انسحبت القوات العسكرية الصهيونية من غزة الأبية وتوقفت الطائرات الحربية عن التحليق وارسال صواريخها الغبية وإنزال حمم اللهب على المدارس والمستشفيات والأبراج السكنية وتراجعت الدبابات والجرافات والشاحنات وناقلات الجند من المناطق التي اقتحمتها في بداية الحرب البرية الهمجية على القطاع وأمسكت قذائفها ونيرانها عن تمزيق أجساد الأطفال والمرضى والشيوخ والنساء من السكان.
هذا الانسحاب جاء تحت عنوان تهدئة قصيرة ببعض الساعات أو الأيام وسميت هدنة أو فترة هدوء بعد تحول الفصائل إلى القاهرة للمشاركة في المفاوضات من أجل تعزيز الصمود السياسي للمقاومة في وجه الابتزاز الذي تمارسه بعض الدول العربية تجاه القضية الفلسطينية العادلة خدمة لأجندات سياسية معولمة. هل هذه الهدنة هي استراحة المحارب وحيلولة دون الحديث عن نزع سلاح المقاومة وإخضاع القطاع إلى الحماية الدولية أم مقدمة للاتفاق على لإبرام اتفاق حول تهدئة طويلة تمكن من إعادة اعمار غزة الأبية؟
والحق أن المقاومة الفلسطينية قد أحرزت نصرا عسكريا عظيما وأوقعت في صفوف العدو خسائر جسيمة وأن الاعتداء الهمجي قد فشل فشلا ذريعا وعجز عن تحقيق بنك أهدافه وأن الفلسطينيون أكدوا صمودهم ودعمهم المتواصل لمشروع المقاومة وأن الضفة الغربية هي الرئة الثانية التي تتنفس بها الانتفاضة كلما احتاجت إليها وأن وحدة الصف السياسي الفلسطيني هو الرد الحتمي والمنطقي على الصمت العربي. لقد عاد الجيش الإسرائيلي يجر أذيال الخيبة بعد أن تاه جنوده وضباطه رمال غزة وباتت قياداته السياسية أمام خيارات مؤلمة وهي الاعتراف بالهزيمة أمام المقاومين وارتكابهم أبشع المجازر والجرائم والإبادات الجماعية على مر التاريخ واحتمال تعرضهم لتتبعات قضائية دولية من منظمات عالمية لحقوق الإنسان. تصنيف إسرائيل كدولة إرهابية من طرف بعض الأنظمة وسحب العديد من الدول سفرائها منها وتعالي الأصوات بضرورة تفعيل المقاطعة الاقتصادية والعسكرية معها كان المقابل على منح أمريكا وحلفائها الغربيين هذا الكيان الغاصب حقا لامحدودا للدفاع عنه نفسه ودعمه بالسلاح والغطاء السياسي المطلوب. لكن من المستفيد من النصر العسكري للمقاومة الفلسطينية في غزة؟ وماذا بعد التهدئة بين الطرفين؟
المستفيد الأول هو تحيين القضية الفلسطينية على الساحة الدولية وانارة السبيل أمام الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني مثل ملكية الأرض وتحرير القدس وعودة اللاجئين وتكوين الدولة وتركيز مؤسسات السيادة.
المستفيد الثاني هو نجاح خيار الكفاح المسلح وإعادة الاعتبار إلى مشروع المقاومة وثقافة حركات التحرر الوطني والإيمان بقيمة العمل الصبور الذي قامت به وأعدته له الألوية والكتائب والسرايا على الميدان.
المستفيد الثالث هو واجب رفع الحصار عن قطاع غزة وحقه في تشييد ميناء بحري ومطار آمن والسماح بحرية تنقل المواطنين إليها عبر جميع المعابر والتمتع بحقوق الحياة والعلاج والغذاء والطاقة والعمل.
المستفيد الرابع هو عودة الوهج النضال إلى ناشطي الضفة الغربية وعرب48 والشتات والجاليات والمخيمات والشروع في إطلاق انتفاضة ثالثة تكون مهمتها استكمال المسيرة ودق أجراس العودة.
المستفيد الخامس هو تصويب البوصلة من طرف حركات الإسلام السياسي والانتقال من محور الاعتدال العربي إلى محور الممانعة والارتفاع فوق التجاذبات الدولية والمشاحنات الإقليمية والصراعات المذهبية.
المستفيد السادس هو ترميم السلطة الوطنية بعض تصدعاتها وترجيح مصلحة الوطن على المآرب الحزبية والحرص على وحدة الصف السياسي وواجب الذهاب إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني.
من الضروري أن تتوجه العقول والأيادي إلى تعزيز هذا الانتصار بالمزيد من الوعي والبناء والإعداد نحو مرحلة أخرى من مراحل التحرر السياسي من الاستحمار في الداخل والاستعمار والتبعية في الخارج. فمتى نرى فلسطين حرة من النهر إلى البحر؟ وكيف يمثل تحريرها حجر الأساس لبناء الوحدة العربية؟
كاتب فلسفي
0 comments:
إرسال تعليق