الأمـــن الفكـــــري/ صبحة بغورة

أصبحت مسألة الأمن الفكري من المواضيع الحيوية والهامة، وتقتضي درجة الحساسية التي تكتسبها في حياة الشعوب ومستقبل الأمم ضرورة التعرض لها لكونها مسألة أساسية ومعاصرة ولامناص من مواجهتها في ظل معطيات الأوضاع التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية وما أفرزته من توترات أدت إلى بروز ظاهرتي الاغتراب الثقافي.. والتطرف العقائدي.
من المتفق عليه أن الأمن الفكري والانسجام القائم والمفروض أن يكون كذلك بين ما يؤمن به المجتمع وبين ما يعيشه في مفردات حياته اليومية وما يتطلع إليه، إلا أن تحقيق ذلك يتوقف على الإجماع الموجود بين الأفراد في استنادهم إلى مرجعية عقائدية وثقافية واحدة تمثل المعالم الرئيسية للخلفية التي يؤمن بها المجتمع بمختلف طوائفه وعلى تعدد نسيجه الثقافي والسياسي، فالمجتمعات في حاجة للأمن الفكري لجمع المواطنين على كلمة واحدة، ومن ذلك يمكن فهم أن تحقيق الأمن الفكري هو مسؤولية المجتمع بكل مكوناته من أجل التوحد حول فكرة واحدة وأساسية بشأن العقيدة والوطن، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أن الأمن الفكري يعني حصارا للعقل وحجرا عليه إنما هو تأكيد على حرية الرأي في إطار احترام ثوابت الأمة والمحافظة على تراثها ووقايتها من محاولات مسخ الهوية أو الغزو الثقافي الأجنبي الهدام لأسس و أصالة المجتمع، فالأمن الفكري هو ركيزة نهوض الأمم والمجتمعات و الكفيل بتوفير أمن العباد و البلاد من مخاطر الاستلاب.
الأكيد أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا يمكن أن تخطو خطواتها الأولى في الطريق الطويلة لتحقيق أهداف التطور والرفاهية إلا عن طريق أمن فكري مستقر، ونعمة الأمن لابد لها من توفر نعمة السلام والعكس طبعا صحيح،والصحيح أيضا أن اضطراب عقيدة المجتمع يبدأ عند أولى خطوات الطعن في وحدة مرجعيتها أي في وحدة مصدر التلقي أو الاستهانة به والتشكيك في حقيقته و جدواه ، فعندما تتعدد المصادر في مجال العقيدة فذلك يعني أنه مؤشر على الاضطراب و التصدع الذي يؤدي إلى بروز الفكر المتطرف المتصلب أو إلى ظهور الفكر التكفيري  مثلا الناتج عن التأويل المضلل أو التفسير الخاطئ أو عن الحكم بالباطل على نصوص الشريعة و مقاصدها ، و من هنا تبرز أهمية وحدة المرجعية الدينية و الخصوصية المذهبية في العقيدة و الفقه و السلوك كحصانة ذاتية من الغلو و التطرف و وسيلة أيضا لإرساء الأمن الفكري . 
هناك من يعتبر إن مسألة التطرف الديني وحده هو أكبر ثغرة تأتي منها رياح زعزعة الأمن و الاستقرار بمعنى أن الجانب الديني في المسألة هو السبب المباشر لأزمة المسلمين سواء فيما بينهم أو في علاقتهم مع الغرب ، و بالرغم من أن مجالات حماية المرجعية الفكرية متعددة و متشعبة إلا أننا نجد في الواقع و من خلال تطورات الحياة السياسية الأمنية في الساحة العربية والإسلامية ما يدفع حقيقة إلى تناول تلك المسألة من هذا الجانب بالذات بعدما أصبحت ألوان التعصب و التطرف و الإكراه المعبر عنها بالعنف و بوسائل الإرهاب المسلح تحول دون ضمان تنمية الأوطان و تطور حياة الشعوب و رفاهيتها لذا فالضرورة أصبحت تستدعي محاربتها بعدما أصبح الأمر يتعلق بإزهاق أرواح أبرياء و بمستقبل أسر و عائلات وجدت نفسها في طريق التيه و الضياع .
من الفضيلة الاعتراف أولا بجملة من الأمور وراء وجود العالم العربي والإسلامي في خانة الباحث عن أمنه الفكري ومنها ما يلي. 
*  إن الإنتاج الفكري في بعض المجتمعات العربية هو إنتاج "اصطناعي" أي ليس أصيلا، بمعنى أنه لم يتخلص بعد من رواسب الماضي والمقصود آثار التبعية الفكرية واللسانية إلى درجة أن الكثير من المقررات الدراسية تم إعدادها اعتمادا على المصادر غير وطنية وبالتالي لم تخدم الواقع ولم تحم الأمن الفكري لأجيال عديدة لأن المنطلقات لم تكن خالصة ومستقلة فتضاربت المفاهيم واختلطت المصطلحات وبرزت مرجعيات ذات مرتكزات دخيلة انعكست في صورة مواقف متطرفة غريبة عن ما رسخ في فكر وعقيدة المجتمعات العربية و الإسلامية  وليس لها أي امتداد تاريخي رافق وجود هذه المجتمعات.
* كان هناك ضعفا في مواجهة ظاهرة التطرف بعدما اكتفى العلماء إلى المسارعة بالتبرؤ من أفكاره و تبرئة الإسلام منه ولكن دون الكشف الكامل عن كل جوانب هذا الفكر الدخيل وبواعثه وفضح هشاشة أسانيده وتفنيد مرجعيته،إذ لم يبادر العلماء منذ البداية إلى توضيح مفاهيم الجهاد الحق والاستشهاد و الحاكمية و التمكين لدين الله والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ومفهوم الولاء و الولاية و الأمة.. أي لم يجتهد علماء المسلمين ومن البداية بتفكيك شفرات المرجعيات الدينية وما تحمله من اجتهادات و فتاوى التكفير الباطلة.
* يرتبط الأمن الفكري إلى أبعد الحدود في أي مجتمع إسلامي بالمرجعية الدينية ، و من علامات اضطراب هذا المجتمع الابتعاد عن مرجعية الاعتدال و هو ما يؤدي إلى بروز التطرف الديني و الفكر التكفيري الناتج في حقيقة الأمر عن التعصب و إلغاء الآخر ، و من أبرز سمات هذا الفكر انه قائم على التأويل المتطرف و المبالغ في تشدده لنصوص الشريعة و المخالف لوقائع التاريخ الإسلامي و لنهج السلف الصالح إلى درجة تكاد تلامس حدود التفسير الباطل ، لقد تمادى الفكر التكفيري و المتطرف في غيه و ضلاله إلى أن أصبح يتغذى حتى من الإشاعة التي من البديهي و المنتظر أن لا تحمل سوى الفهم الخاطئ و عن سوء النية و سابق القصد للإساءة للدين من خلال التأويلات الباطلة لمقاصد شريعته  في مقابل ذلك لم يتجاوز رد فعل الخطاب الديني لدى من تحلوا بالشجاعة و تحملوا مسؤولياتهم في تبرئة الدين حدود الانفعالية بل و كثير ما اتسم بالعاطفية إذ ركز معظمهم على مسالة إدانة التكفير و بيان العقاب الشديد الذي سيلقاه من يفسد في الأرض و يروع المسلمين ،وبالنهاية تبلور الأمر في صورة حملات تكفير و لكن في شكل متبادل .
* شجعت ظاهرة انحسار دور العلماء على لجوء أنصاف المتعلمين إلى استيراد مناهج خاصة بممارسة الدين هي في حقيقتها أصلح للبيئة التي نشأت فيها و الصق بأعراف المناطق التي ترعرعت فيها و أوفق لطباع المجتمعات التي أفتى علماؤها بمقتضاها ، هذا في مقابل حملة نشيطة يقودها من يسعى إن يكون في مجتمعه ذا تميز و صدارة لإحياء من بطون الكتب فقها لم يعد صالحا للعصر الذي نعيشه و إحياء فتاوى مهجورة وأقوال مرجوحة ليقوي من الآراء ضعيفها وليصحح من الأقوال سقيمها فبرزت في غفلة من العلماء فتاوى غذت الشعور باللاأمن الفكري، لأن الفكر المتطرف المتصلب ينتعش في فضاء الجهل الذي يحرم صاحبه القدرة على التمييز بين الخطاب الديني المتطرف الخاطئ و الخطاب الديني المعتدل الصحيح. 
* إذا جاز لنا القول بأن الفكر الديني المتطرف قد شاع بكل سفور بعد مروره بالمرحلة السرية التي فرضتها قيود أنظمة يسارية اشتراكية وعلمانية لسنوات طويلة لم تكن ترغب خلالها في رؤية أي تأثير ديني يمكن أن يعوق توجهها الجامح نحو الإفراط في رسم معالم مجتمع علماني فان هذا السفور أحدث رد فعل بنفس طابع القوة في المغالاة و لكن طبيعي بالاتجاه المعاكس في شكل تيار فكري مضاد وطوفان تكفيري جارف تهاوى أمامه الفكر الديني الصائب وغابت الوسطية و الاعتدال وتحول النقاش السياسي بين أنصار التيارين المتضادين إلى لغة عنف متبادل و تحولت المسالة كلها إلى قضية وجود ترتبط بإلغاء الآخر للأسف داخل الأسرة الوطنية الواحدة.
* إن الصدع الناتج عن تفكك نسيج الوحدة الوطنية داخل البلد الواحد لم ينتظر طويلا حتى اتسعت شقوقه في الجدران الدفاعية للأمة بسبب غياب الوعي بأن الأمن مسؤولية الجميع أي مسؤولية تتحملها كل مؤسسات الدولة وبخاصة منها تلك التي تساهم في تشكيل الذهنية العامة وتصنع الرأي العام وتبث الحس المدني وتقوم بتوجيه السلوك الفردي والجماعي بما يتوافق مع المصلحة الوطنية، وهذا الغياب أدى إلى عدم إحساس كل فرد في المجتمع بأن منظومته الأخلاقية والقانونية و الفكرية فعلا متماسكة و متناسقة بل باتت مضطربة و مهزوزة لا تبعث على التوثب للانتصار لقضاياه، فكان أن فشل كل جهد لاحتواء التطرف من أصوله الفكرية قبل أن يترجم إلى فعل هدام و يتحول إلى سلوك معادي لواقع حياة الأمة و مستقبلها.
والآن، كيف يمكن مواجهة تحديات هذا الواقع الأليم؟  وما هي مساحة الهامش  المتاح للحركة الواعية لاحتواء نتائج غياب الوعي بفضائل الحوار والتشاور؟  وما هي طبيعة ووسائل الجهود الممكنة للقضاء على ظاهرة التطرف الفكري ؟ 
أرجو أن تكون مثل هذه التساؤلات من باب الأمل و ليس التمني ، فالأمل هو ما تحبه النفس و تحرص على تحقيقه ، أما من يتوقف عند حدود التمني فهو من فاته حصول شيء كان يتطلع إليه بشغف ، و الأمل يكون مع ما تقدم له سبب ، و لكن مع طول أمد الأمل يخشى أن تكون النتيجة الوقوع في أسر أحلام اليقظة  وعليه فالسرعة في وضع خارطة طريق ذات إجراءات عملية و موضوعية تكون قابلة فعلا للتطبيق تصبح أكثر من ضرورية حتى لا تتحول الأوضاع إلى "فرجة سياسية " أو "دراما احتفالية " إذ لا يخفى أن إطالة أمد حدوث التغيير هي سياسة يطبقها بعض أصحاب القرار للاستمتاع بظاهرة التقرب إليهم و للحصول على المزيد من الطاعة و الولاء و المساندة هذا من جهة ، و من جهة أخرى لضرب الخصوم بعضهم ببعض بمزايدة كل طرف على الطرف الآخر في دعم السلطة فينحرف بهم الطريق وويعيش كل منهم محنة عاشق تائه بين أقاصي الإبداع في التعبير عن مظاهر الخضوع و يرى أن التميز هو الحافز الأساسي الذي يبعده عن التشابه مع الآخرين ليبق فريدا و متفردا بحب و رضا السلطة عنه ، مثل هذه الأوضاع واقع لا مفر من الاعتراف به ذلك إلى حين أن يثبت التاريخ أن حركته هي الأقوى .
لا شك أن الاحتماء بالتاريخ هي الأرضية الموحدة لجهود التأمين الفكري و خاصة العربي و الإسلامي لمواجهة الطوفان الفكري المضاد ، و لكن حتى هذه "الأرضية التاريخية " المأمولة يقتضي الأمر تنزيهها من ما علق بها من تأويلات مغلوطة و تفسيرات خاطئة ،و تخليصها من ما أصابها من روايات متناقضة ومتضاربة، فالتاريخ هو وقائع و أحداث وشخصيات صنعت المواقف و البحث فيها كالبحث عن الحكمة الكامنة في أصل الفكرة حيث يعيش الباحث في التاريخ الحياة في البعد الثالث للمساهمة في تقوية ثقافة الأمة ذلك أن قوة الثقافة ليس في تنوعها فحسب بل وفي عمقها التاريخي، إن عملية تحديد المكونات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية تعتبر عملية ضرورية تمهيدا للانطلاق في عمل تصحيحي جاد على مستوى كل من هذه المكونات من أجل توحيد مرجعيته فالمساجد ومؤسسات التربية والتعليم و التعليم العالي و مراكز الثقافة و دور النشر والصحافة و الإذاعة و التلفزيون.. كلها مدعوة لمواجهة التطرف بجميع أشكاله وألوانه إلا أن تحقيق هذا الدور مرهون بمدى تعميق التعاون و التشاور بين مختلف المؤسسات و الهيئات سواء على المستوى الداخلي الوطني أو المستويين العربي والإسلامي لتعميم ثقافة الأمن الفكري في جميع مخططات المؤسسات المكلفة بإعداد الإنسان وصناعة الأفكار، ومن هنا تكتسي عملية تحديد مكونات المجتمع الفاعلة أولا ثم توحيد مرجعيتها ضرورتها القصوى وأهميتها البالغة. 
طبيعي أن تبادر المؤسسات الدينية بتأسيس المجالات الجادة للتفكير في الاقتراحات العملية الممكنة لتحصين المجتمع من مد التكفير والمذاهب الدخيلة و من كافة أشكال الأعمال الإرهابية فكرية كانت أو مسلحة و أن تجتهد في تلمس سبل التأسيس لتصور متكامل عن مؤسسات الفتوى و معاهد تخريج الأئمة، و المشاركة الإعلامية في الفضائيات و الصحف و الإذاعة و لرسم معالم دور النشر و منابر مناقشة الأفكار و ما إلى ذلك من تجارب الأمم و من هدى التفكير العلمي المنهجي من أجل توقيف حملة تعمد ترويج الأفكار التكفيرية بالصيغ التبريرية ، و تأسيس هيئات إعلامية و علمية مختصة لتأمين الأفكار ، فمعالجة الظاهرة تبدأ بمعالجة ثقافة التطرف و تفكيك أسانيد الفكر المنحرف القائمة على النظرة المتشددة إلى الدين و التراث و الرأي الآخر .                                                  
هناك حاجة ملحة لتشكيل وعي بأهمية إدراج مادة أسباب التطرف الفكري في المنظومة التربوية تستند إلى ضرورة إبعاد خصوصيات الوطن العربي والإسلامي شرقه وغربه عن إستراتيجية الأمن الفكري وتعنى بتجنب نشر الخلافات بين المذاهب الدينية، وتفسح المجال لثقافة الحوار وتفتح أبواب النقاش في وسائل الإعلام، هذا و تشكل جلسات "المناظرات" حول الأفكار وأيضا حول رسم الاستراتيجيات أداة تعليمية و تربوية هامة لأنها تستهدف العقول وترسخ طرق و مهارات التفكير الناقد، وهي أفضل مجال للتدريب على حرية الكلمة والمناقشة الحرة و تعلم احترام الرأي الآخر و تعلم المسامحة والتفهم والعلم و المنطق والإحساس بالمسؤولية و الانتماء إلى ما يؤمن به الفرد والانفتاح و التعامل أيضا مع المجتمعات الأخرى، إن هدف التناظر تدريب النشء من التلاميذ والطلاب على التعامل الواقعي مع كافة الأحداث التي يمكن أن يتعرضوا إليها عبر مسيرة حياتهم العلمية والمهنية و على النظر بعمق في مختلف القضايا ودفع الطلاب إلى التعامل بايجابية متفحصة مع الأحداث بما يؤهلهم للدفاع الواعي عن قضاياهم الاجتماعية، تلك هي الأفكار التي ينبغي أن تسود ، وأن تقود.
هناك من يتشدد في أنه لا يمكن مناقشة مفهوم الأمن الفكري بمعزل عن تناول الانعكاسات التي تترتب عن غياب الأمن المادي، و يؤكد أنصار هذا الرأي أن الأمن المادي هو المفتاح أو الحل، أي لابد من وجود قوة تردع المعتدين على حرمة النفوس، وأنه من شروط تحقيق الأمن الفكري توفر أمن عام بكل أنواعه يساهم في تنظيم الحياة ويجنب المجتمع وقوع الأسوأ، بل و يدعوا أصحاب هذا الرأي إلى التأكيد على ضرورة تشديد العقوبة على من عادى مجتمعه استنادا إلى أنه لولا الإيلام في العقوبة لما كان هناك ردع.
إن الإفراط في الاهتمام بنشر العلوم الشرعية على حساب العلوم الكونية بل واعتبار العلوم الكونية حراما قد أدى في بعض المجتمعات إلى بروز طائفتين متنافرتين لأن لكل طائفة منهما مناهجها أي أسلوبها في الحياة ونظامها الأخلاقي والاجتماعي والسياسي على أساس أن المنهاج يعني الطريقة أو الشريعة، كما أن  لكل طائفة منهجها الذي هو مجرد طريقة في الاستدلال أقرب إلى طريقة النظر إلى موضوع ما، الفئة الأولى ترى ضرورة تسبيق العلوم الشرعية أولا حتى لا يخرج علمها الكوني لاحقا عن حدود أركان هذا الإيمان، وهي ترى أن العقلانية ليست دائما هي الحل فهي إذ تساهم في فهم الحياة و خلق التفاهم و التواصل إلا أنها تخطيء كثيرا عندما تتعرض إلى قضايا الإيمان وما يتعلق به من غيبيات حيث تقوم بإعطاء تفسيرات غير موضوعية بل أقرب إلى الإساءة والازدراء من الأديان، و الفئة الثانية تعمد إلى تسبيق العلوم الكونية أولا حتى إذا ما أصابها قبس من الإيمان يكون إيمانها على أساس بصير و ينطلق موقفها من أن لكل علم منهاجه الخاص الذي تفرضه طبيعة موضوعه، وأن المنهج أو الطريقة لاحقة للعمل العلمي و ليست سابقة عليه، وكما يبدو فالعلاقة بين الفئتين فعلا هي علاقة تنافر أزلي بمعنى علاقة خلاف وليس مجرد اختلاف بينهما في الرؤى و التصورات، خلاف أدى إلى بروز معالم صراع وجود إذ أصبح بقاء أحدهما مؤثرا وحيدا في تشكيل الفكر الإنساني و رسم الطريق لتوجهاته مرهونا بزوال الآخر لأن الأمر أصبح يتعلق ببساطة بمشروع مجتمع إما إسلامي قح أو علماني بحت لأن كلا منهما يستند إلى مرجعية تختلف كلية عن الأخرى، و لأن المتفق عليه أن المنهج و الموضوع شيئا واحدا بمعنى أنه لا يوجد منهج مستقل عن الموضوع لأن المنهج موضوع متحقق والموضوع منهج مطبق و الوعي متحد بهما معا، و أن الموضوع يفرض منهجه من ذاته و المنهج يفرض موضوعه من ذاته أيضا، فمن هنا ظهرت قناعة أكيدة تفرض الأولوية التي يجب أن تضعها كل طائفة و تحددها في حاجتها الملحة إلى حماية أمنها الفكري، كما ظهرت بالقدر نفسه من الإلحاح أهمية تحرك أولي الأمر في حالة حدوث انحراف فكري ثم ضرورة توكيل سلطة رادعة لمحاربة اللذين يعتدون على القيم والمبادئ الأساسية التي تشكل جوهر الأمن الفكري لكل طائفة، و لعل الانحرافات التي حدثت في تعامل كل فريق مع طبيعة هذا الوضع هو ما زاد في شدة الأزمة على النحو إلى آلت إليه حاليا.
لا شك أن الفعل الثقافي يمنح المثقفين الوجود والهوية و القدرة على فهم طبيعة النفس البشرية و حقائق الكون أسرار الحياة والكائنات، والبعد الثقافي مطلوب وجوده لتطوير الحياة الإبداعية ومد جسور التواصل الفكري، وبديهي أنه عندما يحمل المثقف رؤية معينة تجاه وضعا ما ترتسم فيه علامات الاختلال و أن يلجأ من أجل تغييره إلى العمل و الفعل الثقافي وأن يواجه في سبيل ذلك الصعاب و يتحدى العراقيل فهذا دوره الطلائعي، و لكن أن يغيب الدافع الثقافي فذلك ما يجعل المثقف ينسحب من الحياة الثقافية و يفسح بالتالي المجال أمام الرداءة، إن سبب ما أدى بالفكر المنظر للإرهاب الفكري أو المسلح إلى الزعم بأن مرجعيته إسلامية هو الانحسار الحاصل في دور المدارس و المعاهد المتخصصة في العلوم الاجتماعية و الإنسانية و تراجع دورها في صنع المفاهيم وتحديد المصطلحات وغرس القيم والأفكار الصحيحة لتحصين المجتمع سواء من التطرف الديني أو الغلو العلماني أيضا،  وقد قابل هذا الانحسار تطورا في الحركة المذهبية و تعدد المرجعيات الروحية في الزوايا الدينية و الطرق الصوفية و أثرت تأثيرا بالغا في مسألة ضمان بقاء الأمن الفكري بعيدا عن التشتت المفضي تلقائيا إلى التباعد و التنافر  والعداوة، ومن تلك التأثيرات تعثر فكرة "حوار الثقافات " أو الدعوة إلى " حوار الحضارات" أو النداء إلى إقامة "ْتقارب الحضارات" و بالرغم من أن الحوار في حد ذاته فعل إنساني نبيل ومطلوب إلا أن طريقة تناول المسألة من منظور أن الثقافة تعبيرا عن هوية الإنسان و أن الهوية تختلف من حضارة إلى أخرى قد أدى إلى بروز التناقضات إذ حدثت إشكالية فرضت نفسها كضرورة لحماية الأمن الفكري ضد تهديدات الغزو الثقافي الأجنبي و هي مخاطر مناورات الاستلاب العقلي و ذوبان الهوية و انعكاسات ظاهرة الاغتراب عن أصالة  وهوية الشعوب وطمس الحضارات ، فتطور موازين القوى بين الحضارات أدى إلى افتعال التبريرات و تسويقها عالميا من طرف القوى الكبيرة لإقصاء الطرف الآخر و لتسهيل إعادة انتشار هذه القوى في العالم لرسم معالم خريطة الجغرافيا السياسية في إطار ترتيب عالمي جديد، و ذلك ما قاد فيما بعد ــ كنتيجة طبيعية ــ إلى غلبة فكر المؤامرة عند كل حديث عن التعاون الثقافي بين الأمم أو عن ضرورة تقارب الحضارات.. و هو ما أدى لاحقا إلى المزيد من الانغلاق ومن انسداد قنوات الاتصال ثم إلى غياب الحوار وهكذا انقلب الحال من الحديث المتفائل المفعم بالآمال في تحقيق الهدف من الحوار لإقامة ما يمكن اعتبارها  " حضارة عالمية جديدة" إلى حديث عن " صدام الحضارات "  والخطر الكبير الذي يشكله على السلم والأمن في العالم، و الحقيقة أن الصراع هو صراع مصالح وأهداف معينة تختفي وراء حوار الحضارات و الأديان و الثقافات... إن ما يتناهى إلى علمنا حول انعقاد بعض الملتقيات و الندوات التي تصدر عنها توجيه الدعوات من أجل تحقيق التقارب بين الشعوب على اختلاف ثقافاتها أو حتى ما يكتب من مقالات مطولة حول أسس و فضائل حوار الحضارات هو ليس أكثر من مجرد استغلال سياسي بنكهة  الأنانية لمعطى ثقافي و إنساني نبيل لتحقيق أهداف اقتصادية احتكارية أو إن شئت قل أنها كزيارة يقوم بها مريض إلى طبيب نفسي لأن  الطبيب عادة يستمع إلى المريض أكثر من ما يتحدث إليه، أو كمثل زوجة تبحث عن زوجها.. أو عن حائط مبكى .

CONVERSATION

0 comments: