تتمسك إسرائيل بشكل دائم بغور الأردن الفلسطيني المحتل، بحجج أمنية واهية، ولكن الحقيقة لا علاقة بالأمن، الذي يمكن ضمانه، دوليا، أو حتى بالاتفاق الرسمي مع الفلسطينيين.
ماذا تخبىء مواقف نتنياهو، وسابقيه من رؤساء حكومات ووزراء حكوماتها، بالإصرار على إبقاء غور الأردن تحت سيطرة إسرائيل؟
هل الحديث عن الحدود مع الأردن مثلا، والأردن أضحى دولة تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، وبينهم اتفاقات مختلفة، منها مثلا تأجير أراض أردنية تقيم فيها إسرائيل شبكات زراعية من الأرقى والأكثر إنتاجا وإرباحا في مجالها، على سبيل المثال وليس الحصر منطقة تعرف باسم "الباقورة" ، وهناك غيرها طبعا ؟
الناطقة باسم منظمة "بتسيلم"- مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة ، وزعت بيانا مثيرا بما يحمله من تفاصيل ومعلومات حول ما ينفذه الاحتلال في غور الأردن ، نسمع عنها لأول مرة بهذا المضمون الذي يثير القلق من غياب مراكز فلسطينية تكشف الحقائق الكاملة ، وتجعلها على بساط البحث الدولي بدون انقطاع، إذ يبدو لي، وأرجو أن أكون مخطئا... إننا نتصرف بنفس العقليات التي قادتنا إلى نكبة 1948.
الناطقة باسم بتسيلم" شريت ميخائيلي ،تكشف في تقريرها الجديد مدى استغلال موارد غور الأردن من قبل إسرائيل، حيث يتبين أمرا مذهلا، على رأسه أن 77.5% من أراضي منطقة غور الأردن مغلقة أمام الفلسطينيين . والتفاصيل "البسيطة" أن الغور يسكن فيه 9400 مستوطن، يتمتعون بمخصصات مياه تساوي تقريبا ثلث استهلاك المياه لكل أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية ( 2.5 مليون).
يقول التقرير الذي يحمل اسم " استغلال وحرمان" أن إسرائيل أقامت في غور الأردن وشمال البحر الميت، نظام يستغل موارد المنطقة بشكل عميق ومركز، وبإطار واسع أكثر من سائر مناطق الضفة الغربية، مما يؤكد عمليا نواياها لضم فعلي لغور الأردن وشمال البحر الميت إلى دولة إسرائيل.حتى الشارع الرئيسي الذي يربط مدينة أريحا بالحدود مع إسرائيل( عشرات الكيلومترات) أُطلق عليه اسم الوزير العنصري السابق، رحبعام زئيفي(غاندي) الذي انشأ حزبا ينادي بالترانسفير (تهجير) للفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، وربما ذلك دلالة على الفكر المسيطر على في داخل مؤسسات الحكم .
من المهم هنا أن ننتبه إلى أمر بالغ الأهمية لمستقبل الدولة الفلسطينية، بأن غور الأردن وشمال البحر الميت، هما احتياطات الأراضي الأكبر للتطوير المستقبلي لدولة فلسطينية في الضفة الغربية. سلخ هذه الأراضي يعني دولة دمية.
تقدر مساحة غور الأردن ب 1.6 مليون دونم ، وتشكل 28.8% من مساحة الضفة الغربية، هذه المنطقة يسكنها 65 ألف فلسطيني في 29 بلدة، ويقدر وجود 15 ألف فلسطيني آخرين، يسكنون في مضارب بدوية صغيرة، بالطبع إلى جانب 9400 مستوطن في 37 مستوطنة ، وسبعة بؤر استيطانية أخرى.
إسرائيل نهجت على منع الفلسطينيين من البناء ومن استعمال الأرض، وأعلنت عن مئات ألاف الدونمات كأراضي دولة ( أي صادرتها) وجردت أصحاب الأرض من ملكيتهم، وبعض الأراضي يمنع دخول أصحابها إليها بحجة أنها مناطق إطلاق نار( تدريب عسكري)..وتقوم الإدارة المدنية، خاصة في السنوات الأخيرة ، بعمليات هدم واسعة، لمباني بدوية في هذه المناطق، التي استوطنها قبل احتلال إسرائيل عام 1967 وبعضها قبل قيام إسرائيل نفسها عام 1948.. واستولت إسرائيل على ألاف الدونمات الأخرى من أراضي لاجئين فلسطينيين.. بعضهم يعانون اللجوء للمرة الثانية.وحسب المعلومات الواردة 12% من مساحة غور الأردن، هي ضمن المناطق البلدية للمستوطنات، وتشمل كل شواطئ البحر الميت الشمالية.
بالطبع إسرائيل سيطرت تماما على معظم مصادر المياه في المنطقة، وتخصص مصادر المياه لاستعمال شبه كامل للمستوطنات ، وتقدر كميات المياه التي طورتها إسرائيل من مصادر عديدة في المنطقة، ب 45 مليون متر مكعب في السنة ، الأمر الذي يفتح المجال للمستوطنات لتطوير الزراعة بكثافة كبيرة خلال كل فصول السنة.. ومعظم منتجات هذه الزراعة تصدر للخارج، وتقدر مخصصات المياه لمستوطنات غور الأردن، بثلث المياه المتوفرة ل 2.5 مليون فلسطيني سكان الضفة الغربية. وهذه السيطرة قلصت كميات المياه المتوفرة للسلطة الفلسطينية.وتبلغ كميات المياه التي استخرجها الفلسطينيون عام 2008 في المنطقة، ب 31 مليون متر مكعب فقط، وهي أقل ب 44% من الكمية التي كانوا يستخرجونها قبل التوقيع على الاتفاق المرحلي عام 1995.اي ان الاتفاقات احدث نقله سيئة للفلسطينيين. وبسبب نقص المياه اضطر الفلسطينيون إلى إهمال أراضي زراعية، كانت تزرع سابقا بمزروعات مربحة، وانتقلوا لزراعة أقل ربحية.
سيطرة إسرائيل على أكثرية المناطق تمنع توزيع عادل للمياه بين البلدات الفلسطينية المختلفة، أو نقل المياه لبلدات فلسطينية خارج المنطقة. وحصة البدو تساوي ما قررته الأمم المتحدة كحد أدنى لمناطق كوارث إنسانية!!
لم يتوقف الأمر هنا، إنما امتدت السيطرة الإسرائيلية على معظم مناطق السياحة البارزة في المنطقة، ومنها: شواطئ البحر الميت الشمالية، وادي القلط ، مغر قومران، ينابيع المحمية الطبيعية عين الفشخة ومنطقة العماد قصر اليهود. وغير ذلك أعطت ترخيصات لشركات بأن تستغل موارد المنطقة، وتتمتع بأرباح كبيرة، مثلا من استغلال المياه المعدنية، والسياحة، وأقامت إلى جانب ذلك، مشاريع تطهير مياه المجاري، التي تتدفق من مناطق إسرائيلية (48) ومن المستوطنات، وتدفن القمامة الواردة من اسرائيل ايضا ومن المستوطنات في الأرض الفلسطينية.
بالطبع هذا الواقع هو تدمير للحياة الفلسطينية، ويلحق أضرارا بيئية واقتصادية وحقوقية بأبناء الشعب الفلسطيني.
"بتسيلم" تقوم بدورها الأخلاقي والقانوني وتلاحق الموضوع مع المؤسسات الحقوقية والقانونية في إسرائيل.ولكن ما يقلقني سؤال آخر.
حين يجري الحديث عن تجميد البناء في المستوطنات، هل تطرح قضايا النهب الإسرائيلي لموارد الشعب الفلسطيني كجزء من قضية الاستيطان، وربما هو الجزء الأكثر خطورة، أولا، "كخطوة لبناء الثقة" وثانيا، كخطوة لتثبت إسرائيل "أنها شريك حقيقي في المفاوضات" كما تتفلسف حكومة إسرائيل ورئيسها على السلطة الفلسطينية، وثالثا، لفضح أن الاستيطان ليس مجرد بناء منازل ونهب للأرض، إنما سرقة مصادر الحياة الأولية وحرمان الشعب الفلسطيني من موارده، ومن تطوير اقتصاده الزراعي، لحساب عدد ضئيل من سوائب المستوطنين.
لماذا يجب أن ننتظر مؤسسة نحترمها ونقدرها مثل " بتسيلم" لتكشف لنا أننا نُسرق في عز الظهر دون أن يرتفع صوتنا، ودون أن نفضح هذه الممارسات أمام الرأي العام الدولي.
مثل هذه القضايا الحقوقية الإنسانية الأبسط في أي مفهوم قانوني وإنساني، لها إسقاطات مؤثرة جدا على القضية المركزية التي يطرحها الشعب الفلسطيني، إقامة دولة مستقلة. هل ستقوم دولة بدون المياه والموارد الطبيعية؟
لا اعرف ما يجري في مناطق الاستيطان المسمى بالكتل الاستيطانية، هل يجب أن ننتظر "بتسيلم" لتكشف لنا ما يجري؟
للأسف لم تكن "بتسليم" عام 1948، حين واجهنا مصيرا رهيبا، لم تكشف إلا بعض أوراقه الرسمية في إسرائيل، خوفا من القانون الدولي.
هذه النماذج "الصغيرة" التي يكشف عنها اليوم ، تشير إلى أن ما جرى عام 1948، قد يكون أضخم هولا بعشرات المرات . وهو ما جعل مدير الأرشيفات السرية يستنجد برئيس الحكومة ليصدر أمرا بإغلاقها لعشرين سنة أخرى ، لأنها تشمل تفاصيل تعتبر جرائم حرب ضد الإنسانية!!.
الجرائم لا تنسى ، ولنا عبرة بما يجري من محاسبة لمجرمي الحروب وتصفية الشعوب!!
nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق