن لديه أراءاً راجحة، وعقولاً سديدة، وأحكاماً واقعية، ومواقف حكيمة، وقدرة كبيرة على المتابعة والمراقبة والرصد والنقد والتوجيه والإرشاد، وأنه عندما ينوي تشخيص المرض، فإنه لا يتوقف عند الألم، ولا يرده عن عزمه الصراخُ ولا العويل، ولا يرهبه تهديد مسؤولٍ أو تحذير مستفيد، وستكون كلمته كما الطلقة لا ترتد ولا تعود، وصوته كما الرعد لا تسكته قوة، ولا تخفف من قوته جلبة، وسيسلط الضوء المبهر على العيوب والأخطاء، والمزالق والمخاطر، حتى ولو تأذت من شدة الضوء عيونٌ، وتصدعت منه رؤوس، فشعبنا تقود خطاه مصالحُه، وتصوبُ طريقه مفاهميه وثوابته، ولهذا فإن لديه القدرة الكبيرة على أن يعدد العيوب والنقائص، وأن يوجه النقد والنصائح، ويحمل قياديين المسؤولية، ويبرئ آخرين منها، في هذا الزمان وفي الأزمنة التي سبقت، وفي ظل هذه الأحداث، وفي تلك التي وقعت وانقضت، إذ أن معاييره هي المصلحة الشعبية، وثوابته الوطنية والقومية، التي يحتكم إليها عند كل حدثٍ وقضية.

ما سيلي ويتبع جهدُ كثيرين، ورأي عديدين من أبناء شعبنا الفلسطيني، ممن يرون الكثير، ويعرفون الأكثر، وممن يمتلكون الرأي والدليل، وممن كانوا شهوداً أو مشاركين، ومنهم أبناء جيلٍ كان في فيهم ماءُ، فتعذر عليهم النطق والنصح والبيان، لتهديدٍ أو تحذير، ولكن جاء وقتٌ انطلق فيه لسانهم، وتحرر بيانهم، وأصبحوا على الصدح بالحق أقدر، والنطق بالصدق أبلغ، وهم أصحاب الحق، وأهل القضية، فلنتابع ونقرأ، ولنشارك ونساهم بما نرى ونشهد، وليكن هدفنا هو الوطن الواحد، والأرض الموحدة، والقضية المقدسة، والشعب المجاهد الصابر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق