المصري اليوم
حين دخلتُ الوسَط الأدبىّ عام ٢٠٠٠، آتيةً من حقل المهندسين المعماريين زملائى فى الدراسة والعمل، كنتُ مازلتُ غِرّةً طوباوية. أحسَبُ كلَّ شاعرٍ: «جبرانَ» و«صلاح عبدالصبور»، وكلَّ أديبٍ: «طه حسين» و«العقاد». فتحتُ ذراعىَّ وسعَهما لأستقبل وهجَ الآداب والفنون والفكر، لا عبر الكتبِ؛ كما فعلتُ منذ طفولتى، بل عبر اللقاء المباشر بالأدباء والكتّاب. وتوالتِ الصفعاتُ والهزائمُ الوجودية والانكسارات، و«تكسّرتِ النِّصالُ على النصالِ» فى قلبى. نميمةٌ وأحقادٌ وتهافتُ على صغائرَ ومراهقاتٌ جعلتِ الأرضَ تميدُ بى، وترتبك قناعاتى. يجلس عشرةُ أدباءَ فى مقهى، ينصرف واحدٌ، فيبدأ التسعةُ فى النميمة حول الذى انصرف! يمضى آخرُ، فيتحول إلى «بنبوناية القعدة»، بين ذهولى وعدم تصديقى! فأصرخُ فى وجوههم: «بمجرد انصرافى، تلوكنى ألسنُكم!» فيقولون: «لا لا، أنتِ مختلفة، أنتِ جميلة ونقية، لكنهم أشرار!» وكان لابد من وقفة مع نفسى لأعيدَ حساباتى. أمامى خياراتٌ ثلاثة: ١- أجاريهم وأمتهن النميمة؛ فيحبوننى، وتخربُ روحى وينضُب معينى الأدبىّ. ٢- أظلُّ على شجارى الدائم معهم، فيكرهوننى، وتفرُغ طاقتى الروحية. أو الخيار الثالث الذى أنقذنى، وإن تسبب أيضًا فى كراهية الجميع لى، إلا الحقيقيين من الأدباء؛ ظلّوا على محبتهم لى.
وكان أجملَ قرارات حياتى عام ٢٠٠٣ حين «طلّقت هذا الوسط بالتلاتة» وانكفأتُ على مكتبى داخل صومعتى مع الذين لا يكذبون: الأدباءُ فى كتبهم، لا على طاولات المقاهى.
ماذا أنجزتُ فى هذا المنفى الاختيارى؟ سبعة دواوين شعرية فاز بعضُها بجوائز عالمية. عشر ترجمات لروايات ضخمة لڤرجينيا وولف، وفيليب روث، وتشينوا آتشيبى، وچون ريڤنسكروفت، وتشيمامدنا نجوزى آديتشى، وأنطولوجيات شعرية لشعراءَ عالميين كبار. وبضعةُ كتب فى النقد الأدبىّ والثقافى، وآلاف المقالات والدراسات، والأهمُّ، حافظتُ على براءتى من الضغينة والصِّغر.
مؤلمٌ تناحُر المثقفين حول تفاهات، لا حول مبادئَ وقيمٍ وقضايا تهذيب العالم وتثقيف الإنسان ليجنح نحو المحبة والبراءة!
نعم، نفتقد إلى «البراءة» التى حاول جبران، وغيرُه من رُسُل المحبة، غرس بذورها فى أعماقنا. بدلاً من تنوير البشرية والأخذ بيدها نحو الحضارة، تضاءلنا نحن «المثقفين» كالذئب يأكلُ نفسَه، وجلسنا نتفرج على العالم يذهب نحو المجهول! أكاد أسمع «داعش» تضحك وتُخرج لنا لسانَ الشماتة قائلةً: «مات جبران».
لماذا أكتبُ هذا؟ لأن الصحفية الشابة «ياسمين المساوى»، سألتنى فى حوار لمجلة «نصف الدنيا»: «لماذا لا نراكِ على مقاهى (وسط البلد) مع المثقفين؟» وأسألُها بدورى: «هل كنت أُنجزُ عشرين كتابًا، لو سرقتنى المقاهى؟!».
0 comments:
إرسال تعليق