قبل نحو من نيف وثلاثين عاما، كانت لدينا وزارات للثقافة في الوطن العربي، تحتضن الإبداعات الفنية والثقافية، وتقدم لها العون والمساعدة. وكان جل العاملين في هذه الوزارات، من المبدعين العرب، الذين قدر لهم أن يجتازوا الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التي كانت تعصف بالوطن الكبير، وحافظوا على أصالتهم القومية باستخدام إبداعاتهم الفنية لتسير جنبا إلى جنب مع أهداف الأمة وقضاياها الكبيرة. فكنا نجد الكاتب المسرحي، والمخرج، والممثل، والرسام، والشاعر، وكاتب القصة، والرواية.. كلهم كانوا يجتمعون على هدف واحد لا يملون العمل جماعة وفرادى، على الرغم من المردود المتواضع أو المعدوم في كثير من الأحيان، لكن نجاح العمل واهتمامات الجمهور كانت اكبر جائزة مادية ومعنوية يتقبلها المبدع ويندفع بها إلى مزيد من العمل والعطاء.
ولا أذكر أن الوزارات في تلك الظروف كانت تحفل بالألقاب العلمية التي تكثر في زماننا ويصدمنا الواقع بها، بل كانت تنظر إلى الإبداع من حيث هو دعوة إلى التغيير والتطوير، فاللقب العلمي لا يصنع إبداعا، والإبداع في نظر المثقفين، لا يقوم بما لصاحبه من شهادات أو نفوذ.
فكانت الوزارات كلها تخلوا من مظاهر الزيف، ولطالما قامت الوفود الشبابية المبدعة، بتبادل الزيارات، وتقديم الإعمال الفنية بأسلوب الدعوة العامة. ومن السهل جداً أن يقرر المرء بأن الموظف في تلك الوزارات لم يكن موظفاً عادياً، وأنت تعرفه من أعماله الإبداعية، ودأبه في العمل وصبره على تذليل الصعوبات، ولست تعرفه من بدلته الرسمية وسيارته الفارهة وشهادته العلمية.
وكان في كل دولة كما هو في كل مدينة، ثمة ما يشبه الهيئة أو المؤسسة غير الرسمية تشتمل على كوادر شابة متواضعة متطوعة محدودة العدد من هواة التمثيل والإخراج والرسم والشعر تعمل إلى جانب الوزارات بجد وإخلاص عظيمين وكانت هذه الكوادر تنتج بإمكاناتها الشحيحة المسرحيات والإعمال الفنية ومعارض الرسومات ومهرجانات الشعر والندوات الثقافية وغيرها.
ويكفي أن نعلم أن أفضل المسرحيات على الإطلاق أنتج في تلك السنوات، وأفضل المسلسلات العربية في عمان ودمشق وبيروت وتونس والكويت وغيرها، تمت مبادلتها بدرجة عالية من الثقة بأهمية الثقافة والفن في توجيه الرأي العام، ولفت انظار العالم إلى قضايانا الكبيرة. أضف إلى ذلك ظهور أفضل الكتب العلمية المترجمة والروايات والقصص ودواوين الشعر الجديدة ومعارض الرسومات التي شاركت في كثير من دول العالم. ويستطيع المرء أن يصنفها من المستوى الجيد، بدليل أننا مازلنا نستخدمها ونرجع إليها ولم تظهر كتب جديدة تلغيها.
وكنا نحسب آنذاك، أن الأمور إذا ما استمرت على هذا المنوال فإننا سنشهد في المستقبل حركة فنية وثقافية رائدة على مستوى الوطن العربي كله, ما الذي حصل؟! لماذا تردى الإنتاج العلمي والأدبي وتراجعت أعمال الإبداع في المسرح والرسم والشعر الجيد؟! لماذا انسحب الكتّاب من ميادين الفكر والبحث والمشارك الناقدة؟! لماذا لم يكن للثقافة هذا الجمهور العريض الذي نشهده للألعاب الرياضية ومهرجانات الرقص والغناء ووسائل الترفيه والتسلية؟!
لم يطرأ على الثقافة الأصيلة والفكر وأعمال الإبداع أي تطوير بعد تلك السنوات، والذي حصل أن نسبة الإنتاج بقيت كما هي ولم يظهر ما يستحق الذكر من أعمال إبداعية، فلا السينما ظهرت ولا إنتاج المسرح تجدد أو ازداد، ناهيك عن أعمال التلفزة التي تراجعت إلى حد كبير إن لم تكن قد توقفت في بعض البلدان العربية.
يحدث كل هذا أمام زيادة فرص التعلم والتعليم وسيطرت ثقافة التسلية على عقليات الشباب، التي تحولت إلى طفيليات توجهها المحطات الفضائية على عكس ما نشاهده في بلدان العالم الغربي والأوروبي، وبلدان عربية قليلة منها مجاورة لنا في الأردن. فالفن مثلاً في سورية متطور وتجاربه متنوعة، بدليل سيطرته على أذواق الجماهير عبر المحطات الفضائية، وفي لبنان توجد حركة ثقافية رائدة ومتقدمة وتوجد موسيقى ومسرح، رغم الظروف السياسية والاقتصادية التي تعصف بهذا القطر الشقيق.
وفي العراق أيضا فان ظروف الحرب منذ عشرين سنة وما تبعها من خراب ودمار، لم تحل دون تطور الفنون واكتساب تجارب جديدة، أظهرها الفنانون العراقيون في مجال الغناء والشعر والقصة والرسم وما شابه ذلك، وبالتالي حق لنا التساؤل في أسباب تراجع الأعمال الإبداعية وتعثر مسالكها.
إن الفن في كل مكان لا يكون ناجحاً، إلا إذا كان أصيلا نقدياً معبراً عن لحظة تاريخية، وساعياً إلى تطوير وسائله باستمرار لكي يخلق حاجات ومتطلبات جديدة لدى جماهيره من المشاهدين والقراء، مع السعي الدائم لاجتذاب رواده دون التراجع إلى المستوى الهابط أو ما يعرف بـ ((التجاري)).
لا شك أن لدينا مشكلة، فالمسرح متعطل تعطلاً شبه تام فلا يقوم بدوره، والتلفزيون يقتات على فضلات ما تنتجه المحطات العربية أو ما يصله على سبيل الإهداء من المحطات الأجنبية، وقد توقف هذا الجهاز-وأنا أقصد التلفزيون الأردني- حتى عن إنتاج الأعمال الشعبية وأعمال الدراما التي تفوق بها الفنان الأردني تمثيلاً وإخراجاً، ولها جمهورها الواسع في البلاد العربية. ولعل تفاصيل الإدارة في التلفزيون تكاد تقمع كل إشكال الإبداع الفني والثقافي وتجاربنا كثيرة وهي مرة.
وكذلك الحال بالنسبة إلى محطة الإذاعة، فلا توجد محطة في العالم تهمل أعمال المبدعين التي تصلها عن طريق البريد – وأنا أقصد الإذاعة الأردنية - وتشترط حضور الشخص نفسه إلى مبنى الإذاعة، في الوقت الذي يكثر فيه الحرس والجنود على بوابة هذه المؤسسة، ويمنعون الشخص من الدخول إلا إذا توصل إلى صديق أو قريب، يسعفه بتصريح دخول إلى المبنى ويحار من أين يبدأ ومن أين ينتهي؟!
والشيء العجيب أن الديوان في مؤسستي الإذاعة والتلفزيون لا يعمل، وقد مضى لي أكثر من عشرين سنة أتعامل فيها مع هذه المؤسسة، ولم أتوصل بعد إلى كتاب رسمي يجيب على مخاطباتي ويحفظ لي حقي بالمادة التي أتقدم بها، ولا ادري ما هو مصير المواد التي لا تقبل؟! وما هو واجب موظف الديوان؟! وما دمت أتحدث عن تجربة عشرين سنة مضت فهذا يعني أن لدي الكثير..!!
لقد خلقت مثل هذه المظاهر حالة من الإحباط لدى كل الفئات المبدعة، فالعلاقة بين الثقافة والإعلام لا انفصام لها، إذ لا يمكن تصور الثقافة بدون تعبير وسائل الإعلام المختلفة، ولا سبيل أمام أجهزة الإعلام إلى النجاح بدون زاد ثقافي يشد اهتمام الجمهور إليها، ويسمح لها بإبلاغ رسالاتها في مختلف المجالات. وإذا كانت الحكومات تستنجد بالجماهير الشعبية إذا جد جدها، فإن هذه الجماهير محبطة الآن، ولا حول لها ولا قوة، ولا يؤخذ لها برأي، وهي تعيش تحت وطأة أرضية موروثة لا تتيح لها فرص حقيقية للدفاع عن كيانها الثقافي والإبداعي، خاصة بعد تحول الثقافة إلى شللية ومحسوبية يتم من خلالها إبعاد الآخرين.
فالثقافة ليست ترفاً نخبوياً، كما أنها ليست طلاء خارجياً زاهياً خادعاً، وهي لا تشتري من دكان الجندي ولا تباع في السوق الحرة، إنما هي بحد ذاتها التزام أخلاقي ووطني لأنها في نهاية المطاف موقع في الصراع وموقف، وهي ليست عدواً للحكومة ولا تنفر منها ولا تقطع صلتها بها، فحري بنا أن نفتح هذا الملف للمناقشة ومعرفة أسباب انحسار الثقافة في بلادنا وغياب عناصر الإبداع الفني والفكري والأدبي؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق