ماذا فعلت فيضانات تايلاند بقطاعها الصناعي؟/ د.عبدالله المدني

لعل من سؤ حظ رئيسة الحكومة التايلاندية "يينغلوك شيناواترا"، وهي أول سيدة تصل إلى الحكم في بلادها عبر صناديق الإقتراع، أن تواجه تحديا في حجم تحدي الفيضانات الأخيرة التي أغرقت بلادها، منذ منتصف أكتوبر الماضي وحتى ساعة كتابة هذا المقال، فقتلت ما لايقل عن 500 مواطن، وشردت نحو 3 ملايين آخرين، ودمرت ملايين المنازل، ناهيك عن تدميرها لمنشآت وأصول أكثر من 14 ألف مصنع، وإتلافها لنحو ستة ملايين طن من محاصيل الأرز الذي إشتهرت بها البلاد وصارت من أكبر مصدريه على مستوى العالم.
لن نتحدث في هذا المقال عن الإجراءات التي لجأت إليها بانكوك للتخفيف من حجم الأضرار، أو ما رصدته من مبالغ ضخمة كتعويضات ومعونات للمتضررين (وصلت هذه المبالغ إلى نحو 130 بليون بات أو ما يعادل 4.2 بليون دولار، مع الإعلان عن إستعداد الحكومة لضخ أموال أخرى إذا ما دعت الحاجة من خلال الإقتراض من الخارج، معطوفا على إصدار أوامر إلى المصارف المحلية بمنح قروض ميسرة للمتضررين سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات). ولن نتحدث عما فعــّـلته الدولة من وسائل للمحافظة على سمعة تراكمت على مدى عشرات السنين في قطاعات السياحة والإستشفاء والصناعة من أجل التصدير، وزراعة المحاصيل الغذائية المتنوعة. ولن نقارن الصمود الذي حققته حكومة "شيناواترا" بما حققته نظيرتها اليابانية يوم أن تعرضت أراضيها أوائل هذا العام لأحد أسوأ الأعاصير البحرية في تاريخها المعاصر، خصوصا وأن المقارنة هنا ليست بذي جدوى في ضؤ الإمكانيات المالية واللوجستية الهائلة المتاحة لدى طوكيو، والغائبة في الحالة التايلاندية كنتيجة لتفوق الإقتصاد الياباني على الإقتصاد التايلاندي بمئات المرات. ولن نتحدث عن ما أبداه التايلانديون بمختلف فئاتهم ومشاربهم من تمساك وتعاضد، مع الإصرار على مواصلة إنضباطهم وطبيعتهم المرحة وإبتسامتهم المشرقة رغم هول الكارثة وآلامها وخسائرها. ولن نتحدث عن مسارعة "شيناواترا" ووزرائها إلى إرتداء الأحذية البلاستيكية الطويلة، والنزول بأنفسهم إلى الشوارع والمناطق المنكوبة لمواساة أسر الضحايا والمتضررين، وشد أزرهم في محنتهم مثلما يفترض في اي سياسي يستشعر بآلام شعبه. والحقيقة أن السيدة "شيناواترا" صاحبة الخبرة المتواضعة في الحقل السياسي بكت وسالت دموعها أمام كاميرات الميديا، ليس فقط بسبب هول ما رأته وسمعته، وإنما أيضا بسبب إستغلال رموز المعارضة للكارثة في الإدعاء بأنها ليست أهلا لقيادة تايلاند في هذه الأوقات العصيبة، وأنها تبدد إحتياطيات البلاد المالية في تقديم التعويضات دونما رؤية أو برنامج قومي واضح، ناهيك عن تشكيكهم في قدرتها على تنفيذ الوعود التي قطعتها على نفسها أثناء حملاتها الإنتخابية في يوليو الماضي. تلك الوعود التي تضمنت وضع حد أدنى للأجور في بانكوك لا يقل عن 300 بات يوميا (أي بإرتفاع 40 بالمئة من مستواه الحالي)، وتحديد أسعار المكون الرئيسي لطعام الغالبية العظمى من الشعب (الأرز)، وتوفير كمبيوتر شخصي مجاني لكل طالب وطالبة، وتحديث وتطوير قانون للحد من الفساد والإفساد في أجهزة الدولة البيروقراطية. والجدير بالذكر أن أحزاب المعارضة ليست وحدها المتربصة بهذه المرأة. فهناك أيضا المؤسسة العسكرية التي لئن أعلنت الهدنة معها، فإنها تظل متوجسة منها خوفا من إحتمالات إيجادها لثغرات قانونية تعيد بها شقيقها "تاكسين شيناواترا" رئيس الوزراء الأسبق المطلوب للعدالة بتهمة الفساد والتكسب غير المشروع وإزدراء الملكية إلى المشهد السياسي مجددا.
لن نتحدث عن كل هذا ، لكننا سندير دفة الحديث نحو تداعيات الكارثة الناجمة عن إرتفاع منسوب المياه في أنهار البلاد الخمسة والعشرين على صناعة هي الأهم في عالم اليوم، ونعني بها صناعة المكونات الصلبة لأجهزة الحاسوب الآلي.
تعتبر تايلاند الدولة الثانية على مستوى العالم بعد الصين في هذه الصناعة، وذلك كنتيجة لسياسات الحكومات المتعاقبة في تشجيع مستثمري الدول الصناعية الكبرى على إستخدام أراضيها وبنيتها التحتية الجيدة وإنفتاحها الإقتصادي ورخص عمالتها وتشريعاتها الميسرة على توطين تلك الصناعة.
ومما لا شك، والحالة هذه، أن تكون النتائج مدمرة على إنتاج المكونات الكمبوترية الصلبة على المستوى العالمي. فالشركات العالمية التي إختارت تايلاند مركزا لتجميع منتجاتها فؤجئت بالكارثة الطبيعية المذكورة، بل اُخذتْ على حين غرة، مسببة لها خسائر فادحة، الأمر الذي سوف ترتفع معه، لا محالة، أسعار هذا المنتج الذي تستحوذ تايلاند وحدها على نسبة 40 بالمئة من صناعتها عالميا.
وطبقا لبعض التقارير الإخبارية فإن أكثر الشركات العالمية التي تضررت هي شركة "ويسترن ديجيتال" الإمريكية التي تقلص حجم إنتاجها بنحو 75 بالمئة، تليها شركة " سيغيت" الإمريكية الرائدة في تقديم وسائل تخزين المعلومات وإنتاج الأقراص الصلبة للحواسيب ومحركاتها، والتي تتخذ من تايلاند مركزا رئيسيا لصناعة منتجاتها، فيما تأتي شركة "توشيبا" اليابانية في المرتبة الثالثة على صعيد الخسائر، حيث غطت مياه الفيضانات كافة منشآتها إلى ما فوق الثلاثة أمتار.
ومن هنا لم يكن غريبا أن تتناول تقارير أخرى مسألة ما سيطرأ من إرتفاعات على أسعار أجهزة الحاسوب الآلي من "لاب توب" ونحوه في الأسواق العالمية وفق نظرية التناسب العكسي ما بين العرض والسعر. حيث توقع بعض هذه التقارير حدوث إرتفاع في الأسعار بنسبة 50 بالمئة خلال الأشهر القليلة القادمة، فيما أبدى البعض الآخر تفاؤلا بإمكانية عودة المصانع إلى مستويات الإنتاج المعتادة، وبالتالي عودة الأسعار إلى مستوياتها السابقة بحلول شـهر مارس 2012.
وعلى اية حال فإن مصانع إنتاج المكونات الصلبة للحاسوب الآلي لم تكن الوحيدة المتضررة من الكارثة التايلاندية غير المسبوقة في تاريخ هذا البلد الجنوب شرق آسيوي. فإذا ما إستثنينا ما لحق من خسائر جسيمة بمصانع تجميع المركبات اليابانية من أنواع "هوندا" و"تويوتا" و"نيسان"، فإن هناك الخسائر الكبيرة التي لحقت بمصانع إنتاج كاميرات التصوير الرقمية التابعة لشركات معروفة مثل "سوني" و "نيكون" و "كانون"، وهي ما دفع المراقبين للتنبؤ بإحتمال تراجع حجم المعروض من هذه السلع في الأسواق العالمية حتى الربع الأول من العام القادم.
من ناحية أخرى، إكتشف أن معايير الأمان في أجهزة المايكروسوفت قد تعرضت هي الأخرى للتدمير، الأمر الذي تسبب في حالة من الذعر والهلع لدى ست مؤسسات كبرى (لم يصرح بإسمها)، لها أنشطة في تايلاند وإن كانت تتبع لدول مثل فرنسا وسويسرا وأوكرانيا والهند، وذلك تخوفا من إحتمال إنتقال المشكلة إلى نظم المعلوماتية والتحكم المركزية لهذه المؤسسات في بلدانها الأم.

CONVERSATION

0 comments: