الفنان مالك البابلي... حبّه لبغداد اشبه بالنبيذ المعتق/ الأب يوسف جزراوي


من كتاب مبدعون عرفتهم عن قربٍ..... قريبًا
في ظني  هو واحد من أكثر من عرفت في حياتي صلابة فى مسيرة العمر وقدرة على القفز فوق  الصعاب والأحزان والرغبة في استمرار العطاء بِلا توقف. وسيم وأنيق، متحدث لبق، ومستمع دقيق. يعرف الحدود ويحسن وزن الأمور، لا شيء يعادل بهجته وسعادته حين تطرب اغانيه المستمعين وتشدّ المشاهدين.
إنَّ بعض الناس لا يعرفون ماذا يريدون..وماذا يسعدهم، إلى حدٍ قد تكون الحياة محتارة معهم لأنها لا تدري ماذا يريدون بالضبط حتّى تهب لهم مقومات السعادة!!. اما صاحبنا، تجده  على الدوام سعيدًا قنوعًا، مستذكرًا فضل ربّه عليه. فهو إنسانيًا: يقف تمامًا حيث يُريد. أما فنيًا  فهو يعرف من أين تؤكل الكتف، إذ لم يكدح طويلاً في سبيل النجاح الفني كما حدث مع الآخرين، فقد ظهر منذ اللحظة الأولى نجمًا واعدًا، وأصبحت له شهرة ربّما لا تلبي طموحه، خاصّة بعد أن أصدر ألبومه الغنائي الأول "ذكرتك" في عام 2007، حيث غادر نيوزيلندا متجهًا إلى الشام لأصدار البومه الأول الذي كتب كلماته الشاعر ضياء الميالي، ولحنه الفنان نصرت البدر.
أخذت شعبيته تتنامى وحضوره يتسع حين أطلق العنان لغنوته الوطنية " فجرت الكنيسة بيا شرع ويا دين" التي ابدع في صياغة كلماتها صديقنا المشترك  الشاعر حيدر كريم، إذ جاءت  الغنوة تضامنًا مع شهداء كنيسة سيّدة النجاة في بغداد/ حي الكرادة.  دون أن أنكر عنه أنه ترك بصمة واشحة  بموهبته الراقية وشخصيته  المبهرة وطلته الجذابة، فضلاً عن المخزون الهائل من الخبرة الفنية والتجربة الحياتية والحنكة الشخصية. هو الذي وقف أمام الشدائد والأزمات بعزيمةٍ وثبات. وتميّز بالنجاحات الكبيرة  التي حققها، ليس على المستوى الفني وحسب، بل على الصعيد الإنساني، فقد كانت سمعته الطيبة تسبقه إلى الدول التي ينتقل إليها.
ذلك هو مالك البابلي، الذي ولد في عاصمة الفن والثقافة بغداد بتاريخ 18/9/1981 وعرف عائليًا بإسم مارك وليم بولص. درس الابتدائية وشطرًا من المتوسطة في منطقة بغداد الجديدة. عام 1994 انتقلت عائلته إلى منطقة الدورة، حي الميكانيك ببغداد، وهناك اكمل دراسته المتوسطة والثانوية. وحي الميكانيك هو ذلك الحي البغدادي الجميل بناسه الطيبين، وتركيبته السكانية المتعددة والمعتدلة. أقول ذلك والذاكرة تعود بي إلى حيٍ قضيت فيه اجمل سنوات حياتي إبّان تنشأتي الكهنوتية في الدير الكهنوتي، ودراستي الفلسفية واللاهوتية في كلّية بابل.
اكمل البابلي دراسته في معهد السياحة والفندقة خلال الموسم الدراسي 1998/ 1999. ولم تمضِ شهور على تخرجه حتّى غادر العراق متجهًا إلى عمان. في عام 2001 وطأت قدماه ارض نيوزيلندا رفقة والده وامه واخته واستقر هناك حتّى نهاية عام 2007، حيث قدم إلى سيدني واستقر فيها إلى يومنا هذا.

إنّني إذ أكتب اليوم عن الفنان الصديق مالك البابلي، فإنني أقدِّم موهبة عراقية، وخامة صوتية متميزة، وشخصية فنية رفيعة القدر، لم تنل كلّ ما تستحق من الدعم والإنتشار. أكتب عن فنانٍ جُبل من طين بلاد وادي الرافدين، وجاء منها إلى نيوزلندا ومن ثَمّ شدّ الرحال إلى سيدني وهو يحمل هموم عصره ومعاناة جيله وأحلام مستقبله. رحل مكرهًا عن وطنه وهو يمثل عذابات جيل عانى من لعنة الحروب المتتالية، وسطوة انظمة متعاقبة، فاسدة التوجه، أغلقت ابواب المستقبل بوجه شبيبة الوطن في حروبٍ وصراعاتٍ لم يجنِ منها البلد سوى الفقر والقهر ولم يحصد ابناؤها سوى التشرد في بلدان الله الواسعة، فآثر أن يرحل عن موطن أجداده بحثًا عن أرض الأحلام، لكن العراق لم يبارح  قلبه، وظلت بغداد تطارده في احلام النوم واليقظة. وقد لاحظت في مناسبةٍ ما حين دار حديث بيننا عن بغداد، كيف إنّها تشغل حيزًا كبيرًا من تفكيره.
كما بهرني الأمر كثيرًا يوم حدثني عن صداقة متينة تجمعه مع صديق غربته ورفيق مهنته الفنية الشاعر  الوطني حيدر كريم العامري، حيث تضرب العلاقة بينهما بجذورها إلى عام 2007 عندما  التقيا في الشام في استديو الاصيل، وكان البابلي يومها في مقتبل عمره الفني يسعى نحو مستقبل واعد. التقيا ولم يفكر احدهما يومًا أنَّ الأختلاف في الدين قد يتسبب في سوء فهم أو تقدير الرأي، ولم  تعكر صفو الصداقة بينهم أيّ شائبة. جمعهم حبّ الوطن الواحد، بعد أن اهتما بشأنه وشربا من فراته، وتغزلا بدجلته،  وعملا على رفعته وتقدمه. لقد كتب له العامري جملة من الأعمال الناجحة  التي حققت لهما حضورًا لافتًا، ابتداءً من " اهات  في الغربة" ثم " فاجعت الكنيسة"، وصولاً إلى " حرك باب الكنيسة" الذي عرض على قناة اغانينا، بعد أن تم تصوير جزء منه في كاتدرائية الربان هرمزد الآشورية في سيدني. وقد لقي هذا العمل إنتشارًا واسعًا. وأخيرًا وليس اخرًا كتب له غنوة رياضية تم تصويرها اثناء حضور منتخبنا الوطني لكرة القدم إلى سيدني للمشاركة في بطولة امم اسيا، وقد بثتها  قناة اغانينا. وقد لا اذيع سرًا إن قلت: إنّ الفنان مالك البابلي كان يطلعني على ادق تفاصيل تصوير تلك الغنوة وعن حجم الصعوبات التي وقعت على طريقه أثناء مراحل التصوير، حيث كنتُ أقضي اجازتي السنوية في تركيا بين صفوف اختيّ. وكنت اشجعه على الصبر واشد من ازره، لأن العراق فوق الجميع.

لقد عرفتُ الفنان مالك البابلي عن قربٍ، فوجدته طيبًا للغاية، خدومًا إلى حدٍ كبير، يحظى باحترام  ومحبة كلّ من عرفه، والاهم من هذه وتلك، إنّه عراقي أصيل، وطني حد النخاع. حشدَ طاقاته للأناشيد الوطنية والأهازيج الشعبية، فتغنى بحب العراق وأصالة شعبه وتصدى فنيًا لمعاناتهم غير المنتهية. كما عبّرت بعض اغانيه عن حنينه لبلده، إذ رأيناه  يشكو ألم الفراق الذي بات  يقض مضجعه، كما ادانَ وحشية الأرهاب التي طالت وطننا المنكوب. 
إنَّ الرّجل رغم إنتشاره في أوساط الجالية العراقيّة في استراليا ونيوزلندا وظهور اغانيه على شاشات الفضائيات العراقيّة وحفلاته الكثيرة التي يقيمها، لكنني وجدتهُ لم يعتلِ البرج العالي يومًا، بل عرفته في منتهى البساطة والتواضع، وظلّ على هذه الحال، رغم إنه ليس من السهل  أن يلتزم المرء بالبساطة والتواضع، خاصّة عندما تسلط عليه الأضواء.
ولا أعلم لماذا أنا أحبّه وأكبره؟ أبسبب  موهبته الفنية، أم لأنه يهوى الحق ويقوله حتّى ولو على نفسه؟ أم لأنه دمث الخلق، شديد السخاء، صاحب مواقف إنسانية  تذكر؟ أم لأنه عراقي يعتز بعراقيته بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى؟ أم لأن الفن لم يحيده عن إيمانه المسيحي وتعلقه بكنيسة المسيح؟ أم لأن تكوينه عراقي بحت: لغته، عاداته، الطعام الذي يحبه، الموسيقى التي يفضلها، الناس الذين يحيطون به، هؤلاء كلّهم عراقيون صرف؛ حتّى شريكة حياته التي اختارها من بين الكثيرات هي عراقية مجبولة من تراب ارضه وقومه وشعبه. أم لأنه حافظ على هويته الرافدينية بثبات، بعد أن عشق أرضه، ارض الرافدين واحب شعبه، وتغنى بوطنه من خارج حدود الوطن، ولا غرو أن قلت أن البابلي  يحمل في جنّباته تأريخًا شديد القدم من تاريخ العراق، فهو أشوري الأب، كلداني الأم. وربّما لا يعلم البابلي بصلة القرابة التي تجمعني به من طرف جدتي لابي.
لقد فهم البابلي العقليتين العربية والغربية بدرجةٍ متميزة واطلع على الثقافتين المسيحية والاسلامية وحضارات الشرق والغرب، فأصبح لديه رصيد جيد من المعرفة والثقافة، فثقف نفسه فنيًا وإنسانيًا، واطلع على أمورٍ أكثر ممّا قال فيها أو تحدث عنها. وليس ضربًا من المغالاة إذا قلت: عندما يسير البابلي في شوارع مدينة فيرفيلد يتهافت عليه الناس لا سيّما الأصدقاء ويحتفي به المعجبون على حدٍ سواء، وأنا أتحدى من يبدأ الإستماع إلى غنوةٍ من اغانيه  دون أن يكملها، هذا من جانب، ومن جانب أخر  أنَّ من يستمع إلى حديثٍ له سيخرج منه بجديد، فكلّ جديد يقوله صحيح وكل صحيحٍ يتبناه يبدو جديدًا!.
هو جليسٌ أنيس، في طلته بريق، له فراسة في اختيار البشر، ولعلّ تلك الفراسة اتاحت له  أختيار النصف الآخر الصحيح، وان يحظى بالفردوس الذي طمح إليه. إذ ارتبط بالآنسة اليفيا برخو بزواج ابدي مقدس بتاريخ 15/9/2012، وهما الآن بانتظار ثمرة حبّهما  الاولى "ادريل" ، وهو اسم غريب عن محيطنا العراقي لكنه ذو دلالات مسيحية، إذ يعني المرء الذي سار في دروب الرب. إنّها ثمرة حبّ اعدها البابلي هدية  كبرى ونعمة عظمى من الرب القدير ، طالما انتظرها بشغفٍ وصبر.
لقد جمعتني بالبابلي مناسبات عديدة ودارت بيننا أحاديث كثيرة ومتنوعة، وذات مساء جرت بيني وبين البابلي بعقليته الغربية وقلبه العراقي الكبير مناقشات وحوارات في كنيسة الربان هرمزد الآشورية بسيدني، إذ تحدثنا فيما تحدثنا عن الوضع الكارثي في العراق وعن جحيم بغداد اليوم ، وعرج للقول:  إنَّ العالم كلّه موطنه، لكن ارضه لم تكن إلا العراق. وفهمت حينها ولعه بحب بغداد.
أما أنا فقلت له: ليس صحيحًا ما يقال عن أننا بلد فقير أو أننا وطن متأزم، بل أننا بلد غني يعيش على ارضه واحدًا من افقر شعوب العالم،  إذ لدينا تراث حضاري وإرث ثقافي  وتعددية دينية وخلطة قومية ليس لها نظير في الدنيا، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في عقلية حكام العراق الذين يؤثرون الاسترخاء ولا يفكرون برؤية صائبة فيما يملكون من عقول عراقية مبدعة، ولا يقومون بتوظيف ثروات البلد البشرية والطبيعية  والحضارية على النحو الأمثل.
و اذكر جيدًا أنّ البابلي سرّ إلي في تلك الليلة خبرًا بأنه سوف يغدو أبًا بعد 6 شهور، واذكر إنه همس في اذني قائلاً: أنت أول الأصدقاء الذين اعلمتهم بالأمر ، فلا تحرمنا من صلاتك يا أبانا.  
إنّه الفنان مالك البابلي الذي يعيش الآن في استراليا، بإنتظار ولادة ابنته الأولى،  إذ ينغص عليه فرحة الابوة ذلك الهاجس بأنّ محبوبته الجنين" أدريل" لن تولد بالعراق، وما عليه أن يتبنى موطن ميلادها،  على عكس ما يحدث عادة؛ حيث يتبنى الابناء وطن ابائهم.
وإننا هنا  لا نتردد في أن نتمنى أن تبقى تلك الموهبة العراقية الغنائية دائمة التألق لكي نزهو بها دومًا،  ونفاخر بإنتمائه لبلدٍ  لا يكف عن الحديث عنه، بعد أن رفض أن يكون  العراق جزءًا من ماضيه، فعلى الرغم من أنه غادر موطن ميلاده من 16 عامًا، إلا أن مفرداته الغنائية، وتعابيره في الأحاديث تدور عن شوراع بغداد وازقتها، وجسورها وبيته القديم واصدقائه القدامى.

إنّني أسجل هنا تحية إعزاز واحترام لفنان عراقي متألق الموهبة، متميز الصوت، عالي الاحساس، جُبل من طين بلد الحضارات والفن والثقافة. تحية إلى أبو أدريل، المطرب المرموق  والإنسان الخلوق،  الذي حافظ على طهارة ذاته ونقاء نفسه وعفة لسانه طوال مشوار حياته، طالبًا له البركات السماوية والأرضية وتحقيق الأمنيات، وإلى المزيد من النجاحات في جميع المجالات.

CONVERSATION

0 comments: