ذكرى النكبة وأفراح المصالحة/ د. مصطفى يوسف اللداوي

مشاعرُ فرحٍ وألم، وسعادةٍ وغصة، وأمالٍ وآلام، وطموحاتٍ وذكريات، يعيشها الفلسطينيون في كل مكان، الكبار والصغار، الرجال والنساء، اللاجئون والمواطنون، في فلسطين وخارجها، ومعهم جموعٌ كبيرة من جماهير الأمة العربية والإسلامية، التي لاتنسى هذا اليوم الحزين، وذكرى النكبة العظمى التي حلت بالأمة العربية والإسلامية عندما ضاعت فلسطين، وأعلنت الحركة الصهيونية تأسيس كيانهم فوق أرض فلسطين، بعد أن شردت مئات آلاف الفلسطينيين من مدنهم وقراهم وبيوتهم، واغتصبت أرضهم وممتلكاتهم، ليحل مكانهم مهاجرون يهود وفدوا إلى فلسطين من أماكن عديدة من العالم، بعد أن قامت دولٌ غربية كبرى بمساعدتهم بالمال والسلاح للوصول إلى فلسطين، والاستيطان فيها، فهذا يومٌ لا ينساه الفلسطينيون، ولا يبرح ساكناً في ذاكرتهم، ولا يستطيعون تجاوز آلامه وآثاره ومفاعيله التي انغرست كالخنجر في جسد الأمة، فقد ترك هذا اليوم أثراً في الأمة لا يندثر، وجرحاً لا يبرأ، ودمعةً لا تجف، وآهةً في القلب مسكونة لا تهدأ، ولكنه خلق في الأجيال عقيدةً لا تضعف، وعزماً لا يلين، وثقةً لا تتزعزع بأن العودة يوماً ما قادمة، وأنها وعدٌ إلهيٌ أكيد، ستحققه الأجيال الفلسطينية طال الزمن أم قصر.

في كل عامٍ يحيي الفلسطينيون ذكرى النكبة، ويقفون على أطلال الهزيمة والضياع، ويستذكرون الأمجاد الضائعة، والحقوق المسلوبة، والأرض المغتصبة، ويبكي الرجال الكبار الذين مازالوا يحملون مفاتيح بيوتهم، وشهادات ملكيتهم لبيوتهم وأرضهم، وهم الذين أجبروا بقوة السلاح على الرحيل ومغادرة الأرض والديار، والحسرة تملأ قلوبهم وهم يشعرون أنهم يودعون الحياة قبل أن يتمكنوا من العودة إلى بلادهم، وقد كان الأمل يسكن قلوبهم بأنهم سيعودون إلى فلسطين هم وأولادهم حيث أرضهم وديارهم وممتلكاتهم، ولكن الألم كان يعصر قلوبهم ونفوسهم لما آل إليه حال شعبهم الفلسطيني، وللاختلافات التي عصفت بفصائلهم وقواهم الثورية، ولحال الفرقة والانفسام التي فتت حياة الشعب الفلسطيني، وشتت صفوفه، ومزقت جمعه، وشوهت صورته، وبددت المجتمعين حوله، والمناصرين له، وأفقدتهم الكثير من آمالهم وثقتهم بفصائل الثورة الفلسطينية، التي أثبتت عبر سنين طويلة عزمها ومضاءها وصدقها، فقد باعد الانقسام والاختلاف آمال العودة، وأحلام النصر، ومكن العدو الإسرائيلي من تنفيذ مشاريعه ومخططاته، دون أن يلتفت إلى معوقات المقاومة، وعقبات الوحدة الفلسطينية.

ذكرى النكبة لهذا العام تتلاقى مع المصالحة الوطنية الفلسطينية، التي أعادت الثقة إلى الفلسطينيين بعد طول انتظار، وهي التي كانت أملاً فلسطينياً وحلماً عربياً وإسلامياً، وقد ظن الفلسطينيون أنها لن تتحقق، وأن شمل فصائل المقاومة الفلسطينية لن يجتمع من جديد، وأن الخلافات التي بينهم ستزداد وستتعمق، وستصبح مع الأيام واقعاً مألوفاً، يرضى به الفلسطينيون، ويفرح به الإسرائيليون، ولكنهم التقوا بعد صعاب، وتعاهدوا بعد اتفاقٍ جديدٍ ألا ينقلبوا على بعضهم، وألا يخيبوا آمال شعبهم، وأن يكونوا يداً واحدة، وصوتاً واحداً، يوحدون أهدافهم، ويوجهون جهودهم ومساعيهم نحو أهداف شعبهم الوطنية العادلة، وأن يلتفتوا إلى معاناة أهلهم وحاجاته الإنسانية، وضرورياته المعيشية، ليتمكنوا من الصمود والثبات، ومواصلة المقاومة والنضال، وليستعيدوا صورتهم النضرة، ومثالهم الرائع، وألقهم الكبير الذي علاه غبار الفرقة والانقسام والتشتت والاختلاف.

ولكن مظاهر المصالحة التي احتفل بها الفلسطينيون وبها سيخرجون متحدين في يوم النكبة من كل مكانٍ حول فلسطين إليها، لم تظهر نتائجها بعد، فالفلسطينيون ينتظرون في هذا اليوم الذي تتحد فيه جهودهم وتتفق فيه أهدافهم، وتتوحد فيه راياتهم وأعلامهم وشعاراتهم، فأهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة ينتظرون في هذا اليوم عودة أبناءهم من السجون الفلسطينية، فحريتهم هي عنوان المصالحة، وأكثر ما يميز ذكرى النكبة لهذا العام، فحتى يحيي الفلسطينيون ذكرى النكبة بشكلٍ مغايرٍ عن السنوات التي مضت، والأمل يعمر قلوبهم، واليقين يسكن نفوسهم، فإنهم يتطلعون إلى وحدةٍ فلسطينية حقيقية، تكون قادرة على مواجهة الصعاب والتحديات، ولا يمكن للفلسطينيين أن يفرحوا في يوم حزنهم بالمصالحة دون أن يروا سجناءهم أحراراً، فلا خوف يلاحقهم من الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي أضرت بهم وبمصالح شعبهم، عندما عذبتهم وضيقت عليهم، وبالغت في الإساءة إليهم، ولا مكان لعدوهم لأن يفرح بسجنهم على أيدي أبناء شعبهم، وشركائهم في الوطن والقضية.

في يوم النكبة الأليم، الذي يعج بالأحزان والآلام، ويمتلئ بالجراحات والآهات، نتوجه إلى السلطات الفلسطينية كلها بقلوب كل الفلسطينيين المفجوعة والمكلومة، الحزينة والجريحة، لأن يجعلوا من ذكرى النكبة لهذا العام يوماً لفرح الفلسطينيين بنجاح مصالحتهم، وبتجاوزهم لخلافاتهم ومشاكلهم، وليس أبلغ مظهراً في هذا اليوم من الإفراج عن المعتقلين، فأفرجوا عنهم ومتعوهم بحريتهم، وأعيدوا إليهم الثقة فيكم، وأعيدوا البسمة إلى شفاه أهليهم، فإنكم ترتكبون في حق أهلكم وشعبكم، إن امتد اعتقالكم لأبنائهم، جريمةً كبرى، ولن يغفروا لكم يوماً أنكم سلبتم حرية أبنائهم، وملأتم قلوب أهلهم حسرةً وكمداً.

وحتى تكتمل فرحة الفلسطينيين، ويتحول يوم النكبة فيهم إلى جيشٍ لجبٍ جبارٍ يهدر بالعزم والأمل واليقين، ويهدد وجود ومستقبل كيان الإسرائيليين، فقوموا من فوركم بالتخفيف من معاناة شعبكم، وافتحوا ما أغلقتم من جمعياتهم ومؤسساتهم، وأعيدوا إليهم ما صادرتم من أموالٍ ومستحقات، ومكنوهم من العودة لمزاولة أعمالهم ومهامهم، وأعيدوا من استبعدتم وفصلتم من موظفين على خلفياتٍ حزبية وسياسية إلى وظائفهم وأعمالهم، وافتحوا الأبواب التي لا تملكون الكثير من مفاتيحها إلى أبناء شعبكم الذين لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم وأسرهم، لا خوفاً من العدو الإسرائيلي ولكن لأن قلوب إخوانهم ضاقت بهم، ولهم لم تتسع، فتاهوا في شتات الأرض، وتمزقوا بين الدول، فافتحوا لهم قلوبكم، وأعلنوا شطب ملفاتهم، وإغلاق قضاياهم، إن كانوا سيعودون صادقين في توجهاتهم، نادمين على ما ارتكبوا من جرائم في حق شعبهم، فهذا يومٌ فيه نحزن على ما فقدنا، ولكنه يومٌ فيه نفرح على ما حققنا وما صنعنا، فإن كان هو يوم النكبة الأليم فإنه يوم المصالحة العظيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق