لا ... بل فلأبدأ مع سلام نفسه ، فهو مع أبطاله بل هو جزء منهم فيهم عانى ما عانوا وعاش ما عاشوا وآمن بما آمنوا شيوعياً مطارداً ومتخفيّاً في المدن وسجيناً تحت التعذيب ثم مجنّداً يقاتل في جبهات الحرب العراقية ـ الإيرانية ثم هارباً مُلتحقاً بصفوف مقاتلي الحزب الشيوعي العراقي في قرى ووديان وجبال كردستان ومعه حليلته ورفيقة دربه وعمره ( العاشقة والسكّير ) (2) السيّدة ناهدة جابر جاسم القرمزي.
لا أحسبُ أنَّ أحداً كتب كما كتب الأستاذ سلام عن العراق بعد احتلاله عام 2003 ولا أظن أحداً كتب فجاراه فيما كتب وفيما وصف وعايش ما عايش منذ إسقاط حكومة ونظام البعث حتى يومنا هذا . كتبَ فتفرّدَ بين مَنْ كتبوا وبلغ السمت العالي في الوصف والتحليل والإستنتاجات وكان المقاتل الشجاع والإنسان النبيل والكاتب المقتدر والنبي المعاصر الذي استطاع جمع الكل فيه وضمَّ العراق وما فيه من عجائب ومتناقضات ما بين أضلعه فهو السياسي المكافح والبيشمركة المقاتل وضحية الأسلحة الكيميائية المحرّمة دوليّاً وهو الصديق الوفي الصدوق والعاشق السكّير وأخيراً هو اللاجئ المتغرّب وشاهد جريمة إستخدام السلاح الكيميائي.
إنه أحمد وسعد وحُسين ( أبطال مجموعته القصصية التي أسماها رواية ) لكنه لم ينكص كأحمد ولم يطلق لحيته ولم يزاول مثله مهنة بيع الأدعية وكتيبات مقتل الحُسين وبيع " التُرب " ولم تَلُكْ الألسن سمعة أحدٍ من أهل بيته. وإنه المقاتل سعد المؤمن حتى نخاع العظام بالشيوعية ترك زوجه وطفلتيه في مدينة الديوانية ليقاتل البعث والبعثيين في جبال كردستان ولكنه نُكب [ وهذه إحدى تبعات وضرائب النضال في صفوف الشيوعيين ] ... نُكب إذْ يئست زوجه منه فتزوجت واحداً من أعدائه السياسيين والطبقيين ! تزوجت من ضابط أمن بعثي !
هنا حصلت ذروة التصادم الجدلي الدرامي وقد أبدعَ الأستاذ سلام في متابعة هذا الحدث وتشريح تفاصيله وتبعاته وقد جلّى وتجلّى ولا أرى أحداً غيره بين كتّاب اليوم قادراً على قول ما قال. أهذا ما يحصل للشيوعي المثابر الملتزم الذي كرّس حياته وعاف دنياه واضعاً أمام عينيه هدفاً واحداً هو النصر على أعداء الإنسان وإقامة دولة الفقراء والمحرومين والمظلومين .. دولة العمّال والفلاّحين ( دكتاتورية البروليتارية ) ؟ لم يحتمل سعد هذه الصدمة فغادر جبال كردستان ونزل إلى بغداد فألقت سلطات البعث القبض عليه وأنهته. ترك القاص سلام نهاية سعد مُبهمة تكتنفها أسئلة كثيرة منها لماذا ترك القتال في الجبال ونزل إلى بغداد دون أنْ يُخبر رفاقه بما قد انتوى عليه ! كيف ألقت سلطات البعث عليه القبض وأين ؟ ترك سلام بعض التكهنات وهي مُبررة ومعقولة منها أنه كان يريد رؤية طفلتيه ... ومنها أنه كان يريد الإنتقام بقتل زوجه وزوجها الجديد، عدوه السياسي والطبقي. إنه حقاً لحملٌ ثقيل تنوء الجبال بحمله. يناضل المناضلون ويضحون من أجل الناس الطيبيين الأبرياء وعوائل الشيوعيين وأطفالهم هم بعض هؤلاء الناس فكيف يتقبّل هذا الشيوعي المناضل خيانة أم طفلتيه وطعنه طعنة لئيمة غادرة بالإقتران من عدوّه ؟ أفما كان بإمكانها الزواج من رجل آخر غيره من عامة الناس المستقلين الطيبين ؟ كلا ! لم تستطعْ . بيّن السيد القاص هذا الأمر وبرره بجمال السيّدة نيران، وهذا اسمها، الطاغي وما جرّه عليها من جرجرات شرطة الأمن وإستدعاءاتها المتكررة واستجوابها والضغط عليها لتكشف أسرار حياة زوجها ومكان وجوده لكنها ـ على ما يبدو ـ لم تخنْ زوجها ولم تكشف أسراره ولكي تصون عفّتها وتُخفي الأسرار وتستر على نفسها وتضمن مصير طفلتيها قبلت الزواج من ضابط الأمن البعثي . إنها معالجة جريئة ومقبولة رغم قسوة تبعاتها على زوج نيران الأول المقاتل سعد. إنه حل قابل للنقاش والجدل وطبيعي أنْ يرفضه البعض منّا ممن يقولون : بل الموت أفضل من زواج نيران من ضابط أمن بعثي. هل كل الناس مستعدون للموت ؟ وهل كل الناس يتحملون تعذيب الجسد والروح حتى الموت ؟ هذا هو الميزان الدقيق بين قوّة غريزة التشبث بالحياة وقسوة الموت ومفارقة هذه الحياة. هل نطلب أو نتوقع من الناس كافّة أنْ يلاقوا ويقبلوا المصير الذي قبله فهد ورفيقاه الشبيبي وزكي بسيم ثم سلام عادل والحيدري والعبّلي وأبو سعيد ومتّي الشيخ وجورج تلّو وعدنان البراك وغيرهم الكثيرون من مناضلي الحزب الشيوعي في اللجان وقواعد الحزب وأصدقائهم ؟ أفلم يخنْ ويستسلمْ ويتبرأ قادة كانوا في أعلى هرم الحزب الشيوعي وهم معروفون ولا أود ذكر أسمائهم ؟ إنها معادلة وجدلية وثنائية الحياة ـ الموت .. ثنائية قلقة ليست ثابتة في الناس فهي تتفاوت وتتأرجح بين القطبين المتضادين ولا تستقر إلاّ بعد مخاضات وحسابات كثيرة دقيقة ينتهي فيها المرء المعاني معاناة صعبة قبل أنْ يزمع وينتهي إلى قرار : الثبات والصمود وقبول الموت أو الإنهيار والوقوف مع الحياة !
أما حسين، بطل الجزء الثالث من كتاب " حياة ثقيلة" فلقد اتخذ لنفسه بعد سقوط نظام البعث وما حلَّ بالعراق بعد وخلال سنيِّ الإحتلال نهجاً خاصاً لكنه ليس هو الوحيد فيما اتخذ. أعني إغراق نفسه بتناول الكحول هروباً من واقع العراق اليوم وما فيه من مهازل وكوارث لم يعهدها العراقيون من قبلُ. كسابقه أحمد.. ترك السياسة والنضال منكفئاً على نفسه هارباً بالخمور عن عالم كريه شنيع لا يُطيقه ولا يستطيع معايشته فتجنبته عائلته ونبذته بعد أنْ غرقت وأدمنت هي الأخرى ولكن بالطقوس والشعائر الدينية الشيعية من لطم وزيارات لأضرحة الأئمة وإقامة وإحياء المناسبات المختلفة المعروفة. هذا بعض ما حلَّ بالعراقيين هذه الأعوام منقسمين على أنفسهم بين مدمن على تناول الكحول هرباً من واقع قاسٍ إلى عالم مجهول غير ملموس لا يراه ولا يشمّه ولا يعرف له اسماً يحياه ما دامت الخمرة تفعلُ في رأسه فعلها ... ومدمن على ممارسة الطقوس والشعائر الدينية حالماً في عالم آخر لا يراه ولا يسمعه ولا يشمّه لكنه يعرف اسمه : الجنّة ... فمَنْ مِنْ هذين الفريقين على حق ؟ هل في هذا الإنقسام الثنائي من أثرٍ لثنائية الموت ـ الحياة ؟
ثمّةَ سؤال عَرَضي : هل الإبداع عموماً هو نتاج تأثير الخمور على الكاتب كما كان الشأن مع يوجين يونسكو وإرنست همنكواي وغيرهم من مشاهير الكتاب والشعراء والروائيين مثل السكير والمعتوه والحشّاش بودلير والمريض الحشاش رامبو وأدكار ألن بو ؟ طبيعي ليس كل مشاهير الكتاب والشعراء مجانين أو حشاشين أو من مدمني الكحول فهؤلاء كثرة كاثرة تكاد لا تُعدُّ ولا تُحصى.
هل يكتب سلام صاحياً أم أنه لا يستطيع الكتابة إلاّ واقعاً تحت تأثير العرق ومشتقاته ؟ نسمع بعض ما قال في مجموعته القصصية هذه :
((أقومُ من كرسيّي مغموراً بالبياض المتدفق من النوافذ لأملأ كأسي بالعَرَق الخالص، فبدون السائل الأبيض السحري لا نوم ولا راحة ولو لساعات من زحمة الوجوه الحبيبة الباسمة المُحدّقة بوحدتي والتي عاشرتْ أعوامي الغضّة / الصفحة 7 )) (1). في طبعه ميل قوي دافق للدعابة وفي دعاباته الكثير من السخرية من الحياة نفسها ومن الكثير من طبائع وعادات وسلوك البشر ومما تجلبه الحياة للإنسان من حيث يدري ومن حيث لا يدري. في المقطع القصير هذا نجده يمزج ويوائم بياض نور الطبيعة في النهار ببياض كأس خمره " العرق الخالص ... السائل الأبيض السحري ". هل يسخر سلام من الطبيعة الأبدية الدائمة التي لا يختلف لون نورها عن لون الشراب الذي يُسكره فينقله إلى عالم آخر عابر غير دائم وغير أبدي ؟ أم له في الأمر نظرة خاصة وفلسفة خاصة لا يفقه أسرارها إلاّ عشاق وضحايا الإدمان على الكحول من الهاربين من الدنيا الدائمة، وفيها قسوة ومفارقات، إلى عالم آخر يطفو على مخدّات كهروـ مغناطيسية تشيلَهُ من على سطح الأرض إلى ما فوق رأسه فيرى ما لا يرى الصاحون ويحيا حياة أخرى يرى نفسه فيها ملكاً على عرش بلقيس وبُرج بابل ؟
يعنُّ لي أنْ أعرض للقرّاء الكرام نموذجاً من لقطات سلام إبراهيم العميقة المغازي والكثيرة الذكاء والتي لا تخلو من روح الدعابة المشوبة بالسخرية اللاذعة والدلالات السياسية التي خبرها هو وأشار إلى مثيلاتها في بعض رواياته السابقة. نقرأ في الصفحة 135 الحوار التالي بين سلام وسعد وبداية الكلام لسعد الذي فقد زوجه وأم طفلتيه بزواجها من ضابط أمن بعثي :
(( ـ حرمونا من العائلة والبيت والشارع والمدينة، رجعوا ناكوا زوجاتنا.
ـ ...! ..
كنتُ اسمع طقطقة احتراقكَ كحطب في مدفأة. أشعلتَ سيجارة وجرعتَ كأسك دفعةً واحدةً وأضفتَ بصوتٍ مشروخ:
ـ آخ لو أنزل وأشوف بناتي وأشوف إبن الكلب هذا اللي ينام بفراشي !
وسمعتك تفرك بشعرك فركاً قبل أنْ تجرَّ مفردات جملتك جرّاَ :
ـ أأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأخخخخخخخ راح أنفجر !
كان صراخك مكتوماً.
إنتظرتُ حتى تخافتَّ في الليل وهدير الماء فقلتً لك :
ـ سعد ليش ما جبتها ويّاك هنا !
ـ تحجي صدك ؟!
ـ .....
لم أُعلّقْ فأردفتَ مُعيداً اسمها مرتين :
نيران ... نيران أجيبها هنا ... هنا أبينْ الرفاق !
إنزعجتُ من جملتك الساخرة. قلتُ لك :
ـ وليش لا .. آني موجبتْ زوجتي ؟!
ـ أنت مجنون راح تشوف النتيجة !
.....
صدقتَ يا " سعد " سوف أنشوي بنار دائمة بقية عمري بسببها.
ـ إستدركتَ قائلاً :
ـ زوجتكَ رفيقة ونيران ليس لها علاقة بالسياسة !
أتينا على القنينة فأخرجتَ من حقيبة ظهركَ قنينة أُخرى. بعد عدّة كؤوس أخرى تشجعتُ فأفصحتُ عن وجهة نظري :
تكول ما لها علاقة بالسياسة، بس تركتها أكثر من أربع سنوات وهي جميلة ومرغوبة .. قاومتْ .. وقاومتْ لكنْ تعبتْ .. إلى متى تبقى وحيدة مع طفلتين تنتظر رجل غاب لأسباب ما تفهمها .. تعبتْ فتزوجتْ رجل آخر [ نقلتُ الكلام كما هو وكما جاء في القصة / عدنان ].
في موقفه هذا أنصف سلام هذه المرأة ووجد لها العذر المناسب وبرر زواجها من عدوٍ لدودٍ لزوجها السابق الشيوعي المقاتل السيد سعد. أنقذت نفسها بهذا الزواج وأنقذت طفلتيها وصانت سمعتها وشرفها وبذا صانت اسم وسمعة وشرف زوجها الذي تركها لسنين عددا يقاتل وحشاً بعثياً مرعباً وبلاءً مقيماً. هل يقومُ الميزانُ سليماً في هذه المعادلة ؟ أعني مشروع السيدة نيران بزواج يحميها وطفلتيها ويوفّر لها حياة كريمة وسمعة طيّبة ... هل يعادل هذا المشروع مشروع الشيوعي السيد سعد الذي ضحى في سبيله بكل غالٍ ونفيس تاركاً حياته المدنية وزوجه وطفلتيه يقاتل وحشاً لديه كافة إمكانات مواجهة معارضيه سواء في المدن أو الأهوار أو الجبال الوعرة ؟ هذا هو السؤال وهو مطروح للنقاش وطبيعي أنْ يكون هناك معارضون وآخرون معه متفقون.
ما الذي نجنيه وما الذي يتبقى لنا حين نراهن على هدف شبه مستحيل أو هو المستحيل نتبناه ثم يفشل ونفشل معه ؟ هل يُجدي الندم وكيف يكون الندم ؟ هل أخطأ سعد إذْ تزوج وهو يعرف أنَّ حياته السياسية هي مغامرة ومقامرة فيها الكثير من عناصر الإخفاق والفشل ؟ هل أخطأ إذْ ترك زوجه مع طفلتين والتحق مقاتلاً بالثوار في الجبال ؟ هل أخطأ إذْ إنتهج هذا النهج والتزم بعقيدة سياسية فيها الكثير من الأحلام الجميلة المغرية ؟ هل وهل وهل ؟؟؟
أبدع سلام إبراهيم في قصته هذه فهي ليست قصة كباقي القصص وليست قصة من قصص ألف ليلة وليلة إنما هي قصة مأساة الإنسان الذي يجد نفسه محصوراً بين خيارين لا ثالثَ لهما : الحياة المُرفّهة الوادعة الآمنة أو طريق المغامرات غير معروفة النتائج لكأنَّ هذا الإنسان يمشي حسب مشيئة ومنطق البيت الشعري :
أمامكَ فانظرْ أيَّ نهجينِ تنهجُ
طريقان شتّى مستقيمٌ وأعوجُ
يبدو أنَّ سعد قد نهج الطريق الأعوج فهل كان هذا قراره وقدره ومصيره المحتوم أمْ أنَّ في الحياة طرقاً كثيرة متشعبة لا عدَّ لها ولا حدود يختار أحدنا واحداً منها عن قناعة أو عن تسرع وتهوّر أو جهالة ثم يقع الفأسُ في الرأس ويقع المحذور والمحظور.
1ـ سلام ابراهيم / حياة ثقيلة، دار الأدهم للنشر التوزيع. القاهرة، مصر. الطبعة الأولى 2015 ... هكذا جاءت الرواية.
2ـ ناهدة جابر جاسم / العاشقة والسكّير، دار الأدهم للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2015، القاهرة، مصر.
0 comments:
إرسال تعليق