ترى، هل كنا متوهمن ومخطئين في أن أهداف ثورة مصر الشبابية والحضارية هي تأمين أسس الحرية والعدل، والمساواة في المواطنية والحقوق والفرص، ونبادل السلطة بالطرق الديموقراطية الحرة، والانفتاح على العالم، والتخلص من ثقافة رفض الآخر والأصولية والتعصب، والسعي الدؤوب للسلام الحقيقي والاستقرار الفاعل؟
نسال وخيبات الأمل تلوح في الأفق كون ممارسات المجلس العسكري الأعلى الذي تولى السلطة الفعلية عقب إقصاء الرئيس مبارك وحكومته قد أعادت للأسف استنساخ كل مقومات ومفاهيم وعقلية وممارسات وتعصب الأنظمة السابقة وقصر نظرها، لا بل عرّج المجلس العسكري وحكومته على نظام الملالي في إيران واستعار الكثير من تعصبه ومذهبيته وانفتح عليه دون تعقل متعامياً عن كل ما يرتكبه هذا النظام الرفضي والأصولي من تعديات وانتهاكات سافرة بحق كل دول الخليج العربي ولبنان والعراق. نسأل بأسى، هل أن انجاز الثورة المصرية الوحيد واليتيم هو استبدال فرعون بآخر؟
للأسف حتى الآن، لم يتبدل أي شيء جوهري في مصر واقتصر أمر الثورة برمته على تغيير في الوجوه فقط، وقد كان الفشل الأول والقاتل لكل الآمال بالتغيير قد ترسخ بالإبقاء على المادة الثانية من الدستور المصري دون تعديل. تقول المادة هذه حرفياً: ""الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، والحمد لله رب العالمين". هذا وكان المجلس العسكري استبعد الأقباط عن اللجنة التي أنيط بها اقتراح التعديلات الدستورية، كما أبعد عنها أيضاً المرأة.
من المتفق عليه علمياًً أن الدولة المدنية لا تحتاج ديناً تحتمي فيه، بل هي التي تحمي أديان مواطنيها، في حين أن الدين الحق لا يحتاج لدولة يحتمي بها، بل هو قوي بإيمان أتباعه وتحميه ممارساتهم الحضارية والإنسانية والأخلاقية.
إن المادة الثانية من دستور مصر عنصرية بامتياز لأنها تفرق بين المواطنين طبقاً لمعتقدهم الديني، وبالتالي تدفع إلى توليد مشاعر العداء والضغينة والفوقية والدونية بين أبناء الوطن الواحد، علماً أن في مصر إضافة إلى الأغلبية الساحقة من المسلمين السنة، مسيحيين وبهائيين وشيعة وملحدين ويهود.
هذه المادة العنصرية شجعت وتشجع السلفيين وغيرهم من الأصوليين الإسلاميين على معاملة مواطنيهم المسيحيين المصريين بفوقية واحتقار، كما أنها تسهل لهم التدخل في شؤون المسيحيين الخاصة والعامة، لانتهاك حقوقهم وحرمات منازلهم، وشن الغزوات الجاهلية المسلحة عليهم دون رادع أو حسيب، فيما دولة الثورة تقف إما متفرجةً دون حراك لحماية المعتدى عليهم كما حدث قبل أيام خلال حرق الكنائس في القاهرة وتعرض أحياء الأقباط للغزوات المجرمة، أو تقف متجابنة عن اتخاذ القرارات وتطبيق القانون كما كان الحال مع رضوخها المهين لرفض السلفيين تعيين محافظ قبطي.
نستنكر بشدة تغاضي المجلس العسكري المصري وحكومته عن فورة السلفيين الجاهلية، (هم قلة قليلة في المجتمع المصري) وترك الحرية المطلقة لهم ليمارسوا الغزوات البربرية والقتل والتعديات على المسيحيين وإحراق كنائسهم وشتم واهانة رجال دينهم. هذه الممارسات المجرمة هي تعدٍ سافر ليس فقط على المسيحيين المصريين، بل على مصداقية كل الدول العربية لأنها تقول للعالم إن هذه الدول عاجزة أو غير راغبة في حماية آمن شرائح من مجتمعاتها، وهذا أمر معيب بحقها.
إنها فعلا اهانة كبيرة لحكام مصر الجدد، أن يشعر الأقباط أنهم مضطهدين ومهددين بأمنهم وحريتهم ومعتقدهم وكرامتهم في وطنهم، فيسعون مجبرين إلى طلب الحماية الأجنبية والأممية خوفاً من جور وظلم حكومتهم وجيشهم وأهلهم.
إن الاعتداءات البغيضة والسافرة والمستنكرة التي يتعرض لها الأقباط في مصر تلطخ سمعة الثورة المصرية وتقضي كلياً على مفهوم التعايش بين المسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط، وهذا أمر لا يجوز أن يستمر خشية أن تكون له مضاعفات وتداعيات على الوضع المصري تحديداً والعربي عموماً.
في الخلاصة إن واجب الدولة المصرية وأيضاً شعبها إيجاد نظام حماية امني وحقوقي ودستوري دائم وثابت وفاعل للأقباط، وذلك لمنع تكرار الغزوات والاعتداءات عليهم وعلى كنائسهم وأحيائهم وبلداتهم وقراهم بين الحين والآخر، ومن واجب الدولة أيضاً التخلص الفوري من "القانون الهمايوني" البائد الذي يجيز معاملة المسيحيين بدونية معيبة ومهينة، واقتلاع كل بذور ثقافة رفض الأخر والتعصب الأعمى، وإلغاء المادة الثانية من الدستور المصري التي لا تعتبر المواطن المسيحي مواطناً كغيره من المواطنين المصريين المسلمين من أبناء بلده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق