" نسبة قوة الدولة في أصلها...لا تتم الا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل بالتعاون فيه."[1]
لا يحب المواطن العربي الدولة ولا ينظر اليها بعيون الرضا والثقة والاطمئنان فهي دائما مصدر النقمة والبطش وسبب البلاء والظلم ومصدر الآفات الاجتماعية التي يتعرض اليها في حياته. على هذا النحو كانت صورة الدولة في ذهنية العربي منفرة والعلاقة بين الناس والحكام متوترة وعدائية بل ان هذا الاستعداء دفع الأهالي الى بناء مجتمع مدني مضاد للتمدن السياسي ونمط الحكم المدولن واللجوء الى مجال ثالث للشرعية - مثل الرابطة القبلية أو الجماعة الدينية- يسمح لهم بمقاومة غطرسة وطغيان الحكام وتعديهم على الحقوق. فهل هذه العلاقة عادية؟ والى أي مدى تكون هذه الصورة للشيء السياسي واقعية؟
لقد أكدت التطورات الأخيرة في تونس ومصر وليبيا عند تزايد لهيب الثورة العربية ومرور الأنظمة المذكورة من حالة الصعود والبناء الى وضع الهبوط والهدم صدق نظريات العلامة ابن خلدون وخاصة في حدوث الدولة وطرق تجددها وفي أن الدولة لها أعمار طبيعية تماما مثل الأشخاص وتمر بعدة أطوار تختلف أحوال أهلها باختلافها وأنها تنقلهم في البداية من البداوة الى الحضارة وأنها تعرف في أول قوتها الترف والانفراد بالمجد وتتفاوت مراتب القلم والسيف ولكنها سرعان ما يدب فيها السكون والدعة وينزل بها الهرم والخلل، ثم في أن المتغلبين على السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك.
ان الأنظمة العربية تأتي بالتغلب والقوة والعصبية وتحكم بالغصب والسيف والاستبداد وارهاف الحد بالناس وتنقلب الى ملك عضوض وحينما يتعود الحكام والبطانة على حياة الترف واللهو والدعة تزداد أهمية الحجابة والحاشية ويتدخل أعضاء العائلة المالكة في شؤون الرعية حسب أهوائهم ويفسدون في الأرض ويدب الهرم في جسدها وتبدا الدولة في الانهيار ولا يحصل ذلك الا عندما تستولي دولة مستجدة على دولة مستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة. لقد بينت التجربة التاريخية بالفعل أن الدولة عند العرب تمر بخمسة أطوار مختلفة في الحال والأخلاق:
- طور الظفر بالحكم والاستيلاء على الملك بالغلبة والقوة.
- طور الانفراد بالرأي والاستبداد بالقرار وصد الناس عن المساهمة والمشاركة.
- طور الفراغ والدعة والالتفات الى تحصيل المال وتخليد الآثار.
- طور القنوع والمسالمة وتقليد الماضي واتباع آثار الدول المتقدمة.
- طور الاسراف والتبذير والانفاق على الشهوات والانهماك في تحصيل الملذات وقنص المتع.
اذا كان الطور الأول يتصف بالمدافعة والممانعة من طرف العصبية من أجل حماية الدولة واكتساب المجد فإن الطور الأخير يتميز باستيلاء المرض المزمن في جسد الدولة والتهرم وكثرة التخريب والهدم.
اذا كانت ركائز تأسيس الدولة هي قاعدة قوية فإن عمر الدولة يكون أطول وتعرف البناء والتشييد والتصنيع واذا كانت مهتزة وضعيفة فإن عمرها قصير وتميل الى التقسيم والتهديم والتخلف وتفوت في ثرواتها ومكاسبها وانجازاتها. واذا كان صاحب الدولة يحتاج في بداية ملكه ونهايته الى الاستظهار بأرباب السيوف أكثر من الحاجة الى أرباب الأقلام بغية حماية الدولة والمدافعة عنها فإنه في المرحلة المتوسطة يستغني بعض الشيء عن السيف ويستعين بالقلم من أجل تصريف أمور الناس ، "فتكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاها وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السلطان مجلسا"[2].
من هذا المنطلق تعرف الدولة في مرورها من البداوة الى الحضارة من سن الوقوف الى سن الرجوع ثلاثة أجيال:
الجيل الأول: تنشط فيه العصبية ويتصف فيه الناس بالبداوة والتوحش والخشونة والبسالة والمدافعة وارهاف الحد والاستطالة والاشتراك في المجد.
الجيل الثاني: ينفرد واحد بالحكم وتميل البقية الى الاستكانة والمهانة والخضوع وتنكسر شوكة العصبية وتظهر معالم الحضارة ويكثر الترف والخصب.
الجيل الثالث: ينسى الناس العز والعصبية ويبلغون في الترف والدعة والسكون ويتفننون في اللهو والتنعم ويصيرون عيالا على الدولة ويضطر الحاكم الى استبدالهم بغيرهم من أجل المدافعة والحماية. بعد ذلك يبدأ الحسب والمجد في الانقراض تمتما وتبلغ الدولة الهرم والشيخوخة فتندثر ويذهب خبرها ويزول أهلها وتظهر دولة جديدة محلها.
" طور الدولة من أولها بداوة ثم اذا حصل الملك تبعه الرفه واتساع الأحوال."[3]
يفسر ابن خلدون هذه الدائرة الضيقة التي تدور فيها الدول كم يلي:
- الدولة لها عمر طبيعي تماما مثل الأشخاص وبالتالي لها بداية ونهاية وأول وآخر.
- طبيعة الملك يقتضي الانفراد بالمجد والتغلب بالعصبية وهذا ينتج الاستبداد والظلم.
- طبيعة الملك تقتضي الترف وهذا يذهب العصبية والبداوة وينتج الحضارة والانغماس في الفنون.
- طبيعة الملك تقتضي الدعة والراحة وهذا يورث السكون والجبن والعجز والهرم.
- المحمود في السياسة هو التوسط وقلة الافراط في الذكاء والرفق بالناس وعدم الافراط في الفكر وحسن الملكة حتى تتحقق النعمة علي الناس والمدافعة عنهم.
ننتهي الى أن "مصلحة الرعية في السلطان ليس في ذاته وجسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو اتساع علمه أو جودة خطه أو ثقوب ذهنه وانما مصلحتهم فيه من حيث اضافته اليهم."[4] فماذا عساه أن يضيف النظام السياسي المنبثق من الثورة العربية الى الشعوب التائقة نحو الحرية والكرامة والعدل والمساواة والتمتع بالحقوق؟ وهل ستنهي الثورة العربية النمط الانقلابي للحكم من التواجد في حضارة اقرأ وتغرس نبتة الديمقراطية والتداول السلمي على المناصب؟
المرجع:
عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005.
[1] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005.ص.163.
[2] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، ص.228.
[3] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، ص. 159.
[4] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، ص.172.
0 comments:
إرسال تعليق