بعيداً عن الخلاف التقليدي حول تحديد بداية الشهر ونهايته بين المذاهب والفرق الإسلامية، لا يزال المرء يتساءل متى سيهّل هلال رمضان؟ هذا التساؤل غير ناتج عن خرف أو جهل او العيش خارج الزمان لأن شهررمضان من ناحية التقويم وحسب الرزنامة قارب ان ينتصف، لكن هذا التساؤل لأن شهر رمضان صودر وما يزال على أكثر من صعيد وضاعت معانيه الدينية والإنسانية في متاهات منها التجارية والفتنية والسياحية والترفيهية واجتهادات وفتاوى عامودية وافقية في التحليل والتحريم.
فعلى الصعيد التجاري تحوّل شهر رمضان الى سلعة ومادة ترويجية لسلع وخدمات تسبق الشهر الفضيل وتستمر خلاله وصولاً الى العيد، فهناك مأكولات ومشروبات وألبسة رمضانية وتنزيلات رمضانية على الأسعار وغيرها، لتجذب الناس الى الأسواق وأبواب المتاجر.طبعا لا تشمل هذه التنزيلات اسعار المواد الغذائية والخضر والفواكه التي يزداد الطلب عليها في موسم رمضان (انتبهوا الموسم) حيث ترتفع الاسعار لمستويات خيالية تكوي المستهلكين، بسبب استغلال وجشع التجار لشهر المغفرة والرحمة، هذه الرحمة التي لا يفقهون منها الا ما يدخل المزيد من المال الى جيوبهم.
فنياً، تبدأ الإستعدادات للمسلسلات الرمضانية فور انتهاء الشهر، هذه المسلسلات التي تحولت الى مواد تخذيرية او كادت ان تتحول الى عبادة، تُحَوِّل الناس الى أصنام متلقية، تبعدهم عن محيطهم من خلال الهروب من الواقع المر المحيط بهم رغم ان بعض المسلسلات يعالج قضايا على تماس مع حياة الناس ومعاناتهم.
السياحة والترفيه لهما حصتهما من الموسم الرمضاني فتقام الخيم الرمضانية والحفلات المخصصة لهذا الشهر، هذا عدا عن افطارات الوجاهة العامرة بما لذّ وطاب بينما هناك الملايين ممن يتضورون جوعاً ويلتحفون العراء ويفترشون الخلاء.
وهنا نتمنى ان لا يشّذ فهم القارئ عن القصد، فأنا لست ضد الفرح ولا التجارة والسياحة والترفيه والفن والتي هي حاجات انسانية كأي حاجة اخرى.
فقهياً، وهنا بيت القصيد وتساؤلنا عن فتاوى التحليل والتحريم ليست مزاحمة جمهرة المعممين او مُفْتُوغب الطلب والذين والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، هناك تخمة وفائض منهم وقد ملأوا الدنيا بفتوى التحليل والتحريم، تحلل المحرّم وتحرّم المحلل حسب ما تقتضيه رغباتهم او رغبات من سخّرهم مقابل بدلات مالية لخدمة مشاريعه ومآربه الدنيوية والتي البسوها لبوساً دينياً وهل أجمل من هكذا ثوب!!
وهنا سأروي نكتة معبّرة نقلها احد الظرفاء دار حوارها بين مهرّب مخدرات وتاجر دين حيث قال الثاني للأول: مالك وهذه التجارة فإن عواقبها وخيمة وقد تتسبب بنهايتك أو بدخولك السجن، أما أنا فإن تجارتي مربحة وتدر عليّ المال إضافة الى المركز والجاه ولا حسيب ولا رقيب!.
نعم ما يحّز بالنفس هذا الدرك الذي وصلنا اليه من استغلال للدين من قبل معمّمين (طبعاً نحن هنا لا نعمم) يحرصون على بث الكراهية والحقد والتكفير والبغض والجهالة والتحريض والدعوة العلنية الى الفتنة بين المكونات الإجتماعية للوطن الواحد. فهل من المستغرب ان يتساءل المرء متى سيهّل هلال رمضان، طبعاً رمضان الشهر الفضيل الذي انزل فيه الله الرحمن الرحيم كتابه الذي يحمل الهدى والبيّنات فقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (سورة البقرة الآية 185).
هذه الآيات البينات التي صادروها واستباحوها حتى في الشهر الكريم فإذا بشهر رمضان، رمضان الدم والتفجيرات والقصف واستباحة الأرض والعرض والأرواح والقيم الإنسانية والدينية السمحة، وابتداع اساليب قتل واعدام وتفجير المؤمنين في أماكن العبادة او كما رأينا مؤخراً آخر ابتكارات داعش في الإعدام فبعد الحرق للأحياء بدأوا بإغراقهم في الماء وحجزهم في السيارات وإطلاق الصواريخ عليهم او تلغيم رؤوس المعتقلين وتفجيرها عن بعد، ناهيك عن جرائم الإتجار بالبشر في اسواق النخاسة وتهجير الآمنين من ديارهم وتدمير الأرث الثقافي والتراث الإنساني في تدمير ممنهج للحضارة وللذاكرة الانسانية التاريخية.
إذا كان هذا ما يحدث في الشهر الذي فضّله رب العالمين على باقي الشهور، اليس هذا أكبر دليل على مصادرة ومخالفة المعاني القرآنية الواضحة والصريحة التي ترفق الصيام بالتقوى في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (سورة البقرة الآية 183)
او قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (سورة النساء الاية 1)
والتقوى كما يفسرها الإمام علي (ع): هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والإستعداد ليوم الرحيل. فأين هذا الخوف والعمل والرضا والإستعداد؟!.
أخيراً، فهل من المستغرب ان نتساءل متى سيهّل هلال رمضان الذي يحمل معاني الإيمان والتقوى؟ والذي لا شك ان الشريحة الكبرى من المؤمنين تفقهها وتمارسها سواء في شهر رمضان او على مدار السنة، اذاً، المطلوب توسيع هذه الدائرة لتتناسب مع قيم وأهداف وسماحة الدين التي تجّل الإنسان الذي خلقه الله على صورته (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (سورة التين الأية 4).
ونتمنى لكم رمضان كريم
Email:abbasmorad@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق