( تشرين الثاني ـ كانون الأول 2011 )
بغداد اليقظى ـ النائمة
ليتني وجدتها يقظى / نائمة ، ليتني ثم ليتني ! وجدتها كائناً يحاول النهوض نافضاً تراب القبر عن أكفانه . رأيتها امرأةً مُعفّرة من رميم منفوشة الشعر نصفها يتنفس ورأيتُ النصف الآخر ميّتاً مكتوم الأنفاس . رأيتها نُصباً تذكاريّاً ما أنْ يقومَ حتى يتهاوى فيسقط على أمِّ رأسه . جثة تحاول العودة للحياة تتنفس من خلال فتحات مُشبّك حديد قاسٍ بارد لا روحَ فيهِ. رأيتُ الحياة والموتَ يتزامنان ويتعايشان في صراع ظاهر ـ خفيٍّ شرسِ يُحسّه الرائي لكنه لا يدرك كنهه ولا يقف على حقيقة أبعاده . هل ستنتصرُ الحياةُ فيها على عناصر الفناء ومتى ؟ هذا هو السؤال الحيوي الشاخص أمام العيون .
الحركة في بغداد قائمة على ساق وقدم . شوارعها مزدحمة بالبشر والسيارات وباعة الفاكهة والخُضرة والحلوى واللبلبي والتكة والسمك المشوي ثم بالشرطة والجنود والسيطرات ومطبات الشوارع وعثراتها . وفي شوارع وسوح بغداد تسرح الخرافُ وتمرح في مجموعات صغيرة وأعلافها وماؤها معها معروضة للبيع بل وللذبح والسلخ على قارعة الطريق . على أرصفة بعض شوارع بغداد يُشوى السمك حول الحطب شيّاً دائرياً جماعياً كما كان الشأن سابقاً على رمال دجلة في منطقة أبي نؤاس . كل شيء يوحي بالحياة ويبشّرُ بها ويدعو لها ولكنْ ... هل الحياة شرطةٌ وعسكرٌ وكاسرات السرعة في عرض الشوارع وسيارات كيّا وهايونداي وحلوى وذباب ولبلبي وسمك مسكوف ؟ كلاّ ! أرى فيها جميعاً الوجه الآخر للحياة : الموت ! الموت لدى السيطرات وفي زحام الشوارع وفيما تحمل حلوى ولحوم الشوارع من أتربة ومايكروبات وأوساخ وعلل وأوجاع . الموت في الحياة والحياة في الموت . هذه هي المعادلة التي تتحكم في كينونة أهل بغداد خاصةً وفي العراقيين على وجه العموم . قبلوا إحتمالات الموت من أجل الشعور بأنهم ما زالوا على قيد الحياة بعد كل الذي جرى من إستبداد سياسي وتحكّم بالأرزاق والمستقبل وحروب وغزو وحصار . بغداد تحاول النهوض من رمادها وركامها وأوجاعها وعلاّتها لتشغل نفسها عمّا هي اليوم فيه من كوارث ومآسِ وأخطار . بغداد تعاني اليومَ واحداً من أقسى أنواع الإنفصام الشيزو فريني فهي المتقدمة ـ المرتدّة وهي الناهضة ـ الساقطة وهي المنتعشة ـ المتآكلة الفانية . خليط مزدوج لا ينفصم إلى أين سيُفضي ومتى تتوحدُ بغداد وتتحدُ ؟ ترى هذا الإنفصام في كل ظاهرة وكل ملموس ومحسوس . ففي عالم السياسة هناك شيزوفرينيا المحاصصات الدينية ـ الطائفية والقومية والمذهبية والعرقية . وفي الجغرافيا هناك مناطق مقفلة للشيعة وأخرى للسُنّة وهناك مناطق مختلطة يُشار إليها بتحفظٍ وعلى استحياء ! وفي بغداد مناطق شعبية فقيرة مترامية الأطراف وفي وسطها منطقة تُسمّى خضراء هي مركز السلطة والسلطان والثروة والنعيم والرخاء والسلاح ثم السفارة الأمريكية المحصّنة الحصينة . هنا السلطة التشريعية والتنفيذية ( الحكومة ) وهنا رئاسة الجمهورية ونائباها وتوابعها ومستشاروها ومستشارو مستشاريها ولكلٍ أفواجُ حمايتهِ المدججة بالسلاح . عالم عجيب غريب يتشكل كدائرةٍ الجنّةُ في مركزها والجحيم على المحيط في أطرافها . كانت ولم تزل بغدادُ بغداد ألف ليلةٍ وألف ألف ليلة . لياليها طويلة في الشتاء ونهاراتها قصيرة . الظلامُ فيها سريعٌ وبزوغ نور فجرها بطئ . زحامٌ زحامٌ وإختناقات في الساحات والشوارع والتقاطعات وبغداد تظلٌّ مصبوغة بالأصفر يختلط في شوارعها النظام بالفوضى ، المغامرة بالحياة وإحتمالات الموت بعبوّة لاصقة ناسفة أو بحزانم مُفخخ أو بسيارة ملغومة . لا يمنع الموتُ الحياةَ في بغدادَ وباقي أنحاء العراق . في الموت قوة دفعٍ خارقة لمواصلة الحياة وفي الحياة ـ كظاهرة طبيعية بايولوجية ـ قوّة " شفط " مركّبة هائلة تخترق الممكن والمستحيل تدافع عن نفسها وعمّن أنتجت وأنجبت وتقاتلُ ضد قوانين الفناء . صراع بين نور ظاهر وظلام خفيٍّ عنيد قوي . بغداد تشكيلة الضدين الرئيسين وباقي الفروع . رأيتُ على واجهة أحد فروع الحزب الشيوعي العراقي في بغداد بوستراً يقول : يُعزّي الحزب الشيوعي العراقي العراقيين والمسلمين بمناسبة إستشهاد أبي الشهداء الحُسين . هذا وجه آخر لبغداد المتناقضات، وجه عصري فاعلٌ ودينامي إستحسنته وفرحتُ به . في بغداد الإسلام السياسي رأيتُ تمثالاً لرأس سلام عادل الزعيم الشيوعي الذي قتله بعثيو إنقلاب شباط 1963 وقطّعوه إِرباً إربا ... رأيته في إحدى زوايا ساحة الأندلس أمام مقر الحزب . بغداد تنهض ولكنَّ بغداد ما أنْ تنهض حتى تكبو وتسقط على الجبين . ففي المحاصصة تخلّفٌ وسقوط . وفي الشيزوفرينيا السياسية عناصر وبذرات التكسّر والتشرذم فالسقوط في الهاوية وما أدراك ما الهاوية . بغداد غولٌ خرافي لكنه مَهيضُ الجناحين مكسور الإرادة مشلول العزم والعزيمة رأسه في الكرخ وباقيه مُبعّثرٌ في أنحاء الرُصافة .
بغداد عروسٌ تبكي، بياضُ بدلة عُرسها في سوادِ كُحلِ عينيها . متى تتم مراسم هذا العُرس وأين اختفى العريس ؟ دجلة ضاقت بعد أنْ اتسّعت وغاضت بعد أنْ فاضت فيا ويل الأمّهات مما جرى لها ولهنَّ وما سيجري . يا حكومةُ ويا حكّامُ ويا مستوطنو الجنّة الخضراء أزيلوا الغُبار عن وجه بغداد أو اتركوها لغيركم فالغيرة على بغداد ليست فيكم وأنتم لستم منها ما كنتم وسوف لن تكونوا . بغداد تشكوكم وستظلُّ تشكو والويلُ لكم ممن يشكوكم إليكم والتأريخ قاضٍ عادلٌ قاسٍ لا يجامل ولا يرحم وأنتم زائلون عاجلاً أو آجلاً وكلُّ مَنْ عليها فانٍ كما تعلمون . أنتم الموتُ وفي بغدادَ جينات البقاء فالخلود .
الويلُ لكم من أمٍّ ثاكلٍ ومن سيّدة ترمّلت ومن طفلٍ تيتّمَ فتشرّدَ في الشوارع يبيع ما يُباعُ وما لا يُباعُ ! الويلُ لكم أينما ولّيتم فأنتم المُلاحقون المطاردون وأنتم المُتّهَمون في الدنيا وفي الآخرة .
بغداد آهٍ بغداد ! أأبكيكِ أمْ أبكي نفسي ؟ أأبكي الموتَ في بقائكِ أم أبكي بقاءكِ في موتكِ بغداد ؟ إختفت من الأسواق أسماكُ دجلةَ الخير وغير الخير وغزتها أسماك البحيرات الإصطناعية والمستوردة فأين شبّوطُ الفراتِ وأين [ بِزُّ ] دجلة المعروف ؟ أين [ مكتوم ] الفرات الأوسط وأين برحي البصرة ؟
غلبكِ بغدادُ اللونُ الأصفرُ لونُ صفار البيض ( كائنٌ حيٌّ مخنوق سجين ) وطابع الشحوب وعلامة الإعتلال والمرض فمتى كنتِ كذلك وإلامَ ستظلين رهينة هذا اللون ؟ السيارت في شوارعك تجري كأنها في سباق محموم مع الموت فأيّهما سينتصر وأيهما في نهاية الأمر سيفوز ؟ حياتكِ في موتك وموتك في حياتك ، هذه هي جدلية الكون .
هناك في بغداد اليوم جسورٌ وطرقٌ بممر واحد للحركة . أليس في هذا خرقٌ للقانون العام للحياة ؟ للحياة ممران وللحياة بوّابتان تفضي إحداهما لعالم الموت والأخرى لملكوت الحياة.
الغُربةُ في بغداد /
كل شيء غريبٌ لي وعنّي في بغداد . المدينة غريبة وأنا غريبٌ في أمكنة غريبة . غريبٌ في غربتي وغريبٌ عمّا أشعرُ به من غُرية . غُربة في غربة في غربة . الشعور بالغربة كبيرٌ متسّعٌ متشعّب . الشوارع غريبة وسائقو سيارات التاكسي والسيارات نفسها غرباء عنّي لا أفهمهم ولا يفهمونني . دوائر الحكومة ظلامٌ غريبٌ وغُربة حالكة السواد . الموظفون أرقام غريبة غامضة شفراتها عسيرة على الفك والإستيعاب . الأقاربُ أغارب والأقاربُ [ عقاربٌ لاسعات حشايْ / أغنية للكبنجي ] . ماذا تبّقى لي ولأمثالي في بغداد وما ينتظر الغريبُ من الغريبة ؟ إليكِ يا بغدادُ عنّي / فلستُ منكِ ولستِ منّي [ لشاعر أجهل إسمه ] .
بغدادُ يا بلدَ الرشيدِ
ومنارةَ المجدِ التليدِ
؟؟!!
لم أرَ الرشيدَ في بغداد ولا منارةً ولا مجداً تليداً أو غير تليد ! رأيتُ بؤساً وعانيتُ من ذُلٍّ وهوان أثناءَ متابعاتي لمعاملاتي في دوائر الدولة العراقية . لا يهمّني ما قال زيدٌ أو عمرٌ في مديح الوضع السياسي القائم اليوم في بغداد ( العملية السياسية ) ولا البخور المدفوع الثمن الذي أحرقه البعض في تزكية ومديح المالكي وغير المالكي إنما أضع أمام العراقيين في الخارج والداخل تجربتي العملية ومعايشتي اليومية لما رأيتُ وما لاقيتُ وما لحقني من أذىً وعَنَت وسوء معاملة . لا هيبةَ لدولة لا تحترمُ مواطنيها ولا مكانَ لها بين الدول والأمم. لا هيبةَ لحكومة تأتمنُ الجهلةَ وأنصاف الأميين والمرتشين والفاسدين بفرضهم موظفين في هذه الدائرة أو تلك حسب منطق وآليات المحاصصة الطائفية والقومية والعشائرية والإثنية . كنتُ غريباً وعنصراً طارئاً في بغداد وفي عموم العراق وطن آبائي وأجداد أجدادي . ماذا تعني كلمة غريب وما هي مستحقاتها وعواقبها وخواتمها ؟ كارثة ! أجلْ إنها كارثة الكوارث .
أستودعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَراً
بالكرخِ من فَلَكِ الأزرارِ مطلعُهُ
ودّعتهُ وبودي لو يودّعني
صفوَ الحياةِ وإني لا أودّعهُ
( لإبن زُريق البغدادي ) .
كمْ قمراً حيّاً وميّتاً ودّعتُ في بغدادَ والحلةَ والنجف ؟ أجيبي يا نجاة أجيبي يا فريدة أجيبي يا فائدة أجيبي يا إبتهاج أجيبي يا نورة أجيبي يا بغداد !
0 comments:
إرسال تعليق