العرب.. إلى أيِّ منقلب؟/ صبحي غندور

خبِرَت الأمَّة العربية، وجرّب العرب، في العقود الأربعة الماضية كلَّ البدائل الممكنة عن نهج وتيار العروبة الذي ساد في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. فقد كانت زيارة أنور السادات لإسرائيل في العام 1977 بداية الانقلاب الفعلي على نهج العروبة في مصر وعموم المنطقة العربية. وشهدت مصر بعد ذلك سياسة الانعزال عن العرب، والتطبيع مع إسرائيل بدعمٍ كبير من الدول الغربية. وقد جرى السير على هذا النهج الانعزالي إلى حين ثورة 25 يناير التي فتحت الأبواب أمام عودة مصر إلى موقعها الطليعي في الأمَّة العربية.

ولم يكن نهج التقوقع الإقليمي والانعزال هو وحده البديل، الذي ساد في بلاد العرب عقب عزلة مصر التي فرضتها اتفاقيات "كامب ديفيد" والمعاهدة مع إسرائيل، بل ظهرت أيضاً بدائل أخرى بألوان دينية وطائفية، بعضها كان متجذّراً في المنطقة لكن دون تأثير سياسي فعّال، وبعضها الآخر كان مفتعلاً ونتاجاً طبيعياً لمرحلة الحروب الإسرائيلية وتداعياتها السياسية في المشرق العربي.

وقد ترسّخت في الثلاثين سنة الماضية جملة شعارات ومفاهيم ومعتقدات تقوم على مصطلحات "الوطن أولاً" و"الإسلام هو الحل" و"حقوق الطائفة أو المذهب" لتشكّل فيما بينها صورة حال المنطقة العربية بعد ضمور "الهوية العربية" واستبدالها بمصطلحات إقليمية ودينية وطائفية.

وهاهي الآن بلاد العرب تنتعش بحركات تغيير وحراك شعبي واسع من أجل الديمقراطية، لكن بمعزل عن القضايا الأخرى المرتبطة بالسياسات الخارجية وبمسائل "الهوية" للأوطان وللنظم السياسية المنشودة كبديل لأنظمة الاستبداد والفساد.

وهاهما ثورتا تونس ومصر تشهدان تساؤلاتٍ عديدة عن طبيعة الحكم القادم في كلٍّ منهما في ظلّ تزايد المخاوف من هيمنة اتجاهات سياسية دينية على مقدّرات الحكم.

كلّ ذلك يحدث الآن بينما تنشدّ بلدان "أفريقيا العربية" إلى الهموم الداخلية بأوطانها، وفي ظلّ مشاريع تدويل أزماتها، كما الحال في ليبيا والسودان والصحراء المغربية. يرافق ذلك أيضاً انشغال بلدان "آسيا العربية" بأزمات داخلية تهدّد وحدة الأوطان بمخاطر التقسيم والحروب الأهلية. وهكذا تمتزج الآن على الأرض العربية مشاريع تدويل أزمات داخلية عربية مع مخاطر تقسيم مجتمعات عربية وسط رياح عاصفة تهبّ من الشرق الإقليمي ومن الغرب الدولي، ومن قلب هذه الأمّة حيث مقرّ المشروع الصهيوني التقسيمي.



لقد كان أيضاً بديل مرحلة "العروبة" عصر التطرّف في الأفكار، والعنف في الأساليب، والجهل في الدين، والتجاهل للوقائع ولحقيقة ما يحدث على أرض هذه الأمَّة وبين شعوبها.

عصرٌ رفض الهويّة العربية المشتركة، بل ورفض أحياناً كثيرةً الهويّة الوطنية، عصرٌ أراد وصم شعوب هذه الأمَّة بتصنيفات تقسيمية للدين وللعروبة وللأوطان.

عصرٌ أراد إقناع أبناء وبنات البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو في ضمان "حقوقهم" الطائفية والمذهبية، وفي الولاء لهذا المرجع الديني أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب وجعلها ساحة حروب لقوى دولية وإقليمية تتصارع الآن وتتنافس على كيفيّة التحكّم بهذه الأرض العربية وبثرواتها.

هناك حتماً أكثرية عربية لا تؤيّد هذا الطرح "الجاهلي" التفتيتي ولا تريد الوصول إلى نتائجه الوخيمة، لكنّها أكثرية "صامتة" إلى حدٍّ ما، ومن يتكلّم منها بجرأة يفتقد المنابر الإعلامية والإمكانات المادية، فيبقى صوته خافتاً أو يتوه هذا الصوت في ضجيج منابر المتطرّفين والطائفيين والمذهبيين الذين هم الآن أكثر "حظّاً" في وسائل الوصول إلى الناس.

فالعرب يحصدون نتائج زرعٍ متعدّد المصادر جرى في العقود الأربعة الماضية، وقد استغلّت أطراف خارجية ومحلية سلبياتٍ كثيرة كانت ترافق فكر وممارسات الحركة القومية العربية، لكنْ هذه العقود الزمنية الطويلة أثبتت أنّ "البديل الحامل للتسميات الدينية" لم يفتح آفاقاً جديدة في الهويّة أو الانتماء، وإنّما قزَّم الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء في كلّ بلد عربي، فتحوّلت الهويّة الدينية الشمولية إلى هويّة في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أخرى أو مذهبٍ آخر، أو حتى من اتجاهٍ سياسيٍّ آخر!

وكما فشل هذا "البديل" الموصوف بتسميات دينية في توحيد شعوب هذه الأمّة، فقد عجز "البديل الوطني" أيضاً عن بناء مجتمعٍ تكون الأولويّة فيه للولاء الوطني. بل إنّه لا يمكن بناء أوطان عربية سليمة في ظلِّ غياب الهويّة العربية، وحيث الفهم الخاطئ للدين وللتعدّد الفقهي فيه، ولكيفية العلاقة مع الآخر أيّاً كان.

فتعزيز الهوية الوطنية يتطلّب إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل، كما يستوجب تحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي، فذلك أمر مهم لبناء علاقات عربية أفضل، ولضمان استمرارية أيّ صيغ تعاون عربي مشترك. وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ لأزمة العلاقات بين البلدان العربية فقط، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلِّ بلدٍ عربي ولمواجهة مخاطر الانفجار الداخلي في كل بلد عربي.



إنّ المدخل السليم لنهضة هذه الأمَّة من جديد، وللتعامل مع التحدّيات الخطيرة التي تستهدف أوطانها وشعوبها وثرواتها، هو السعي لبناء هُويّة عربية جامعة تلمّ شمل هذه الأمَّة وما فيها من خصوصيات وطنية وأثنية وطائفية، وتقوم على حياة سياسية ديمقراطية سليمة تعزّز مفهوم المواطنة وتحقّق الولاء الوطني الصحيح.

إنّ ذلك يحتاج حتماً إلى طليعة عربية واعية وفاعلة تبني النموذج الجيد لهذه الدعوة العربية المنشودة. ولن يتحقّق ذلك البناء في زمنٍ قصير، لكنّه الأمل الوحيد في مستقبل أفضل يحرّر الأوطان من الأستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية، ولا يفتّتها بعد تحريرها، ويصون الشراكة مع المواطن الآخر في الوطن الواحد، فلا يكون مُسهِّلاً عن قصدٍ أو عن غير قصد لسياسات أجنبية تفرّق بين العرب لتسود عليهم.

لقد سقطت بدائل العروبة في امتحاناتٍ كثيرة، لكن المشكلة أنّ هناك ندرةً حالياً في الأيدي الرافعة للعروبة!

وهناك بلا شك خميرة عربية جيدة صالحة في أكثر من مكان، وهي الآن تعاني من صعوبة الظرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ الانقسامي المسيطر، لكن تلك الصعوبات لا يجب أن تدفع لليأس والإحباط بل إلى مزيدٍ من المسؤولية والجهد والعمل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تماماً لصالح من يعبثون في وحدة هذه الأمّة ويشعلون نار الفتنة في رحابها.

فمن الطبيعي أن تنتفض شعوب المنطقة وأن تُطالب بأوضاع أفضل وأن تسعى من أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، لكن المشكلة أنّ التحرّك الجماهيري يحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف.. فهل هذه العناصر كلّها متوفّرة في الحركات الشعبية العربية الظاهرة حالياً؟ إذ السؤال المهم الآن هو لماذا يمرّ طريق الديمقراطية في نفق مخاطر تجزئة الكيانات أو إخضاعها للسيطرة الأجنبية؟! ثم كيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد؟

أسئلة عديدة معنيّة بها الحركات الشعبية العربية وقادتها في ظلِّ هذا الضجيج الحاصل حول مستقبل المنطقة العربية بعد مرحلة "الثورات والانتفاضات".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق