عندما اندلعت الموجة العارمة من الاحتجاجات والانتفاضات والهبات والثورات الشعبية في العالم العربي، التي سميت في حينه بـ "ربيع الثورات العربية"، كان هدفها اسقاط الانظمة الحاكمة، والتخلص من الفساد والظلم والقهر وكبت الحريات وتقييدها ،وتغيير الواقع بواقع جديد يعبر عن طموحات ورغبات الجماهير العريضة بالحرية والتقدم والتطور العصري وبناء المجتمع المدني الديمقراطي التعددي الخالي من العبودية والتمييز والتعصب الديني وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية وضمان الحريات العامة واعادة بريق الامل والتفاؤل الثوري لشعوب الأمة.
لكن بعد أكثر من عامين ونصف على اندلاع هذه الثورات نرى ان نتائجها عقيمة ومأساوية ومخيبة للآمال ، وانها انحرفت عن مسارها الصحيح وسرقت من قبل الحركات والتيارات الاسلاموية الراديكالية المنطوية تحت عباءة وخيمة " الاسلام السياسي " ، وتم توظيفها في خدمة المشروع الصهيوني الامبريالي الرجعي الرامي الى تمزيق المجتمعات العربية وتفتييت وتقسيم المنطقة العربية .
لقد تزايدت بعد هذه الثورات مظاهر الفتنة الطائفية ، وتنامى الاصطفاف الطائفي بين مكونات الامة الاسلامية ، وكثرت الفتن الطائفية القرضاوية ، وعم الفساد، وانتشر الفقر والضياع، وزاد التحرش الجنسي، وانتهكت الاعراض والحرمات ،وبدلاً من ان تعيش شعوبنا العربية بكرامة وعزة نفس وفي أمن واستقرار اقتصادي اصبحت متوترة ومضطربة تعاني القلق والتمزق والانهيار الاجتماعي والاخلاقي .
ان ما يميز الحال العربي بعد هذه الثورات هو استشراء الغلواء الطائفية والتجييش المذهبي الذي يمزق النسيج الاجتماعي والوطني ، واتساع مساحة التقليدية والسلفية الظلامية وصعود الاصوليات الاسلاموية ونشاط الجماعات الجهادية التكفيرية، التي تدعي زوراً وبهتاناً الاسلام، وتشوه جوهره الوسطي الانساني ، وتمارس الجريمة والقمع والتكفير والتخوين ، وترتكب الجرائم بحق الانسانية ،وتقوم بالتفجيرات المسلحة في العراق وسورية ومصر وتونس وغيرها . وهذه الجماعات والتيارات التكفيرية تحمل بداخلها مفاهيم رجعية سلفية وظلامية تشكل عقبة كأداء امام الديمقراطيات في البلدان العربية .ان الناس بحاجة اليوم الى اوطان حقيقية ، وبحاجة الى الخبز والورد والكرامة والخروج من مستنقعات ودياجير التخلف والظلام والقمع والكبت واليأس والنقص الفادح في الحريات . وقد كان هدف الثورات ولا يزال تغيير الواقع جذرياً وبناء مجتمعات مدنية متحضرة زاهرة بالعلم والنور والثقافة والازدهار والديمقراطية الحقة والتعددية السياسية والفكرية والرخاء الاقتصادي . ولتحقيق ذلك فان المطلوب من قوى المعارضة والمجتمع المدني حشد الطاقات الجماهيرية الغاضبة والخروج الى الشوارع في مظاهرات سياسية سلمية وحضارية تعبيراً عن رفض الواقع والتبعية وللمشروع الامبريالي الصهيوني الهادف الى تجزئة وتفتيت وتفكيك اوطاننا العربية ، والسعي الدؤوب الى تكوين وبناء الدولة المدنية العصرية القادرة على التخطيط العلمي المنهجي الواقعي ، التي تصب في خدمة طموح الانسان العربي الى حياة افضل وارقى وأجمل ، لا دولة التعصب الأعمى والجاهلية الجديدة والعنف والكراهية والغلواء الطائفية والتصفيات الجسدية لكل من يجرؤ على ممارسة معتقده وحريته الفكرية .
0 comments:
إرسال تعليق