(النتيجة الحتمية المؤكدة الوحيدة لاستمرار القتال في سورية هي "حرب استنزاف" لها، تقدم هدية مجانية مخضبة بدماء السوريين من "هذه الثورة" لدولة الاحتلال الاسرائيلي)
إن حصيلة ما وصفه المعارض السوري هيثم مناع ب"الحرب التي اغتالت الثورة" في سورية، مضافة الى الدمار الهائل الذي لحق بالبنى التحتية المدنية في الصحة والتعليم والنقل والمواصلات والصناعة والزراعة والتجارة والمأساة الانسانية المستفحلة للمدنيين، لا تترك مجالا للجدل بأن "الثورة" المدعاة قدمت لدولة الاحتلال الاسرائيلي هدية مجانية ما كانت لتحلم بمثلها في حرب شاملة تشنها على سورية.
في مقابلته مع فضائية "الميادين" يوم الجمعة الماضي قال هيثم مناع إن المسؤولين الأمريكيين الذين قابلهم اشترطوا عليه مسبقا تحديد موقف هيئة التنسيق الوطنية السورية المعارضة التي يشارك في قيادتها من دولة الاحتلال الاسرائيلي والمقاومة الفلسطينية وإيران قبل تعامل الولايات المتحدة معها كجزء من البديل الذي تعتمده واشنطن للحكم القائم في دمشق بعد "تغييره"، مضيفا أن الحرب الدائرة في سورية الآن قد "اغتالت" الثورة وهي "تدمر" سورية دولة ومجتمعا، ما ينفي عن السلاح والمسلحين الذين يحاربون من أجل "إسقاط النظام" ورئيسه وتغييرهما صفة الثورة والثوار التي يدعونها لأنفسهم.
لكن الأهم أنهم يواصلون حربهم فيعطلون الحوار الوطني وينسفون بمتفجراتهم وإرهابهم كل مبادرات الحل السياسي بالرغم من أن كل الدلائل تشير إلى أنه "لن يكون هناك أي فائز في سورية" كما قال أمين عام الأمم المتحدة بان كي – مون في طهران في آب / أغسطس الماضي، لتكون النتيجة الحتمية المؤكدة الوحيدة لاستمرار القتال في سورية هي "حرب استنزاف" لها، كما يصفها كثير من المراقبين، تقدم هدية مجانية مخضبة بدماء السوريين من "هذه الثورة"، كما يصفها أصحابها، لدولة الاحتلال الاسرائيلي وراعيها الأمريكي.
في الحادي عشر من آب الماضي قال مدير وكالة المخابرات الألمانية جيرهارد شيندلر إن الجيش العربي السوري فقد من عديده 50 ألفا تشمل الخسائر في الأرواح والفرار والانشقاق.
وفي الرابع من الشهر الجاري قدر مدير المرصد السوري لحقوق الانسان رامي عبد الرحمن عدد من سقطوا من جنود الجيش بتسعة آلاف و44 جنديا إضافة الى 1296 جنديا "منشقا" منذ منتصف آذار / مارس العام الماضي.
ونقل موقع "ديبكا" الاستخباري الاسرائيلي عن باحث في المعهد الكندي للدفاع والشؤون الخارجية قوله إن "الجيش السوري حتى أوائل تموز الماضي فقد 8763 شهيدا و21357 جريحا ... و600 دبابة ومصفحة تمثل ستة في المئة من دروعه".
وبثت ونشرت أنباء عن إسقاط طائرات وحوامات حربية، واغتيال طيارين حربيين، ومهاجمة قواعد صواريخ وتفجير مستودعات ذخائر، وتدمير مراكز للبحوث العلمية، ناهيك عن مسلسل استهداف كوادر وكفاءات وقيادات عسكرية ومدنية، أشهرهم وزير الدفاع ونائبه، ومنهم رتب عميد ركن ولواء وعقيد وعميد ومقدم ونقيب وملازم، ومدير كلية الكيمياء العسكرية، ومخترع مختص في علوم الطيران، وخبير في الصواريخ، ومهندسون وأطباء ورياضيون وممثلون وإعلاميون وقضاة ومحامون وأكاديميون ونقابيون، وكشف اغتيال شقيق رئيس مجلس الشعب السوري وابن مفتي سورية ونجل رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الطبيعة الارهابية لهذه الاغتيالات.
لقد تبرأ من هذا الإرهاب نائب رئيس أركان ما يسمى "الجيش السوري الحر" العقيد أحمد حجازي، لكن العديد من وسائل الاعلام ومنها فضائية الجزيرة القطرية نقلت تصريحات لقائد في هذا الجيش إثر اغتيال رئيس فرع الاستخبارات الجوية بمطار دمشق مؤخرا كشف فيها عن وجود "مجموعات اغتيال نائمة ... يفوق عددها الخمسين" منتشرة في سورية.
يعرف كتيب دليل الجيش الأمريكي الإرهاب بأنه "الاستخدام المحسوب للعنف غير القانوني أو التهديد بالعنف غير القانوني لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو أيديولوجية في طبيعتها، بهدف إكراه أو تهديد الحكومات أو المجتمعات". ومن الواضح أن "الحرب التي اغتالت الثورة" في سورية، كما قال مناع، قد حولتها الى ساحة دموية لممارسة الارهاب حسب تعريف الجيش الأمريكي له، بينما تجهد وزارة الخارجية الأمريكية ووزيرتها هيلاري كلينتون وسفيرها روبرت فورد في الدوحة وقبلها في اسطنبول والقاهرة وباريس وغيرها من أجل الاستثمار السياسي لهذا الارهاب بإعداد أدوات "سورية" تكون واجهة سياسية لتنفيذ مخططات يضعها البنتاغون ووكالات المخابرات الأمريكية ويخرجها بواجهة مدنية "معهد السلام الأمريكي".
وقد كان لافتا للنظر في هذا السياق أن يكون أول ما طالب به جورج صبرة الشيوعي السابق بعد انتخابه في الدوحة الجمعة الماضي رئيسا جديدا ل"المجلس الوطني السوري" هو المزيد من "تسليح" المعارضة، ليصب الزيت على ما يجمع معظم المراقبين اليوم على كونه "حرب استنزاف" للدولة في سورية لا ثورة على النظام الحاكم فيها.
والهدف الأمريكي واضح وهو، كما قالت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس في أواخر تموز عام 2006: "نحن ندفع باتجاه الشرق الأوسط الجديد ... وعلى السوريين أن يختاروا"! لكن "الشرق الأوسط الجديد" هو في الأصل مشروع اسرائيلي نشره في كتاب بذات الاسم رئيس دولة الاحتلال الاسرائيلي الحالي شمعون بيريس عام 1998، في محاولة واضحة لاستثمار معاهدات واتفاقيات وتفاهمات الصلح والتطبيع التي أخرجت مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ومعظم دول الجامعة العربية وبخاصة معظم دول مجلس التعاون الخليجي من الصراع مع دولة الاحتلال، وقد تعززت هذه المحاولة واكتسبت قوة دفع قوية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ثم غزو حلف الناتو لليبيا، اللذين تركيا سورية العقبة الوحيدة الباقية أمام رسم خريطة اقليمية جديدة في المنطقة.
وبغض النظر عن العوامل الذاتية والداخلية للاصلاح والتغيير في سورية، فإن موضوعية هذه العوامل ومشروعيتها قد همشتها تماما وأجلتها العوامل الاقليمية والدولية الخارجية التي استغلتها كمدخل للاستعاضة عن تدخل عسكري مباشر جعلته المتغيرات الدولية خيارا مستحيلا بمحاولة فرض حرب استنزاف طويلة المدى على الدولة السورية توغل في هدم بناها التحتية، وبخاصة الجيش العربي السوري الذي يمثل العمود الفقري للدولة السورية وللوحدة الوطنية للمجتمع السوري ولوحدة أراضي سورية الاقليمية وسيادتها، وهذا بالتأكيد ليس هدف أي معارضة وطنية داخلية تسعى إلى "تغيير النظام"، بل هو هدف إسرائيلي – أمريكي يسعى إلى تغيير المعادلة الجيوسياسية الاقليمية تغييرا يستوعب المنطقة بكاملها ضمن الاستراتيجية الأمريكية ويحول دولة الاحتلال الاسرائيلي إلى القوة الاقليمية المهيمنة عليها.
وفي هذا السياق توجد دلالة واضحة للمحاولات المستميتة الجارية من أجل توريط اللاجئين الفلسطينيين في هذه المعمعة الدموية، في ضوء معارضة الحكم والمعارضة السورية الوطنية على حد سواء لمثل هذا التوريط، حيث تتوالى "اغتيالات كبار ضباط جيش التحرير الفلسطيني، واقتناصهم، ... دون أن تكون لهم أي علاقة بما يجري في سورية" كما قال الكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور متسائلا باستنكار عمن له "مصلحة" في ذلك وغيره من الاغتيال البشع لمجندين أغرار من هذا الجيش وكذلك محاولات توريط مخيم اليرموك في دمشق وهو الأكبر في سورية خلال الأيام الأخيرة.
وما لم يقله أبو شاور هو أن محاولات توريط اللاجئين الفلسطينيين في هذه المعمعة الدموية إنما تضع القائمين على "الحرب التي اغتالت الثورة" في سورية، كما قال مناع، في خانة الاتهام المباشر. فتهديد أمن اللاجئين الفلسطينيين في سورية يهدد بتفكيك قاعدة صلبة كانت دائما ملاذا وخزانا لا ينضب لرفد الكفاح الوطني الفلسطيني وسط بيئة آمنة حاضنة مضمونة لهذا الكفاح.
غير أن الأخطر هو التهديد بنزوحهم في اتجاهين، إما لبنان الذي تحول الى معبر للنزوح من المنافي القريبة من الوطن الفلسطيني المحتل الى المهاجر البعيدة عنه، أو الأردن حيث سيندرج مثل هذا النزوح في المخطط المعلن لدولة الاحتلال بتحويل الأردن الى "وطن بديل" للفلسطينيين، ما يضع استمرار "هذه الثورة" السورية المدعاة في خانة التقاطع مع المخطط الاسرائيلي أو في خانة التورط فيه.
0 comments:
إرسال تعليق