الجزء الثاني والأخير
من الصعب على إنسان بسيط مثلي أن يمسك بالقلم ويخط به لحظات لها ذكريات عميقة في قلبه وفكره ووجدانه . ترددت كثيرا في كتابة هذا الجزء وكنت سأكتفي بما كتبته . لكن الذاكرة ألحت علىَ أن أجلس وأكتب كيف تعامل رجل الله مع إنسان بسيط لا يملك سوى قلمه يحاول به أن يعبر عن مكنون نفسه .
ذكرت لكم عن زيارة قداسته لنا في العام 1991 ، وكانت اللحظات التي كتبت عنها في الليلة السابقة لعودته ولقاؤنا مع رئيس الولاية في ذلك الوقت السيد نيك جراينر . بعدها توجهنا إلى منزل سعادة السفير عادل صادق القنصل العام لجمهورية مصر العربية بسيدني وما صاحب ذلك .
اليوم أعود إلى نفس العام لكن في بداية زيارته وأيضا في منزل سعادة السفير حيث إلتقينا بقداسته وكانت معي بعضا من نسخ جريدة " البيرق" وكنت قد قمت بتغطية وصول قداسته . وهذا شيء واجب نقوم به في كل زيارة لقداسته . لكن سبب ذكري للحظة أن خطأ حدث في المطبعة . الخطأ أنهم وضعوا صورة قداسة البابا مكان صورة السفير ، والعكس وضعوا صورة السفير مكان صورة قداسة البابا لأن العاملين بالمطبعة من اليونانيين ولا يقرأون العربية ، ولسبب ما سقطت الصورتان وعندما أعادوهما لم يميزوا بين الصورتين ومكانهما الصحيح .
كنت محرجا وأنا أقدم الجريدة لقداسته ومع ذلك أعطيتها له ونسخة للسفير . عندما وصل إلى الصفحة ورأي الصورتين ، أمسك بالجريدة وإبتسامة عريضة على وجهه وقدمها إلى السفير قائلا له :
** مبروك عليك البابوية ..
نظر السفير إلى الجريدة وإبتسم أيضا . تدخلت لشرح الموقف . لكن قداسته أمسك بيدي قائلا :
** هذا شيء كثيرا ما يحدث في بلادنا ، فما بالنا في بلاد الغرب التي لا تفهم لغتنا .
كم كانت سعادتي لتفهم قداسته لما حدث . ويجب أن لا ننسى أنه كان صحفيا وكاتبا وشاعرا . وكانت كتاباته وكلماته التي كان يلقيها محاضرا أو قارءا تبعث الغيرة في قلب الرئيس السابق السادات قبل أن يتولى الرئاسة .
في أحد المؤتمرات الصحفية التي كانت تعقد عند وصوله سيدني سواء في القاعة المعدة لذلك بمطار سيدني أو في الكنيسة المرقسية بأرنكليف أحد أحياء سيدني وتسمي الكاتدرائية المرقسية . سألت قداسته :
** سيدنا .. اللغة القبطية ما رأيكم في إعتبارها مادة أساسية تدرس خاصة لأبناء الأقباط ؟
كان رد قداسته :
** اللغة القبطية ليست لغة " المم " .. أي المعيشة . لكن بدون شك أنها تعلم في الكنائس والمدارس القبطية .
في عام 1996 وهو العام الخامس والعشرين لرشامته إحتفلت الكاتدرائية المرقسية بسيدني بتلك المناسبة في حضور قداسته . أعدو لذلك الإحتفال ميدالية تحمل صورته المقدسة وتاريخ الإحتفال ، وقام قداسته بتوزيعها بنفسه على المصلين . وقف قداسته عند الباب الخلفي للخروج . وقفت مع الواقفين في طابور طويل . وصلت أمام الهيكل وكان يوجد خارج الهيكل كرسي خاص له ليجلس عليه إن إحتاج ذلك .
وحدث أن قداسته إكتشف أن أحد المصلين كان قد أخذ ميدالية وعلى وشك أن يأخذ أخرى ، مما أغضب قداسته فأوقف التوزيع وعاد إلى الهيكل ووقف عند الكرسي حيث تلاقت أعيننا لوقوفي كما قلت عند الكرسي أمام الهيكل . رأيته مجهدا . تطاولت وقلت لقداسته :
** سيدنا أنت مرهق أرجوك إجلس على هذا الكرسي المعد خصيصا لقداستكم ..
أطال النظر ولم يتكلم .. ولكني إستمريت في حديثي :
** سيدنا الرجل طامعا في بركتكم .. أرجوك سيدنا سامحه وإسترح.
نظر إلي مرة أخرى ، ثم أشاح بيده ودخل الهيكل .
توجهت إلى حيث أجلس خارج قاعة الكنيسة حيث كان قد أعد المكان لجلوس من لم يجد مكانا داخل الكنيسة . وكنا زوجتي وأنا نجلس مع الدكتور مدحت جرجس زميل الدراسة الثانوية بمدرسة التوفيقية الثانوية بشبرا والسيدة زوجته الدكتورة سارة . قد يقول البعض لماذا تذكره هل للتفاخر بأنك كنت زميلا لطبيب مشهور مثله . أقول لهم نعم لأفتخر به فقد كان الأول على الجمهورية المصرية لشهادة التوجيهية علمي عام 1955 .
أعاد قداسته التوزيع مرة أخرى وبقيت أنا في مجلسي على أمل أن أحصل على ميدالية لاحقا .
فوجئت بعد إنتهاء قداسته من توزيع الميدالية بأحد الشمامسة كان ينادي علي .. الأستاذ ولسن .. الأستاذ ولسن . فوقفت وأشرت إليه إلى حيث أجلس فجاءني وبيده ميداليتان وهو يقول لي :
** إتفضل حضرتك إنهما لك ..
فتحت فاهي كالأبله وتوقفت الكلمات .. ضحك الدكتور مدحت وأمسك بيدي وقال لي :
** إجلس إنها أجمل هدية لك من قداسته .
في زيارة أخرى مباركة لنا في سيدني إلتقينا بقداسته مرة أخرى بالكاتدرائية المرقسية بأرنكليف بسيدني حيث إنعقاد المؤتمر الصحفي مع قداسته . أخذت معي في ظرف نسختين من كتاب " زفة العروس " كتبت على أحداهما إهداء لقداسته طالبا مباركة هذا العمل .
أعطيت الظرف للأستاذ عطية ميخائيل الإعلامي الذي سيتولى إستلام أسئلة الصحفيين وأي من الحاضرين .
إنتهى المؤتمر ووقف قداسته لمغادرة المكان ولم يقدم عطية الظرف لقداسته . أشرت له أن يفعل . أشار لي إنه لن يستطيع . تركت مكاني وهرولت ناحية قداسة البابا وطلبت منه أن ينتظر لحظة واحدة . جريت إلى حيث كان يجلس قداسته وأخذت الظرف ورجعت مسرعا وقدمته لقداسته قائلا :
** سامحني قداستك.. هذا عمل بسيط لأبنك أرجو مباركته ..
مد يده الطاهرة وأخذ الظرف مني ولم يعطه لأحد من المرافقين له إن كان من رجال الكهنوت أو غيرهم .
سرت خلفه ، ونزلت السلم مع النازلين ، وتابعت قداسته إلى أن وصل سيارة الدكتور مدحت حيث ركب السيارة و قداسته مازال ممسكا بالظرف ولم يعطه لأحد ..
وقد تمت البركة في شخص السفير الريدي سفير مصر الدائم بالأمم المتحدة عندما جاء في زيارة لسيدني ونزل ضيفا على سعادة القنصل العام في سيدني المرحوم كامل خليل .
تلقيت دعوة من سعادته لتناول طعام الغداء على شرف سعادة السفير الريدي .
بعد أن إنتهينا من تناول طعام الغداء .. نهض سعادة السفير الريدي وربت على كتفي ممسكا بيدي لأقف وأسير معه . إبتعدنا قليلا وقال لي :
** لم أنم ليلة أمس .. توجهت إلى مكتبة سعادة السفير ووجدت كتابك " زفة العروس " . بدأت في قراءته .. ووجدت نفسي مستمرا في القراءة إلى الصفحة الأخيرة منه .. أهنئك من كل قلبي ..
مد يده مصافحا مهنئا .. ثم إحتواني بين ذراعية مقبلا وجنتاي ومهنئا مربتاعلى ظهري .
الكتاب هو نفس الكتاب الذي رفض عطية إعطاءه لقداسة البابا " زفة العروس " الذي يحتوي على قصتين ، زفة العروس ، والفنانة .
وداعــاً
قداســة البــابــا
ودعت مصر والعالم رجل الله وقديس عصره وزمانه قداسة البابا شنودة الثالث مثلث الرحمات إلى مثواه الأخير يوم الثلاثاء 20 /3 / 2012 ، وكان يوم مشهود في تاريخ مصر . وأنا لا أستحق أن أكتب عن قداسته . لكن بدون شك كانت لي لحظات مع قداسته مهما كانت قصيرة ، لكنها كانت لحظات مقدسة ولها إيجابيات في نفسي .
لم أكن أنوي كتابة شيء عن هذه اللحظة الأخيرة مع قداسته في شهر فبراير من العام 2002 في قاعة المؤتمرات بمطار سيدني الدولي ولقاؤنا مع قداسته بعد هبوط الطائرة التي جاء قداسته والوفد المرافق له عليها . و إن كنت قد ذكرت ما حدث في الصفحة الأخيرة من كتابي الذي أصدرته حديثا ( ذكريات العمر اللي فات ) للتأريخ .
في ذلك اليوم مر على الأستاذ جوزيف خوري ليأخذني معه إلى المطار لحضور المؤتمر الذ سيعقده قاسة البابا في قاعة المؤتمرات بالمطار .
وصلنا المطار وتوجهنا إلى مكان القاعة وإنتظرنا طلته البهية علينا فقد كان كل واحد منا في أشد الإشتياق لرؤيته والتمتع بلقائه الممتع .
إستقبلناه وقوفا مصفقين والفرحة تملأ قلوبنا لما له عندنا من مكانة عالية بيننا جميعا إن كنا مصريين أو لبنانيين أو سوريين أو من أي بلد عربي في أستراليا .
بدأت الأسئلة ، ومعها الأجوبة وأنا جالس وسط الزملاء دون حركة أو توجيه أي أسئلة . بل كان جل همي أن ألتقط صورا ذهنية عقلية في قلبي له . كان يجلس إلى جواري الأستاذ وديع سعادة مدير تحرير الزميلة " النهار " التي تصدر في سيدني . رفع يده أكثر من مرة ولم يلتفت إليه المسؤل عن تلقي الأسئلة من السادة الصحفيين . قرب المؤتمر على الإنتهاء ومع ذلك كان الزميل وديع سعادة مصرا على رفع يده مطالبا بالحديث . وقفت متضايقا وأشرت إلى المسؤل طالبا منه بالإشارة أن يستجيب للزميل ويطلب منه الكلمة . إستجاب بالإشارة وطلب فعلا من الزميل وديع أن يتفضل بتوجيه أسئلته لقداسة البابا .
كان سؤال الزميل وديع سعادة يدور حول خارطة الطريق التي تنوي الولايات المتحدة مع إسرائيل بتطبيقها في منطقة الشرق الأوسط بتقسيم هذه الدول إلى دويلات ومنها مصر وتقسيمها إلى دولتين أو أكثر ، دولة للأقباط تبدأ من أسيوط جنوبا نزولا شمالا ببعض المحافظات إلى الإسكندرية لتكون العاصمة حيث مركز الكرسي البابوي للكرازة المرقسية .
إبتسم قداسته ورد على الزميل وديع قائلا :
** دعهم يخططون ويرسمون ويصدرون خرائطهم .. مصر لن تقسم فشعب مصر شعب واحد متعدد الديانات ولن يقبل أي تقسيم ولا تشغل بالك بهذه الخزعبلات " من الطبيعي ليست هذه إجابة قداسته الحرفية . وهذا طبيعي بعد مرور عشرة أعوام عليه " .
إنفض المؤتمر وبدأ الحضور في التوجه إلى قداسته للترحيب به والخروج للتوجه إلى الكاتدرائية المرقسية بحي أرنكليف بسيدني حيث سيتواجد قداسته هناك .
إنتظرت حتى خلى المكان من جميع الحضور معادا قداسته والدكتور مدحت جرجس الذي وقف عند باب الخروج وأنا . توجهت إلى قداسته بخطوات لا أعرف كيف أعبر عنها بالقلم . فقد إنتابني شعور غريب بأننا لن يرى أحدنا الأخر بعد هذه اللحظة .
ظل قداسته واقفا إلى أن إقتربت منه . مد يده المباركة .. أمسكت بها وإنحنيت لتقبيلها . ظلت شفتاي تقبل يده لمدة لا تقل عن عشرة دقائق دون ملل من قداسته . بعدها نظر إلي وربت على كتفي دون أن يتكلم وبدأنا في الخروج من القاعة .
خارج القاعة كان بإنتظاري الأستاذ جوزيف خوري . توجهنا إلى الكاتدرائية المرقسية في إنتظار مجيء قداسته . لكن لم أحتمل البقاء والإنتظار .. كنت قلقا ، غير مستقر ، شملني حزن غريب . فقررت ترك المكان . بالفعل عندما عرضت الأمر على جوزيف أبدى إستعدادا لتوصيلي إلى المنزل .
منذ تلك اللحظة لم أتابع وجود قداسته في سيدني . ولم آره إلا من تتبعاتي على شاشات التلفزيون أو فديوهات عظاته المقدسة .
.قداسة البابا شنودة الثالث .. لقد رحلت عن بالجسد . لكن الروح الممثلة فيما زرعته في قلوبنا من حب الله الواحد ، وحب الوطن ، وحب أخي وأختي في الوطن مصر والإنسانية ، بغض النظر عن جنسه ومعتقده فاعلة في قلب كل مصري.. وهذا كنز لا يفنى .
أذكرنا أمام عرش النعمة .
0 comments:
إرسال تعليق