لا تذهب إلى مكان في العالم إلا وتجد فيه هنودا، حتى قيل – من باب السخرية التي برع فيها العرب تجاه هؤلاء – إنه حتى لو هبط صاروخ على المريخ لوجدت هنديا يركض نحوك وبيده جردلا وقطعة من القماش ليقول لك "بابا .. غسلّ صاروخ"، وذلك في إشارة ساخرة إلى المطحونين من الهنود في دول الخليج العربية ممن تجدهم مستعدين لغسل مركبتك في كل زاوية ومنعطف.
إن ظاهرة إنتشار الهنود في العالم ليست بالجديدة أو الطارئة. فهي قديمة قدم الهيمنة البريطانية على مقدرات شبه القارة الهندية منذ القرن 18 وحتى منتصف القرن العشرين. ففي ظل تلك الهيمنة أقنع المستعمر أبناء الهند - وأحيانا أجبرهم - على الإنتقال من وطنهم إلى أوطان أخرى بعيدة من أجل إستغلال سواعدهم في تحقيق مصالحه الخاصة. وعلى هذا الأساس تم ترحيل مئات الآلاف من الهنود إلى شرق أفريقيا لبناء خطوط السكك الحديدية، وإلى مناطق إفريقية أخرى للعمل في مناجم النحاس والألماس، وإلى سريلانكا للعمل في مزارع الشاي، وإلى الملايو للعمل في مزارع المطاط، وإلى أماكن أخرى من أجل المشاركة كمقاتلين في حروب بريطانيا الإستعمارية.
وحينما إنتهت مهمتهم، رفض المستعمر إعادتهم إلى وطنهم الأم بحجة أن البقاء في أماكنهم الجديدة سوف يوفر لهم مستقبلا معيشيا أفضل، أو بحجة أن تلك الأماكن مثل وطنهم الأم أي جزءا من "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس". لكن بأفول الشمس عن الأخيرة وإستقلال الدول الإفريقية والآسيوية تباعا، صار هؤلاء لا مواطنين هنودا، ولا مواطنين في دول المهجر.
هذه كانت البداية لإنتشار الهنود في العالم، والتي تبعتها موجات أخرى من المهاجرين الذين تركوا وطنهم بإرادتهم إلى دول العالمين القديم والجديد من أجل تحسين ظروفهم الإقتصادية، أو بهدف نيل التحصيل العلمي المتقدم. وحينما حقق هؤلاء أهدافهم فضلوا البقاء في دول المهجر المتقدمة للإستفادة من الظروف المعيشية التي لم يكن وطنهم قادرا على توفيرها في الحقبة التالية مباشرة لإستقلاله. وهكذا ظهرت أجيال متعاقبة من الهنود ممن برز أفرادها في مختلف الحقول، وجنوا أقصى ما يمكن من الفرص المتاحة في الغرب الأوروبي أو الشرق الآسيوي، قبل أن يصلح حال وطنهم الأم مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين كنتيجة لقرارات التخلي عن الإقتصاد الإشتراكي المقيد للطموحات والمواهب والحوافز، وبالتالي ظهور الفرص الإستثمارية المربحة ومظاهر الحياة العصرية المشابهة لما تعودوا عليه في دول المهجر المتقدمة. حينها فقط بدأ الهنود هجرة معاكسة كانت لها نتائج إيجابية وأخرى سلبية.
تمثلت النتائج الإيجابية في حجم الأموال والإستثمارات التي حملها هؤلاء معهم من الخارج، إضافة إلى حجم الخبرات العلمية والعملية التي وضعوها تحت تصرف وطنهم الأم، وهي في مجملها عوامل مؤثرة في الإقتصاد الهندي الصاعد حاليا بخطى وثابة. أما النتائج السلبية فقد تجسدت في الظواهر الإجتماعية الدخيلة على المجتمع الهندي والتي جاءت مع العائدين مثل النزعة الإستهلاكية المفرطة، وحب اللهو والتفاخر، والإصرار على التحدث باللغات الأجنبية، والإفراط في التشبه بالمشاهير والنجوم في مجالات السينما والرياضة. وفي هذا السياق أشارت إحدى الدراسات التي أجريت على العائدين إلى الهند من المهجر – ومن ضمنهم بعض من قضى سنوات طويلة في الدول العربية – أن الحكومة الهندية واجهت صعوبة في إعادة إستيعاب هؤلاء في مجتمعاتهم الأصلية، خصوصا أولئك الذين تشربوا بعض الأفكار الإيديولوجية المتطرفة أو المحافظة، كما واجهتها صعوبة في كبح جماح نزعاتهم الإستهلاكية الشرهة وتفضيلهم للمنتج الأجنبي على حساب المنتج المحلي.
وفي دراسة هندية أخرى حول هنود المهجر من إعداد الدكتور "هايرمات" الذي كان في وقت من الأوقات مبعوثا شخصيا لرئيس الحكومة الهندية إلى جنوب أفريقيا، يؤكد الباحث أن أكبر الجاليات الهندية في الخارج تتركز في النيبال وماليزيا، وبورما، وسريلانكا، وموريشوس، وإفريقيا الوسطى، وجنوب إفريقيا، ومنطقة الكاريبي، ودول الخليج العربية الست، والولايات المتحدة وكندا. كما يوضح الباحث أن تعاظم أعداد هؤلاء إستغرق نحو مائة عام في بعض الحالات، ونصف قرن في حالات أخرى. وتتوقف الدراسة عند نيبال لخصوصيتها، فيقول صاحبها أنها تستضيف نحو مليون هندي جلهم ممن إنتقل إلى هذه البلاد المجاورة للهند، مستفيدا من الحدود المفتوحة بين البلدين ومن الإتفاقيات التي تعطي لرعاياهما حقوق العمل والإقامة في بلد الآخر.
وتـُخصص الدراسة المذكورة فصلا كاملا للحديث عن هنود موريشوس، وكيف أنهم إنخرطوا في مجتمعهم التعددي الجديد، إلى حد تحدثهم بلغتها الرسمية (الفرنسية)، وكيف أنهم كانوا حجر الزاوية في الدفاع عن مؤسساتها الديمقراطية خوفا من أن يكون البديل نظاما شموليا يعتمد التمييز والتطهير العرقي. كما تـُخصص الدراسة فصلا آخر للحديث عن هنود منطقة الكاريبي التي لئن بدأ نزوح الهنود إليها في حقبة الإستعمار البريطاني، فإن تعاظم عددهم بدأ مع إلغاء قوانين العبودية. وهكذا صار الهنود يشكلون 49.5 بالمائة من إجمال السكان في غويانا، و42 بالمئة من سكان ترينيداد وتوباغو، و38 بالمئة من سكان سورينام. ويبدو أن تزايد أعداد هؤلاء المهاجرين، وتمتعهم بحياة مستقرة، وحصولهم على فرص معيشية جيدة نسبيا في دول الكاريبي، كانت من العوامل التي ساهمت في إرسال أبنائهم وبناتهم إلى مدارس ومعاهد نموذجية للتحصيل والتخصص، قبل أن يتم دفعهم إلى العمل الحزبي والسياسي، وبالتالي نجاح بعضهم في وقت من الأوقات في الوصول إلى مناصب حساسة كرئاسة الحكومة والدولة (فيجي مثالا)، الأمر الذي أثار سكان البلاد الأصليين من ذوي الأصول الإفريقية وجعلهم يمارسون التمييز ضد شركائهم في الوطن بحكم الميلاد والهوية والتقادم جيلا بعد جيل. وهذه، بطبيعة الحال، حالة مشابهة لما حدث للهنود في جنوب أفريقيا أثناء نظام الفصل العنصري (الأبارتايد).
أما قصة الهنود في بورما فتختلف من حيث النشأة، وإن كانت النهاية مشابهة لما حدث لهم في منطقة الكاريبي. ذلك أن عوامل مثل إلتصاق بورما جغرافيا بالهند، وإرتباطها إداريا حتى عام 1937 بحكومة الهند البريطانية ساهمت في إنتقال عشرات الآلاف من الهنود إلى بورما في فترات مختلفة، للعمل كتجار أو محامين أو أطباء أو محاسبين أو مقاولين أو جنود أو موظفين في الجهاز المدني الإستعماري. وتقول إحدى الإحصائيات أن عددهم في 1931 وصل إلى مليون نسمة أو 6.9 بالمئة من عدد السكان، وكان معظمهم يسكنون في العاصمة "رانغون"، ويشغلون مراكز مرموقة بسبب شهاداتهم وتخصصاتهم العلمية مقارنة بالبورميين الذين لم يكونوا مؤهلين بعد. ويـُعتقد أن هذا العامل معطوفا على عامل آخر هو منافسة الهنود للبورميين في شراء العقارات والأراضي الزراعية بسبب مداخيلهم المرتفعة، تسبب في ممارسة التمييز ضدهم ومضايقتهم بغية إجبارهم على الرحيل. هذا الرحيل الذي تم فعلا، لكن لأسباب أخرى تمثلت في إنفصال بورما إداريا عن الهند البريطانية في 1937 ، وإحتلال اليابانيين لبورما أثناء الحرب الكونية الثانية. حيث تسبب هذان الحدثان في عودة نحو نصف مليون هندي إلى بلدهم. أما من فضل البقاء فقد ذاق الأمرين، وخصوصا في أعقاب إستيلاء العسكر على السلطة في 1962 ، وإقدامهم على موجة من التأميمات الإشتراكية البليدة. يتبع
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: أكتوبر 2011
الإيميل:elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق