بعد أن قبضوا على مركبتي المتواضعة وزجوا بها في سجن السيارات مقابل جامعة الأزهر بغزة، عدت في اليوم التالي إلى السجن بعدما تذكرت حاجياتي الشخصية التي كانت بداخلها وطلبت استرجاعها، لأن مركبتي محكوم عليها بالإعدام..! وبينما كنت أنتظر انتهاء المسئول هناك من مكالمة تليفونية طويلة تتعلق بمشكلة أسرية تخصه.. حسبما فهمت من محادثته مع الطرف الآخر، فاستوقفتني عبارة من حديثه هي: " قدموا لنا حسن النية؛ فالمفاوض السياسي يعرف ماذا يريد! وحتى تكسب إسرائيل هدنة طويلة الأمد عليها أن تنسحب كبادرة حسن نية.." محاولة منه إقناع الطرف الآخر بسياسته أو مبتغاه.. بالطبع هذه ليست عبارة عادية، وليست كلام للاستهلاك.. بل هي قاعدة مشهورة في برنامج حماس السياسي منذ انطلاقة الحركة، على لسان مؤسسها في تسعينيات القرن الماضي.. هذا البرنامج الذي لم يتطرق إلى دولة فلسطينية، وبالتالي ليس غريبا عليهم القبول بهدنة مع الاحتلال قد تصل لأربعين سنة، أو أكثر..! وهذا ما أكدته قيادة حماس في أكثر من محفل، ومناسبة.. ويبقى السؤال الأهم على فرض القبول ببرنامجهم، ماذا بعد الهدنة؟ طالت أم قصرت؟ نعرف جميعا ردهم بأنها ستكون استراحة محارب لالتقاط الأنفاس وتعزيز قدرة المقاومة وقوتها.. فليكن ذلك، لكنه من يحضر لحرب أو ثورة، هل يعقل أن تصبح وظيفة المقاومين الأشاوس جباية الضرائب والجمارك من شعب محاصر.. لا يملك موارد مالية، أو مدخولات أخرى تقيه شر العوز والحاجة؟؟ كيف يمكن لهذا الشعب أن يستعد للحرب القادمة ورجالات الحرب تجهز على ما تبقى من روح المقاومة لدى الناس؟؟ لو عرف الأصدقاء المتبرعون لأهل غزة تعزيزا لصمودهم بأن حكومة حماس وضعت سكينها على أرواح أهل غزة ؟ هل سيستمر هؤلاء في دعمهم لنا؟؟ الغريب أيضا أن ثقافة المقاومة والرباط (الجهاد) تحول أصحابها إلى قوة لسلب قوت الناس وحرياتهم!!
دار حوار بيني وبين قائد الحملة المرورية بشان سيارتي، وذلك صدفة حيث التقيته في إحدى شوارع غزة، وبالمناسبة ذلك الرجل الذي يحمل رتبة عسكرية بدرجة (عقيد) وحسب معرفتي بالشخص كما يعرفه معظم سكان مخيم جباليا، إذ كان عضوا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويبدو أنه لم يحقق ذاته فيها فغادرها إلى حماس، وكان يملك مكتبا إعلاميا متواضعا في غزة.. المهم أنه قال لي: بأنه ينفذ القانون ـ مستهزئا ـ بأنه قانون عباس، وليس مخولا لحل مشكلتي؛ فرددت عليه إن كانت كل القوانين لدينا تنفذ؟؟ لم يطول بيننا الحوار، واختصر حديثه بقوله: "أن أفعل ما أشاء.. أكتب في الصحافة، هات تنظيماتك واعملوا مظاهرات وارجمونا بالحجارة.." انتهى حديثه. لو بدأنا النقاش حول القانون الذي تذرع به محاولا إقناعي به، فهو أولا استهزأ بالقانون، وإذا كان هو قانون عباس، وهو قانون ليس به عدلا ـ حسب ثقافتهم؛ فلماذا يقومون بتنفيذه؟؟ وهم يستطيعون تغييره بما يخدم المواطن، لكن الحقيقة الظاهرة للعيان بأن هدفهم هو جمع الأموال من الناس بأي شكل من الأشكال وليس حبا في تنفيذ القانون.. وانفضح أمرهم حين باشرت حكومة حماس بصرف رواتب موظفيها بعدما جمعت الأموال اللازمة من الحملة المرورية، الأمر الثاني بخصوص القانون، حيث كان العقيد يلبس بدلة عسكرية خضراء (أمن وطني) وليست زرقاء (شرطة) فما علاقة الأمن الوطني بعمل المرور والقانون المدني؟؟ والسؤال الموجه للعقيد، هو: كيف أصبحت عقيدا؟ ومن أي كلية عسكرية أو شرطية تخرجت؟؟ ألم تخجل من نفسك وأنت ترتدي لباسا غير لباسك؟! أهذا هو القانون يا صاحب القانون؟! وحسب ما توفر لي من معلومات أيضا أن ابن العقيد يمتلك سيارة غير مرخصة، ولأنه ابن قائد الحملة ومعروفا لدى الشرطة فلا أحد يعترضه؟! حملة الجباية المسعورة هذه أودت بحياة اثنين من أبناء غزة الصامدة، هذا ما تناقله الناس الذين عايشوا الحادثين؛ لأن الأخبار لا تنقل مثل هكذا أحداث خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بأجهزة حماس، فيوم الثلاثاء 19/7 لاحقت قوة من شرطة المرور في غزة دراجة نارية بشارع الجلاء مما دفع بصاحب الدراجة الاصطدام بسيارة الشرطة فمات على الفور، وفي حادث سير مماثل في المحافظة الوسطى انعدمت سيارة وقتل سائقها نتيجة ملاحقة الشرطة لها، بسبب الحملة المرورية المزعومة، وبالطبع يتم التكتيم على هذه الأخبار.. ونعتقد أن حوادث السير مرشحة للزيادة بسبب الحملة المزعومة، لأن الفوضى المرورية ليست فقط في زحمة السيارات، بل في المشاة الذين لا يلتزمون بضوابط السير، وكذلك عربات الحمير وغيرها من معيقات السير، وكذلك أرصفة الشوارع المغتصبة من الباعة وأصحاب المحلات التجارية، إضافة إلى إغلاق الشوارع من قبل الناس وبترخيص من الشرطة التي تجبي رسوما جراء ذلك دون الاهتمام بحياة المواطنين، فعن أي قانون يتحدث العقيد؟؟
حكومة حماس وأجهزتها في غزة لم تبقي سلعة واحدة يستهلكها أبناؤها إلا وتجبي ضريبة من ورائها، من المحروقات يدخل خزينتها ما يساوي 0.42 دولار لكل لتر، وعلينا هنا أن نشير إلى أزمة الكهرباء التي تنقطع عن المواطن ما يزيد عن عشرة ساعات يوميا يستبدلها المواطن بتشغيل المولد الكهربائي (المنزلي) حيث بين كل خمسة منازل في غزة أربعة منهم يمتلكون مولدا محليا؛ مما يشكل عبئا وملوثا إضافيا، لكن حكومة غزة لا تبالي بذلك ما دام الأمر يزيد من مدخولات الخزينة، جميع السلع المستوردة لا يمكن أن تدخل غزة إلا بدفع الضريبة، وحسب ما أفصح لي أحد المستوردين بأنه يدفع ما يقارب الثلاثة آلاف دولار لكل شاحنة قادمة من ميناء أسدود عبر إسرائيل، مهما كانت نوع البضاعة وحجمها، ولا نعرف حجم الأموال التي تجبى من الأنفاق، لكنه مؤكدا أنها تجبي 0.85 دولارا عن كل علبة سجائر يدخنها المواطن في غزة، إضافة لما ذكر فلا أحد يعرف شيء عن بيع الأراضي الحكومية، والأملاك الحكومية الأخرى مثل المركبات وغيرها، وكذلك الرسوم والطوابع الحكومية المتنوعة، فمثلا محكمة صلح شمال غزة كان دخلها الصافي في إحدى السنوات ما يعادل 30 مليون دولار حسب تقدير أحد العاملين في المحكمة المذكورة، بالإضافة إلى حجم الاستثمارات الهائل في كافة المجالات سواء بأسماء أشخاص ينتمون إلى حركة حماس، أو مؤسسات تابعة لحركة حماس أيضا، وأصبح جليا أن حكومة حماس وحركتها يسيطران على كافة الأنشطة الاقتصادية في غزة.. أما في مجال الصحة فالحديث يطول، ونختصره بالرسوم الكثيرة والمتنوعة بدء من الكشف الطبي والتحاليل المطلوبة للتشخيص ورسوم العلاج والصور المتنوعة إلى المبيت، كل ذلك سيدفع مقابلها المريض حتى لو كان يدفع تأمينا شهريا... ومقابل كل نوع دواء يصرف للمريض، مع ذلك هناك نقص مستمر في العلاج، وبين الحين والآخر يحدث التراشق الإعلامي بين الحكومة الشرعية وحكومة غزة، وهذه الأخيرة تطالب الشرعية بإرسال الدواء والمتطلبات الصحية الأخرى، دون أن تساهم بشيء من الرسوم التي تدخل خزينتها ومن المجال الصحي فقط ! وجدير بالذكر أن الوضع الصحي والرقابة معدومة في هذا المجال حيث سجلت الشهور الأخيرة عدة وافيات نتيجة الإهمال الطبي، دون محاسبة للمسئولين بسبب ولاء بعضهم لحكومة غزة، وها هم الناس في شمال غزة يطلقون اسم مستشفى كمال "إعدام" بدلا من مستشفى كمال عدوان نتيجة الإهمال الطبي، وعمل بعض الأطباء المشكوك في قدراتهم الطبية..!! وفي موقف آخر حدثني أحد الأطباء بأن البلدية طلبت منهم تراخيص مزاولة الحرفة للعيادات الخاصة، في حين تدخلت نقابة الأطباء وأعلن عن مكرمة من الرئيس إسماعيل هنية بإعفاء الأطباء من الرسوم، إلا أن البلدية عادت لتطالب الأطباء بدفع الرسوم...
كل ما ذكر هو ليس كل شيء، ولا يمكن حصرها جميعا في مقال، ولا أحد يستطيع التمييز بين استثمارات القسام والحركة والحكومة، ولا تقدم الحكومة أية معلومات عن بيت مال المسلمين، أو عن الميزانية، أو المصروفات والمدخولات، وبالطبع تضرب بعرض الحائط أزمة الرواتب، وكأن الموظفين هم ليسوا من أبناء غزة .. كل ذلك يشكل ضغطا كبيرا على سكان غزة الصابرة، ولا يمكّنهم من الصمود أو المقاومة، ولا مواجهة أي حرب (فرقانية أو خرافية) قادمة!! والذي يعيش في غزة لا يصدق أن المقاومة تحولت إلى رأسمال ضخم لا يسمح بتدميره ولا يسمح أيضا بإنهاء الانقسام البغيض.. من هنا لا يمكننا القول أكثر من: "حماس تسعى لهدنة طويلة الأمد مع الاحتلال من أجل السلطة والمال، وكفى..."
0 comments:
إرسال تعليق