الوطن أم الهوية ؟!/ عبد الكـريم عليـان


حال توقيع اتفاق أوسلو قبل ثمانية عشر عاما، سألت نفسي سؤالا محيرا كان لا يمكن الإجابة عليه في حينه.. والسؤال هو: كيف لنا أن نبحث عن دولة بحجم (علبة كبريت) في الوقت الذي تتحلل فيه الدول الأوربية من قيود الوطن لتصبح أوروبا بمعظم دولها مشاعا لكل الأوربيين؟ وبات مفهوم الوطن غير المفهوم التقليدي السائد خصوصا في ظل العولمة حاليا؛ فما هو مفهوم الوطن لدى أصحاب الشركات والمصانع العالمية..؟! وهم يستطيعوا التجوال والإقامة في الأوطان العربية وغير العربية دون أي عائق، وأعجب من حالتنا الفلسطينية المتشظية، والتي مازالت تتجه نحو مزيد من التشرذم والتجاذب الإقليمي والطائفي بدون هدف وطني يساهم في الوصول إلى الحق الفلسطيني بأقصر الطرق..! ولعلنا اليوم نكتشف بسهولة خطأ المراهنة على المحاور الإقليمية سواء كانت عربية أو غيرها.. لكننا نكون قد خسرنا وحدة شعبنا الذي فقد الرؤية والبصيرة لدرجة أن عددا، أو اتجاها بات يطالب بحل السلطة الوطنية الفلسطينية دون التفكير برويّة فيما يطالبون، ودون طرح البدائل المطلوبة للحفاظ على وحدة شعبنا واستمراره في الحفاظ على المنجزات التي حققها، وهنا تبرز حجم الخسارة الغير مقدرة بالنسبة لموضوع مقالتنا هذه وما نروم إليه.. وكذلك الاحتفاظ بقوة شعبنا في عدم التنازل والتفريط بحقوقه وثوابته الشرعية.. ونعتقد أن الجانب المضيء في اتفاق أوسلو هو شعاع الهوية الفلسطينية الذي اعترف به العالم الغربي لأول مرة، لكننا لم نستثمر هذا الجانب ونطوره، بل ساهمنا جميعنا في إطفاء هذا الشعاع وحرف مساره، وها نحن اليوم أمام امتحان صعب في إثبات هويتنا ونحن على أبواب استحقاق أيلول القريب..

أصحاب مشروع تدمير وحل السلطة الوطنية الفلسطينية لا يخدمون في طرحهم هذا سوى أصحاب البرامج والأيدلوجيات المتطرفة والتي لا يوجد في برامجها أهدافا وطنية تخص مجتمعا واحدا يحمل ثقافة واحدة تقوده نحو التقدم والرقي، وما دون ذلك سوف يخدم العدو بالدرجة الأولى.. ولا نرغب بتوجيه التهم أو التشكيك في القوى والأحزاب التي تعمل وفق أيدلوجيات وسياسات قد لا تخدم قضيتنا الفلسطينية، وكانت عاملا رئيسيا في إعاقة مسيرة شعبنا الطويلة ومازالت إن بقينا على هذا الحال.. وعلينا ألا نخجل إذا سألنا أنفسنا كيف استطاع الشعب اليهودي بعد أكثر من ألفي عام أن يقيم دولة قوية متطورة، ولو على حساب شعبنا؟ كيف استطاع اليهود المشتتين في بقاع الأرض عمل ذلك..؟ صحيحا أن هناك عوامل دولية وإقليمية ساعدتهم في ذلك.. لكن يبقى العامل الأهم والحاسم، وبدونه لم يكن هناك دولة إسرائيل، ألا وهو [ الهوية ] التي سبقت [ الوطن/ الأرض ] ونعتقد أن إسرائيل زادت من الاهتمام في هذا المجال وتخصص ميزانيات هائلة لذلك، فيما لو استثنينا التركيز على ذلك في كافة القطاعات، وكل هذا على حساب تشظي وتقسيم الشعب الفلسطيني، والتي ما فتئت لحظة واحدة من العمل على ضرب وطمس الهوية الفلسطينية، والهوية هنا تعني (ثقافة المجتمع) وهي أسلوب حياة المجتمع أو النمط الذي يتبناه المجتمع في حياته، ويتضمن كل أساليب الحياة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والجمالية والمنطقية وطرائق التعبير عنها، إذن لا مجتمع بدون ثقافة [هوية] ، ولا ثقافة [هوية] بدون مجتمع .. والثقافة الفلسطينية الأصيلة تشمل الآداب الرفيعة، والفنون الجميلة، والمباني الرائعة التي تمتد جذورها في أصالة التراث والفكر العربي الأصيل، مثل قبة الصخرة المشرفة، وسور القدس ومبانيها، وسور عكا ومسجدها، وكل المباني والمعالم في كافة الأراضي الفلسطينية التي هي شواهد على تراثنا الأصيل، كذلك الأغاني الشعبية في الأعراس والمناسبات المختلفة، والأزياء الشعبية الأصيلة، والمأكولات الوطنية، كذلك الأمثال الشعبية والقصائد والأناشيد والاحتفالات بالمناسبات الوطنية.. ولو تفحصنا ما سبق سنجد أنفسنا قد فقدنا هويتنا الفلسطينية؛ فإسرائيل قامت بتدمير الكثير من المباني الأثرية، وصارت لغة الفلسطيني في الداخل ليست العربية النقية، والمأكولات الفلسطينية صارت إسرائيلية، والألحان العربية صارت مهجنة، لكن فلسطينوا الداخل قد انتبهوا لذلك، ونجحوا في إحياء التراث [الهوية] من جديد، لكن غزة لم تبقي من الهوية الفلسطينية إلا شذرات.. ولم تعد ثقافة الهوية توحدنا في شيء..

وإذا ما استطردنا في توضيح الثقافة [الهوية] كنظام يتكون من عموميات الثقافة وخصوصياتها وأبدالها، أما العموميات فهي التي تشكل الهيكل العظمي للنظام وتنتشر بعامة عند كل أفراد المجتمع مثل اللغة العربية والإيمان بالله وطقوس دفن الموتى وإجراءات الزواج والنظام القيمي الذي ينظم شئون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية. أما الخصوصيات فهي العناصر التي تخص فئة من الناس لأسباب مهنية أو دينية أو اجتماعية واقتصادية أو عرقية، وتكون إيجابية حينما تكون بواعثها مهنية تسد حاجات الناس، وقد تكون سلبية حينما تكون بواعثها تعدد الديانات أو العروق أو الفروق الكبيرة في الطبقات الاجتماعية بدون صيانة أخلاقية.. أما الأبدال فهي العناصر التي تجدد النظام الثقافي، وتجعل منه نظاما يتكيف مع حاجات الناس ومتطلباتهم في الحياة، وهي دم جديد يشكل عوامل التغيير والتطوير.. وبدون الأبدال يبقى النظام الثقافي جامدا بدون حراك، مغلقا بدون انفتاح على العالم، ويعدُّ قاصرا عن إشباع حاجات الناس المتغيرة، عندئذ يعيش الناس في حالة من التخلف العام والعنت داخل المجتمع. وما نسعى له أن تصبح الثقافة بآلياتها قوة فعالة في التغلب على التحديات التي تواجه الناس في حياتهم، وإشباع حاجاتهم بدرجة مقبولة تشعرهم بالرضا والارتياح والاستقرار، ومن ثم تعمل على: توحيد مفاهيم الناس وأفكارهم، وأنظمتهم، وأساليب معيشتهم داخل النظام الاجتماعي مما يساعد في تكوين بنية اجتماعية متماسكة بفضل ما تشكله من تشابه في الاتجاهات والقيم عند الأفراد في الإطار الاجتماعي.. كذلك تعمل على توحيد استجابات الناس المكتسبة في مواجهة التحديات التي تواجههم في الحياة اليومية، وتسهل عمليات التفاعل والتواصل بين الناس بفضل ما تقننه الثقافة من نظم (قيمية مشتركة) تيسر التعامل بين أفراد المجتمع. الأهم في الثقافة أنها تميز المجتمعات عن بعضها البعض، بفضل ما تشكله من استجابات تعلمية معينة عند كل جماعة في ضوء معطياتها وخصوصياتها الطبيعية والاجتماعية والنفسية...

أنظروا حال (ألمانيا) قبل أيام كيف انقلبت رأسا على عقب! وصار الساسة والبرلمانيين والمسئولين في حيص بيص! واستشعار خطر الدمار الشامل للمجتمع الألماني، وذلك ليس خوفا من حرب قادمة، أو عاصفة مناخية، أو كارثة بيئية، أو أي شيء من هذا القبيل.. إنما الخطر هو في استهداف (قيمة) من قيم المجتمع الألماني وهي: (الصدق) والحادثة تتلخص في قيام وزير الدفاع الألماني السابق كارل تيودور تسوجوتنبرج بنسخ عبارات في رسالة الدكتوراه الخاصة به دون الإشارة إلى مصدرها، كما ذكرت وكالة الأنباء الألمانية, حيث رأى ما يقرب من ثلاثة أرباع الساسة الألمان أن هذه الواقعة أثرت على القيم الألمانية، وأن قيمة (الصدق) هي الأكثر تضررا يليها الاستقامة ثم الثقة والمصداقية...

بالطبع هناك أمثلة كثيرة تقف عندها المجتمعات المتقدمة، لكننا استحضرنا الحالة الألمانية لحداثتها من جهة، واهتمام الساحة السياسية فيها لمدى خطورة الأمر من جهة أخرى.. ولو تبصرنا في الفارق بين سياسينا سواء العرب أم الفلسطينيين، والسياسيين في دول مثل ألمانيا لعرفنا حجم الفجوة السحيقة بيننا وبين تلك الدول، أو بيننا وبين دولة العدو الإسرائيلي.. إذن كيف يمكن أن نواجه هذا التحدي..؟ وكيف يمكن للمواطن أن يثق بقياداته؟ إذا تحولت هذه القيادات إلى أدوات لتخريب مجتمعاتها، وغير مبالية بمدى خطورة تلك القيم التي انقرضت من ثقافتنا؟؟ مقابل الحالة الألمانية لدينا أساتذة جامعات قاموا بسرقة كتب بأكملها، ولا يمكن سرد كافة القصص والسلبيات التي يعرفها شعبنا ويشاهدها يوميا، والمخفي منها أعظم! لكنني شاهدت بأم عيني شيخا مشهورا كان قد خلع شجرة مانجو من إحدى المحررات بعد انسحاب إسرائيل منها ليغرسها في بيته! وبالطبع شاهدنا جميعا كيف تحولت تلك المستوطنات إلى أرض خراب بعدما كانت حدائق غناء، والغريب أن الشيخ الذي سرق شجرة المانجو أصبح نائبا في المجلس التشريعي بكتلة الإصلاح والتغيير؟! وهذا ليس معناه أن القيادات الفلسطينية تخلو من سلبيات كثيرة، لكنه من المفترض أولا أن نعقد الأمل على حراس الهوية والمراقبين على تنفيذها، وإن فقد هؤلاء تلك القيم فكيف سيحافظون عليها؟؟

قبل أن ننهي مقالتنا التي لا تتسع لكل شيء.. لكنه سألني أحد المعلمين الأوفياء، حيث المدرسة تعلّم القيم والأخلاق والميول وكل الاتجاهات الحسنة، لكننا لم نلمس تحقيقها في المجتمع، فما السبب في ذلك؟؟ الإجابة هي: أنه لا يجوز للنظام التربوي أو أي من أنظمة المجتمع أن تعمل بمعزل عن الأنظمة الأخرى، فكيف سيقتنع طلابنا بقيم الأخلاق أو الصدق أو القيم الأخرى.. وفي نفس الوقت يرى الفساد والسرقات تنخر في المجتمع من القمة إلى قاعدة الهرم؟ وكيف يمكن للطالب أن يتعلم الدين من المدرسة ليكتشف أنه مخالف للخطاب الديني في المسجد؟؟ وأخيرا هل نتعلم مما جرى من انقسام في السودان الشقيق؟ وما قد يلحقه من انقسامات أخرى في السودان ودول عربية أخرى مرشحة للانقسام أيضا.. وكيف انكشفت علاقة جنوب السودان بالكيان الصهيوني؟؟ أليس ذلك مرده للإسلام السياسي الذي يحكم السودان منذ أكثر من عشرين سنة فقد من خلالها الشعب السوداني هويته العربية، ومن ثم وحدته كشعب واحد يستطيع مواجهة كل التحديات؟؟ ونحن على طريق استحقاق أيلول القريب، سيعترف العالم بهويتنا على جزء من ترابنا الغالي.. قبلت أمريكا وأخواتها، أم لم تقبل! فهويتنا لن تكون من صناعة أمريكية أو غيرها.. هويتنا هي في وحدة شعبنا واحتفاظه بالقيم الإنسانية التي سيحترمها ويقدرها العالم الحر، وكذلك بالحفاظ على تراثنا الفلسطيني الكنعاني، وبالاهتمام بشبابنا ثروتنا عماد المستقبل والوصول بهم إلى مستويات عالمية، والأهم هو في بناء مؤسساتنا وأنظمة مجتمعنا في إطار واحد ليرعى كل ما نروم إليه.. حينها سيكون الوطن في متناول اليد..!

CONVERSATION

0 comments: