كان من المفترض ان اكتب عن حالة الإعلام العربي عامة وليس عن الإعلام اللبناني فقط.. ولكن انعدام الحرية الكاملة في جميع البلدان العربية مع استثناءات محدودة وقليلة، فرض الكتابة عن الإعلام اللبناني مكتوباً ومقرؤاً بعد ان اصبحت الساحة الاعلامية في لبنان سوقاً مزدحمة بالمزايدين والشتّامين مما أجبر نسبةً محترمة من الرأي العام على الابتعاد عن قراءة الصحف ومشاهدة برامج الشتم واطلاق الكلام البذيء الذي تُعاقِب عليه قوانين الدول المتحضرة.
ان الصحافة اللبنانية صاحبة تاريخ مجيد انطلق قبل قرن ونصف مع كوكبة من عمالقة الفكر والعطاء. انطلق مع خليل الخوري، خليل سركيس، الشهداء سعيد عقل والاخوين الخازن، الى جبران تويني الاول، اسكندر رياشي، يوسف ابراهيم يزبك ومحي الدين النصولي، وصولاً الى عصر كامل مروة، سعيد فريحة، سليم اللوزي، غسان تويني والكثيرين غيرهم، دون ان ننسى المساهمين الرئيسيين في بناء صحافة مصر من اللبنانيين مثل الاخوين تقلا، انطون الجميل، فرح انطون، الشميّل، صرّوف، زيدان والآخرين.
من يصدّق ان لبنان الذي كان منبر الحرية الوحيد في العالم العربي حيث كان معظم الملوك والرؤساء العرب ينتظرون بتلهّف وصول صحف بيروت كل يوم للاطلاع على آراء كتّابها ومحتوياتها؟ من يصدق ان هذا المنبر الوحيد سيطرت عليه مجموعة من كتّاب الاجرة ليصحّ قول البعض قببل ٠٤ عاماً عن النفط العربي انه نقمة ولعنة وليس نعمة.
نقول هذا الكلام مع شعور عميق بالألم ومع احترام كامل لقلة من الكتّاب حافظت على الرصانة واحترام النفس. ولكن ما نقرأه ونراه نكاد لا نصدقه ونصدق العيون والآذان التي ترى وتسمع... أمامي مجموعة من مئات المقالات المنشورة في أبرز الصحف والمجلات اللبنانية التي يخجل الانسان من قراءتها، وبعض هذه المواد نشر على الصفحات الأولى.
لقد باتت عبارة »كتّاب الاجرة« متداولة في لبنان مثل سيارات الاجرة وعربات الاجرة وغيرها من آلات واصحاب خدمات متوفرة مقابل مبالغ مالية. في العام الماضي دلّني صديق صحافي على فيلا فخمة في بلدة جبلية بلغت كلفتها أكثر من مليون دولار صاحبها صحافي معروف كان يعمل الى جانب صديقي في صحيفة واحدة حتى العام ٥٠٠٢ براتب شهري لم يتجاوز الخمسمائة دولار.
أعلم اني أورّط نفسي في كلامي هذا لاني محسوب على الحقل الاعلامي. ولكني أرى وأسمع شيئا شاذاً لا أقدر ان اسكت عنه، مع الاعتراف والمعرفة ان الصحافة اللبنانية والصحافة العربية بأجمعها غير قادرة على تمويل نفسها وهذه الواقعة عمرها أكثر من نصف قرن ولكن الحالة لم تصل الى ما وصلت اليه من إسفاف وعيوب.
لا يجوز ان يمر هذا الكلام الذي يحكي صورة واقع أليم دون تحية تقدير الى أساتذة الكلمة الذين لم ولن تطالهم الشبهات مثل طلال سلمان، ادمون صعب، سركيس نعوم، فؤاد دعبول، رفيق خوري، جهاد الزين، جورج بشير، نصري الصايغ وقلة معهم لها قدسيتها وكرامتها التي لا تنزل الى مستوى الإسفاف والشتيمة.
ان الاكثرية تكاد تطيح بمنابر الحرية والفكر بعد ان تحول عدد كبير من الإعلاميين الى ما يشبه قادة شرسين يرفضون الآخر، والاسوأ من هذا هو ان هذه المجموعة تجد من ينشر لها بل يغدق عليها المال لتقول ما تقوله وتكتب ما تكتبه من السباب والكلام العشوائي الذي يأتينا في مسلسلات من عشرات الصفحات احياناً.
وقد دخل اعلام الشتيمة الى المنازل رغماً عن اصحابها مع تطور الفضائيات وانتشارها. في البدايات كان مقدّمو البرامج يحاولون السيطرة على برامج الحوار التي يشارك فيها اكثر من طرف، وعند احتدام السجال كان المقدّم يحوّل الكاميرا ويقطع البرنامج لتهدئة الوضع ثم يعود الى ساحة المعركة. وقد تغير هذا الواقع حالياً حيث بات مقدّمو البرامج يتركون »زبائنهم« من سياسيين وإعلاميين يتبادلون الشتائم ويشهّرون بالأمهات والشقيقات بعبارات من »الزنار ونازل« مما يثير الاشمئزاز ويحمل الكثيرين على مقاطعة الشاشة الصغيرة والابتعاد عنها باتجاه برامج غير عربية.. وربما هذا الواقع دفع الكثيرين الى الإدمان على المسلسلات التركية بعد غياب المكسيكية.
في البداية ظن الكثيرون ان هذه الشراسة الإعلامية في لبنان ليست اكثر من مرحلة جاءت بعد سنوات طويلة من الكبت والهيمنة. ان هذه النظرية خاطئة لان لبنان الذي شهدحرباً أهلية دامت لاكثر من ٥١ عاماً غابت خلالها سلطة الدولة وجيشها وأمنها، ولكن الصحافة اللبنانية حافظت على احترام الذات وحفظ الكرامة رغم حدّة الحرب ووحشيتها ورغم الاموال التي كانت تتدفق على الصحافة وأهلها.
اننا نعارض الذين يقولون اننا لا نستحق الحرية الكاملة، ونعارض الذين يتمنون وجود رقابة لان صحافة لبنان لها تاريخ مجيد ومشرف وتمكنت دائماً من تجاوز الصعوبات.. في العام ٣٧٩١ احتدمت معركة كلامية بين المرحومين سعيد فريحة وسليم اللوزي الذي كتب تحقيقاً في مجلة الحوادث قال فيه انه قابل جمال عبد الناصر بحضور سعيد فريحة الذي تسلم هدية مالية من الزعيم المصري بحضور اللوزي... جاء رد سعيد فريحة صاعقاً في افتتاحية صحيفة الانوار بعنوان »أسكتوا هذا الجعاري«.. ولكن المعركة توقفت كلياً عند هذا الحد بعد تدخل المرحوم رياض طه نقيب الصحافة.
فمتى تتوقف او تنتهي أساليب الشتم والإسفاف في صحافتنا وإعلامنا؟!.. وعذراً على هذا الكلام الصادر مع ألم قد يعقبه ندم.
0 comments:
إرسال تعليق