مازال حال الثقافة والمثقفين عندنا ملفت للانتباه، بل انه مدعاة للحيرة والأسى والأسف، حتى لنتساءل في بعض لحظات الأسى، ما الذي حدث لمثقفينا؟... نقرأ الصحف أو نتابع الفضائيات فنجد كل بما لديهم فرحون، وكل في واده يهيم، وتمنيت لو كانوا كلهم شعراء حتى نفهم لم يتبعهم الغاوون، ونعلم يقينا أنهم يقولون ما لا يفعلون.
لو نظرنا إلى المشاكل الأساسية التي يتخبط فيها مجتمعنا العربي، وحاولنا بعصف ذهني أن نفهم لماذا تفاقمت، فوضعنا جردا لهذه الأسباب واتبعناه بعملية تمحيص وتصفية على أساس ارتباط هذه الأسباب بعضها ببعض، لوجدنا أن كل تلك المشاكل تعود إلى مسألة الثقافة والمثقف ودورهما في المجتمع. وإذا أردنا دليلا على ذلك فلننظر إلى بعض البلدان التي تلعب فيها الثقافة والمثقف دورهما كاملا. نحن نرجسيون بالدرجة الأولى، نحب المقارنات التي تفخمنا ونعتز بذلك، حتى أن الأمر صار لدينا مركبا نفسيا قد يصعب التخلص منه. نحب الكلمات الرنانة، بل ما عدنا نحب سواها. من منا لم يسمع صحافيا أو مذيعا يقول: هذا أكبر مبنى في آسيا، هذا أعظم مسجد في العالم، هذا أضخم إنتاج درامي، هذا عرس الثورة التي ألهمت كل الثورات، هذا كذا وهذا كذا... كل ذلك والغرض في اعتقادي هو أن نبقى نحلق في سماوات الخيال والأوهام.
لكن يجب أن يرسخ في ذهننا وتعاملنا أمران:
الأول، أن الأزمات لا تقضي على الشعوب ولا تبيدها إلا إذا استسلمت لها وركنت لها وخضعت لها خضوعا كليا.
والثاني، أننا لا ننفرد في هذا العالم بتحملنا وحدنا للأزمات. بعبارة أخرى أننا لا نتصور أن جميع أزمات العالم قررت أن تنزل كالصاعقة على بلادنا وشعبنا وحدهما وتستثني البلاد الأخرى.
لكن الفرق شاسع بين تعاملنا مع أزماتنا وتعامل الآخرين مع أزماتهم. وهذا ما أدى إلى تحطيم خصوصياتنا حتى خرجنا أو أخرجنا من محيطنا الاستراتيجي، وبذلك سهل افتراسنا والتلاعب بمستقبل أبنائنا. ولقد ساهمت ثقافة مثقفينا في هذا، فمن الدفاع المستميت عن استقلالية الوعي والفكر واعتبارها ضرورة في عملية التحرر الإنساني الشاملة كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون وابن رشد وعظماء آخرون. هاهم مفكرونا وفقهاؤنا يغوصون ويمعنون الغوص في أعماق الوعي التجزيئي الوضيع والفقير معرفيا، فنراهم يُفتون في قضايا إرضاع الكبير وجواز الاستمناء بالجزر والفواكه الطوال، ويُحدثون عن لفكرلاستمناء بالجزر ارضاع الكبير والحد الذي اقامته القرود على القرد الزاني الحد الذي أقامته القرود على القرد الزاني... بل وهاهم كبار الفقهاء عندنا يُتهمون بالسرقة الفكرية فلا يحزنون (...) وما سمعناهم يجرؤون على تكذيب أو توضيح أو تصويب مادام الحكم في أحسن الأحوال لن يتجاوز حفنة دولارات ينفحونها المشتكي المتهـِم. والانكى أن نلحظ تشنج البعض في الدفاع عنهم وكأنما هم العرض أو الشرف الذي ينبغي أن يراق على جوانبه الدم لو فكر أحد في مسه بهمسة سوء. أمر يحتم علينا التساؤل عن أسباب هذا العقم الثقافي الذي أضحى صفتنا في عالم اليوم، وعن أسباب انحطاط السياسة والفكر عندنا إلى ممارسات براغماتية بلا أفق نظري إنساني تاريخي. إذ الأجدر في ظني ألا يكون تعصبنا لهذا أو ذاك لمجرد التعصب. بل أن نفكر بأنفسنا لأنفسنا، مستعينين بكل ما بلغه السابقون منا ومن غيرنا. مجتهدين في أن يكون لنا رأينا وموقفنا المتميز. لا لمجرد إثبات الذات، بل لعرض ما نحن مقتنعون به مشاركة منا في النشاط الفكري الإنساني، بحيث لا يصير ما نعمله مجرد ترديد لما يقوله الآخرون. وهذا ما لن نبلغه مادمنا نظن دائما أن الصواب حليفنا وحليف حلفائنا. ولعلها مشكلة العالم بأسره، إذ أن الأغبياء والمتشددين واثقون أشد الثقة دائما، بينما الحكماء تملأهم الشكوك... وحتما سيكون الأولون أشد إقناعا ماداموا يقولون للناس كونوا كما أنتم، بينما الآخرون يدعونهم ليكونوا كما لم يكونوا.
وحيث أن العرب موبوئين بظلامية تاريخية شمولية تستبد بحياتهم وتفرخ الاستبداد بينهم، نتيجة الكثير من الغرائب والعادات الضيقة التي تناسلت بسبب موروثات عصور السُباتِ والقبائل المتناحرة، وبفعل النجاح الكبير الذي حققه المتشددون في سعيهم للتلاعب بالدين الحنيف ليحولوه إلى "تدين مظهري" وأداة تكسب وخداع وقتل وتدمير في كثير من الأحيان... لكل ذلك، لا يستغربن أحد إن قلنا أن الناس عندنا يرحبون في الأكثر بالدعاة الذين يباركون الإبقاء على ما هو موجود من النظم والتقاليد.
ففي الوقت الذي يسعى فيه غيرنا لتكبير سعة القرص الصلب ليستوعب أكثر، والزيادة في الذاكرة الحية لتسهيل البحث والوصول للمعلومة، هاهم مثقفونا وفقهاؤنا يغرقوننا في متاهات فلان سني وفلان شيعي وذاك درزي وأولئك مسيحيون وتلك شافعية أو مالكية وتلكن من عشيرة كذا والأخرى من تلك الفخذ وذاك من هذا البطن... حتى تحول الوطن العربي إلى جلباب الدرويش الذي يتكون من قصاصات قماش متباينة الألوان والأحجام مخيط بعضها إلى بعض إرغاما... وحتما لو استيقظنا ذات صباح فوجدنا أن الجميع صاروا من نفس اللون والعقيدة والسلالة، لظهر بيننا من سيجتهد لاختراع أسباب أخرى للتفرقة قبل حلول المساء.
وحيث أني أعتبر نفسي ممن يؤمنون بأن الانتقاد، برغم كونه غير محبوب، إلا أنه يقوم بنفس وظيفة الألم في جسم الإنسان، إذ هو المنبه لما هو غير صحي فيه، فالرغبة الأصيلة لكل نُباحي – كما يحلو لأصحاب القافلة السائرة نحو الهاوية أن ينعتوني- هي الدعوة لأن يعمل المثقف والمفكر والفقيه كوسيط بين الشعوب، وكمصلح لذات بينها. فالوطن أعظم وأعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب، والمستقبل يصنعه القلم والمنطق لا السواك والتحريض. ودليلي على ذلك هو أن الأمر الإلهي الأول في القرآن الكريم هو "اقرأ". فالدين في الأصل ثورة على الجهل والظلم والاستعباد لولا أن يسيطر عليه المترفون ليحولوه إلى أفيون.
قد يكون للسياسي دور في الدفاع عن شعوبنا، لكن دور المثقف أقوى وأعمق أثرا. فمناعة الشعب، أي شعب، ليست في مواقف حكوماته فقط، بل هي في جبهته الداخلية التي تشكل الثقافة اسمنتها والمثقف بناءها. إذ مهما كانت قوة الحكومات فان هشاشة الجبهة الداخلية لا تسمح لها بالصمود ومنع التسرب والتسلل الخبيث لضرب الأمة في صميمها. والأزمات التي نتخبط فيها، عبرة وأي عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
المغرب
0 comments:
إرسال تعليق