صدر للأب يوسف جزراوي، كاهن كنيسة المشرق الأشورية في سيدني، كتاب "أحاديث قلم في مرايا الذات والمجتمع" الذي يهديه الكاتب الى بغداد وهولندا ووالدته وبلده وشعبه وكنيسته والناس أجمعين، ويهديه الى القارىء قائلاً "أقدم عصارة فكري وخبراتي وثمار سهري مع القلم وحصيلة دردشات قلمي مع الورق". من هنا تبدأ رسالة الكاتب حاملة القاريء على متن "سفينة الإنسانية" التي تشق أمواج بحار يومياتنا في رحلة تغوص في أعماق الفكر الملتزم بكل ما له صلة بالخير والقيم والإيمان بالرب وتقدم الانسان وإصلاح الفرد والمجتمع.
ولدى البدء بمطالعتنا للوليد الأدبي الجديد يصلنا "الأعتذار" من الكاتب ليس لأنه أرتكب ما يملي عليه الأعتذار، بل لأنه أبى الوقوع في مرحلة ما ضحية "الذهنيات العتيقة" و "التقاليد البالية" التي تأبى أن تتقبل مساحات الحرية، والتي تتفادى دوماً إدراك الغايات النبيلة، فإذا بنا نكتشف باكراً صراعه المتأجج بين عالم يحتضن إرادة التغيير وثورية الرؤية وجرأة التعبير، وبين ظلمة يختبيء في خفايا سوادها من يحترف الجَلد ومن يستورد الظلم حتى الى بلاد تتمتع بالحرية. لكن الأب الذي "إعتاد على إشعال الحرائق والزوابع" من خلال بعض كتاباته يحسم خياره ويتمسك بالرسالتين كون رسالته الكهنوتية ورسالته الأدبية لا يتناقضان، أو ليست تعاليم الرب رسالة من نور تزرعها الأقلام الراقية لكي تحصدها عقول تعانق الرغبة في تطوير الذات والمجتمعات.
يتناول الأب جزراوي معاناة بلاده العراق التي تشبه الى حد كبير معاناة الشرق العربي برمته حيث يختصر المشهد وكأنه يلقي القبض المعنوي على المتهم الأساسي " ان الساسة وعلى ما يبدو انهم يعيشون في أبراجهم العاجية العالية.. ولا يعنيهم إلقاء نظرة الى ما يجري تحت انوفهم إلا عند اقتراب موعد الأنتخابات". وهكذا هي الحال تماماً في كافة أرجاء الوطن العربي. فكلما قرأنا كلما شعرنا أننا نتقاسم المشاكل عينها من الإضطهاد والألم والقهر والفساد وإنتهاك الحقوق البديهية للإنسان وإن بتفاوت الدرجات. إلا أن الرحلة لا تكون قد أستقرت في محطاتها الأول طويلاً حتى ينقلنا الكاتب الى "بلدان إنسانية الإنسان" فتتضاعف خيبتنا من أوطاننا الأم وتتعاظم مخاوفنا حيال المستقبل عندما ندرك كم يفتقر شعبنا الى الحد الأدنى مما توفرّه لنا دول رائدة بإنسانيتها وعدالتها الإجتماعية وثقافتها المتجددة مثل أوستراليا. وما تشخيصه للواقع السائد إلا موضوعية لا لبس فيها أنضجتها تجارب الحياة وخبراتها وهي "ان سر تقدم الغرب يكمن في أنه قدّس إنسانية الإنسان، أما في الشرق، فقد قدسّنا الأعراف والعادات والتقاليد المتوارثة، والتي بات الكثير منها غير صالح لزماننا هذا."
في محطات الوجدانيات النازفة بفعل اللامنطق المتجذر حيث تتحكم فكرة إلغاء الآخر بشرقنا المقيد بغلال الحقد على الانسانية، يعود بنا الكاتب الى "الذاكرة البغدادية الموجعة" مناجياً عاصمة عراقه الجريح لينقش في ذاكرة الإرادة المتحررة: " بغداد، ستبقين حباً ينخر أعماقي. يقرأون كلماتي عنك في سطور وأنت في داخلي رواية حزينة موجعة". "أرملة الفرح" هي بغداده.. هي عنده كل الرواية، هي الأحداث المتراكمة في قصة مؤلمة باتت بأمس الحاجة الى نهاية سعيدة مشبعة من آمال يختزنها تحقق حلمه بالعيش الكريم، وتحيي فيه الفرح الذي لا بد من أن يستعيد أمجاده الغابرة بقيامة تعيد الى العالم بغداد العريقة الجميلة الشامخة. لذلك يحمل قلمه حبر التفاؤل في محاولات تتمحور حول العزيمة الهادفة الى كسر جدران الكراهية.. الى القضاء على الجهل المتنامي نتيجة عصبيات الإنتحار الجماعي الذي لا بد من التصدي له من خلال كافة الوسائل الانسانية والروحية المتاحة.
"أو ليست الكتابة صرخة إستغاثة؟ ومن غير الورق يسمع إستغاثتك!." نعم أبونا، الكتابة هي الوسيلة الأنجع المستقوية بكلمة تكون أمضى من ضربة الحسام، وأكثر فعالية من وحشية الإجرام المفترس للكرامة قبل الجسد. هي الإستغاثة التي تصل الى قلب الرب مباشرة كونها تنبع من صميم أوجاع الانسان المتصارع مع ضعف ذاته وفوضوية محيطه وتفشي الضياع في مجتمعه. هي الصرخة المدوية المنبعثة من ورق الذاكرة الحية بما يشع منها من نور للحق.. هي الوقفة المباركة بمشيئة "نور العالم" الساطع من أعلى أعالي الملكوت السماوي المقدس الذي هوالوحيد القادر على إحقاق العدالة في نهاية المطاف.
وفي الصراع الوجودي ليس للإنسان من سبيل سوى المثابرة على إكتشاف ذاته والعمل على تطويرها لأنه إن لم يدرك المرء ما يرتكبه من أخطاء ويعترف بالتالي بضرورة العودة الى الرب وتعاليمه ستستمر معاناته مع تفاقم رفضه الإنعتاق من الأنانية المزمنة عبر الإعتراف بما تلحقه تصرفاته السلبية من ضرر له ولسواه "بيد أن عقدة الذات المقهورة تستمر بملازمة المرء الذي يستمر في التنكر لأخطاءه والهرب منها".
لا يتناول الأب جزراوي المشاكل على أنواعها، إنما يستعرض خلفياتها طارحاً الأفكار التي تؤدي الى حلول كم تفتقرها مجتمعاتنا. يقول الكاتب "ما نحتاجه اليوم ليس حكاماً بل حكماء، تتوفر فيهم الزعامة والقيادة والخدمة والتجرد". فكم يوفّر على أوطاننا الكثير من المآسي والأزمات وجود هكذا حكام على المستوى المدني والديني. ان البداية تنطلق من ذهنية الخدمة والتجرد وهذا ما يتبناه القادة في الدول المتقدمة الحاضنة للأنسانية بكل معانيها الحضارية. ثم تأتي دعوة الكاتب الى القادة والشعب على حد سواء لإعتناق "ديانة الحب" تتويجاً لمسيرة الإصلاح من حيث أنه ما من عمل بناء يتجسد خارج إطار المحبة!. عدا عن انه ليس هنالك ما يرتقي بنا الى مصاف الأنقياء أكثر من الحب الذي به نذلل عقبات التمييز العرقي والتناحر الطائفي والتعبد لأصنام الماديات!. من هنا يؤكد الأب جزراوي مراراً "لقد حان الوقت لنعتنق ديانة الحب وطقوس الانسانية."
لا يكتفي الكتاب الغني بحكمه وإرشاداته وأخلاقياته الراقية بالتطرق إلى مسألة واحدة ولا إلى قضية دون اخرى، بل يناقش أحوال وشؤون المجتمع والفرد، الحنين والعاطفة، الجمال الروحي والأخلاقي، الزواج، الكلمة الورقية في زمن الأنترنيت، المرأة، الأقاويل والشائعات، المناصب، الكنيسة ودور الكاهن... أنه عصارة تجارب لا تمحيها الأيام بحلوها ومرها.. أنه خزان من المعرفة والفكر بوسعنا الأستعانة بمضمونه والرجوع اليه كلما أردنا الاستفادة من الكلمة الرامية الى نشر الخير والسلام والمحبة والرقي.
"لأن الكتابة عن الحياة يجب أن تنبع من الحياة نفسها" كما يجزم الكاتب..دفعني قلمي الى تدوين هذه الكلمة المقضبة العفوية بعد قراءة كتاب "أحاديث قلم في مرايا الذات والمجتمع" وعلى وجه الخصوص بعدما أنعش رغبتي ما خطه الأب جزراوي متحدياً أعداء الكلمة " للكلمة رسالة سامية، بل هي تمرد، تجديد، إصلاح، إنارة دروب الإنسان بالوعي والتوعية والتجديد المفيد المثري".
" أحاديث قلم في مرايا الذات والمجتمع" هو موسوعة فكرية تزدان بها عقولنا وقلوبنا قبل مكتباتنا. ختاماً، أسمح لي حضرة الكاهن والمفكر الكاتب يوسف جزراوي ان أنهي هذه المقالة مستعيناً بخاطرة من قلمكم : "بعض الناس كلما كتبت خسرت، وبعضها كلما كتبت كسبت. ويبقى الكاتب الحق هو الذي يتقن كيفية الغوص في أعماق الذات والحياة".. لأقول أنكم كسبتم مع كل فكرة وكل كلمة وكل موقف ..أما نحن القراء فقد كسبنا من رونق الأفكار وعمقها ما يغني إنسانيتنا من مختلف جوانبها. فإلى المزيد من العطاء والمكاسب أبونا يوسف جزراوي.. مع محبتي وإحترامي ..
*****
- " أحاديث قلم في مرايا الذات والمجتمع" الكاتب الأب يوسف جزراوي – سيدني 2014 - 200 صفحة حجم وسط
- كلمة غبطة المطرابوليت مار ميليس زيا السامي الاحترام، تقديم الأديب انطوان قزي، كلمات للأديبة مارسيل منصور، الشاعر شوقي مسلماني، دكتور علاء العوادي، الشاعر حيدر كريم. - الغلاف من تصميم الفنانة مارسيل منصور
-طباعة RM Gregory Printers
0 comments:
إرسال تعليق