فساد كعكة المصالحة الفلسطينية/ د. مصطفى يوسف اللداوي

يبدو أن كعكة المصالحة الوطنية الفلسطينية التي مضى على توقيعها في القاهرة أكثر من شهرٍ قد فسدت بمرور الزمن ونفاذ الصلاحية، فلم تعد صالحة للاستهلاك الآدمي والاستفادة البشرية منها، ولم يعد من العقل والمنطق توقع ورجاء الفائدة منها، أو استعادة قيمتها التي كانت مرجوة منها، أو خداع الفلسطينيين بأن مدة صلاحيتها لم تنفذ، وأنه بالإمكان تمديدها أو معالجتها لتبقى صالحة ومفيدة، ولكن الحقيقة التي يجب أن نعترف بها، ولا يمكن أن نتغافل عنها، أن الكعكة قد فسدت وتعفنت وانبعثت منها روائحٌ كريهةٌ عفنة، تزكم الآناف، وتصدع الرؤوس، وتعافها النفوس، فلم يعد أحدٌ يرغب فيها، أو يأمل في الاستفادة منها، رغم محاولات البعض خداع الفلسطينيين بغير حقيقتها، وإيهامهم بجدواها وقيمتها، وأنها مازالت صالحة، وقادرة على الصمود وحل المشاكل والصعاب وتجاوز العقبات والتحديات، الحقيقة أنها فسدت ولم تجد معها الاحتفالات والأضواء والتصريحات، ولم ينقذها من تعفنها مباركةُ قادةٍ وحكامٍ وملوك، ورعايةُ دولٍ ومنظمات، وتعهداتُ أجهزة وقيادات، وآمالُ شعبٍ ومعاناة أهل، ودمعة أمٍ وآهةُ مريض، وبكاءُ طفلٍ وأنةُ عجوز، على الرغم من أن أغلب الفلسطينيين قد استبشروا بها خيراً، وأملوا فيها كثيراً، وبالغوا في أحلامهم وتوقعاتهم، ولكن الجدار الأصم الذي وصلت إليه المصالحة قد قتل الآمال التي كانوا يعلقون عليها، وأعادهم من جديد إلى حيرتهم وبؤسهم وشقائهم ومعاناتهم.

ربما لا يكون مضيُ الزمن وتجاوزُ الأحداث وحده وراء تعفن كعكة المصالحة وفسادها، رغم أنه كلما مرَّ عليها المزيد من الوقت كلما تأكد فسادها وعفونتها وعدم ملائمتها، إلا أنه قد تكون هناك أسبابٌ أخرى موضوعية ومنطقية، ولا يمكن إهمالها أو إنكار دورها في فقدان المصالحة لقيمتها، وتجاوزها لوقتها، فلعل الظروف التي صنعت فيها لم تكن مناسبة، والمناخات التي تعرضت لها لم تساعدها على الحفاظ على صحتها ونظارتها، والظروف التي واكبت التوقيع عليها لم تكن صحية أو لم تكن صادقة ومخلصة، فلم يكن يكفي لضمان نجاح المصالحة سقوطُ نظامٍ، وفقدانُ مظلة، وغياب نصير، أو الخوف من اضطراب الأوضاع، وفوضى الأوراق، وتغير التحالفات، إذ أنها كلها عوامل خوفٍ وقلق، تدفع الإنسان لسلوك ما لا يقتنع به، ولا يأمل فيه، ولكن بزوال عوامل الخوف أو بالتعامل معها، يعود الإنسان إلى طبيعته، ويسلك ما اعتاد عليه، وينقلب على ما تبناه في مرحلة خوفه وقلقه، إذ لم يكن خياره الاستراتيجي بقدر ما كان فرض الحاجة، ولزوم ما لا يلزم.

وربما أن صانعي كعكة المصالحة أدخلوا فيها مكونات ونكهاتٍ كانت سبباً في سرعة فسادها، وفي عدم صمودها أمام الظروف والمتغيرات، فأدخلوا فيها شروطاً لغيرهم، والتزاماتٍ لعدوهم، واعتراضاتٍ لغيرهم، فكبلوا بنود الاتفاق بأغلالٍ جديدة، وضعوا فيها أثقالاً يصعب معها التحرك والانطلاق، ويستحيل منها التحرر والإنعتاق، فأبقوا على رموز الفساد، واستبقوا عوامل الخلاف، وأصروا على عدم معالجة الأمراض، واستئصال الأورام، وإجراء عملياتٍ جراحية لما لا يكون علاجه والشفاء منه إلا بإجرائها، فرفضوا العودة من طريق التيه الذي سلكوه، وأعلنوا أنهم ماضون في ذات المنهج، وأعلنوا أنهم متمسكين بمن رافقهم الطريق، ولازمهم المشوار، وأنهم سيجربونه من جديد، وسيثقون بوعوده وعهوده، ولن ينقلبوا عليه، ولن يقاوموه بالبندقية ولا بالحجارة، وأنهم سيواصلون حمايته من كل من يتربص به شراً، ويسعى لينال من أمنه واستقراره وسلامة شعبه ومستوطنيه، وأكدوا أنهم سيمضون على ذات الطريق، رغم أنه لم يورثهم إلا ذلاً وضياعاً وتشتتاً وتمزقاً، ولم يحقق لهم شيئاً مما يأملون وشعبهم، بل أفقدهم المزيد، وجردهم من جديد.

وربما يعود السبب في فساد كعكة المصالحة وتعفنها، أن بعض الأطراف التي حصلت على حصتها من كعكة المصالحة، أخذت منها ما تريد، وما كانت تخطط للحصول عليه، ثم قامت بإفساد ما تبقى منها وهي حصة الآخرين فيها، فمصر أكدت قدرتها على رعاية الحوار الوطني الفلسطيني، وأثبتت أنها قادرة على أن تلعب دوراً محورياً ورئيساً فيه، وأن تستعيد الدور الذي فقدته، وأنه لا يمكن لغيرها أن يقوم مقامها، وأن جميع الفرقاء قد عادوا إلى ورقتها ووقعوا عليها، واعترفوا بفضلها ومرجعيتها، في الوقت الذي لم تغير فيه مصر شيئاً تجاه سكان قطاع غزة، وعادت لتصغي السمع لنداءات من يطالبها بالتضييق وعدم التخفيف، وباستمرار الحصار وعدم رفعه.

أما السلطة الفلسطينية فقد ظهرت في القاهرة أنها السلطة الفعلية، وأنها ليست طرفاً كالآخرين، فاستفردت بالمنصة والكلمة والأستاذية، وأكدت على منهجها ومسارها وسياستها، وأنها المرجع والقائد والممثل، وبينت للعالم أنها تمتلك أوراق الملف الفلسطيني كله، وأنها ذاهبة إلى نيويورك ومعها أوراق الوحدة الفلسطينية، فهددت الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية بأنها قادرة على الاستقواء بورقة الفصائل الفلسطينية، في الوقت الذي وضعت فيه شروطها على الطرف الثالث، وتمسكت على طاولة المفاوضات برؤيتها للمرحلة القادمة، منهجاً وقيادة، ورفضت التنازل أو القبول بحلولٍ وسط تحقق التوافق والرضا، واستمرت في ممارساتها الأمنية اعتقالاً ومطاردة ومحاكمة وتنسيقاً وتسليماً، وغير ذلك من النقاط التي شكلت بمجموعها عوامل فساد وتعفن كعكة المصالحة.

أما الطرف الثالث المتمثل في حركة حماس وحلفائها من الفصائل الفلسطينية، فقد قدموا تنازلاتٍ كثيرة، وفرطوا في حقوقٍ كانت لهم، وأعطوا كثيراً مما هو في أيدهم لغيرهم، واستعدوا لمشاركتهم فيما هو لهم وحدهم، وصدقوا شريكهم والوسيط، إذ أملوا في المصالحة أن ترفع الحصار المفروض على قطاع غزة، وأن تفتح معبر رفح الحدودي، وأن تخفف من معاناة المواطنين، وأن تلبي بعض حاجتهم في السفر للعلاج والدراسة والعمل، وأملت أن تعيد إعمار قطاع غزة، وأن تسيل أموال المساعدات العربية والدولية لإعمار ما قد دمره العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وأن تعيد الوحدة إلى شطري الشعب في الوطن، وأملوا أن ترفع سلطة رام الله سطوتها الأمنية عن عناصرها ونشطائها في الضفة الغربية، فتفرج عنهم، وتطلق سراحهم، وأن تتوقف عن اعتقالهم، وأن تعيد فتح جمعياتهم ومؤسساتهم المغلقة، وأن ترفع الحظر عن نشاطهم فيها، وأن تعيد إليهم أموالهم المصادرة، وحساباتهم المالية المجمدة، ولكن حركة حماس وحلفاءها قد وجدوا أن شركاءهم في الكعكة قد أخذوا منهم ما يريدون، ثم قاموا بإفساد ما تبقى منها، وحملوا حركة حماس وحدها مسؤولية فساد الكعكة التي يشهد على إفسادهم لها الكثير، ولكن الحقيقة أن الطرفين الآخرين في صناعة الكعكة هما اللذان خططا للوصول إلى هذه النتيجة، فقد حققا ما يريدان، ونفذا ما يأملان، وأبقيا للشعب المسكين المعنى الكعكة فاسدة عفنة، لا أمل فيها ولا رجاء.


CONVERSATION

0 comments: