ففي 28 سبتمبر عام 1973 فارق عبد الناصر حاضرنا ، واعلن انور السادات ، نائب رئيس الجمهورية في حينه نبأ وفاة الابن البار للشعب المصري جمال عبد الناصر "اعظم الرجال واعز الرجال". وما ان ذاع نبأ الوفاة حتى تدفقت الجماهير المصرية الغفيرة الى القاهرة ، التي اكتظت بالقادمين اليها من مختلف المحافظات والمدن والارياف المصرية ، الى درجة ان الناس اصبحوا يقضون الليل على ارصفة الشوارع وفي افنية المساجد واقبية المنازل والبيوت.
وبدات وفود البلدان الصديقة تصل الى القاهرة ، وبعد ثلاثة ايام حلقت طائرة الهيلوكوبتر في الجو وهي تحمل جثمان عبد الناصر . وراح الرجل الذي اعاد للشعب المصري كرامته يودع القاهرة ونيلها العظيم وشوارعها وارصفتها وازقتها ، التي اكتظت على آخرها. وكانت عربات السكك الحديدية المحملة بمعدات المنشآت الجديدة تنساب بمحاذاة الشريط الفضي للنيل ، الذي يتلوى بين الاراضي العامرة بالخضرة التي جرى انتزاعها من براثن الصحراء .
وهبطت الطائرة التي كانت تحلق في سماء القاهرة قبالة المبنى ، الذي كان يشغله في وقت ما مجلس قيادة الثورة . وفي اجلال تم نقل الجثمان في التابوت الى عربة ، وتحرك الموكب بطيئاً على كوبرى قصر النيل، الذي نكست فوقه اعلام الحداد . فيما اعتلى الصبية والشباب اعمدة التلغراف والاشجار على ضفاف النيل ، وفي كل مكان كانت الامواج البشرية المتدفقة تقف حاجزاً امام كاميرات التلغراف ، التي كانت تحاول نقل صورة حية للموكب الجنائزي . وكان الجميع يتسابقون للوصول الى عربة المدفع ، لملامسة غطاء التابوت. وكان الموكب يعجز عن مواصلة السير تحت ضغط وتدفق الجماهير من آن لآخر.
وتوقف الموكب امام المسجد الابيض عند مدخل مصر الجديدة ، ووقف الحرس فارعو القامة على جانبي الطريق ، الذين حملوا عبره الجثمان الى داخل المسجد لاداء الصلاة عليه . ووقف شيخ الازهر يؤم الحاضرين ودوت كلماته المفعمة بالحزن والاسى في كل ارجاء القطر المصري ، في حين اطلقت المدافع قذائفها وداعاً .
وحمل رفاق عبد الناصر جثمانه الى مثواه الاخير ، وقطع التلفزيون بثه ، وبدات الوفود الاجنبية التي وصلت للمشاركة في مراسيم الدفن في المغادرة والرحيل، غير ان آلاف المصريين ظلوا لا يبارحون اماكنهم بالقرب من مسجد عبد الناصر عدة ايام باكملها. وظلت الاعلام والرايات منكسة مدة اربعين يوماً حداداً .
اسهم عبد الناصر في الحياة السياسية المصرية والعربية ، وارتبط بقضايا الوحدة والقومية والعروبة ، مؤسساً للفكر الناصري اوما يسمى بـ "التيار الناصري الوحدوي" . وقد سعى دائماً من اجل وحدة الامة العربية ، مكرساً حياته في الدفاع عن قضاياها المصيرية ، مناصراً للحق، ومقاتلاً في سبيل الحرية والاستقلال والاصلاح والديمقراطية ، وظل حتى آخر رمق في حياته متمسكاً بموقفه الجذري الملتزم تجاه القضية المصيرية الكبرى ، قضية فلسطين، التي كان يعتبرها قضيته الاولى. وبات تراثه القومي والوطني والثوري زاداً وسلاحاً تستلهمه وتشحذه الشعوب العربية في ثوراتها ضد انظمتها الدكتاتورية المتعفنة ، ومن اجل الاصلاح والتغيير وبناء المجتمعات المدنية الحضارية .
وضع جمال عبد الناصر رؤيته العميقة الشاملة اساساً لمسيرة الشعوب العربية ومستقبلها ، من خلال منظور الوعي القومي الملتزم بقضايا ومسائل وجودها وتحررها ، ونبه في اكثر من خطاب له الى ضرورة مقاومة ومجابهة الاخطار المحدقة بالمشروع القومي الوحدوي العربي ،داعياً الى النضال المشترك وتحقيق الوحدة العربية وارساء ميثاق الدفاع العربي المشترك . وبهذا الصدد قال :" سوف نظل دائماً تحت علم الوحدة العربية ، وسوف نظل دائماً تحت علم الاستقلال الوطني ، وسوف نظل دائماً تحت اعلام الحرية البانية للتقدم والسلام القائم على العدل لشعبنا ، ولكل شعوب الارض ".
وكان لعبد الناصر دور مهم في تشكيل وقيادة "الضباط الاحرار" ، تلك الخلية السرية التي تشكلت وتكونت من مختلف الانتماءات والاتجاهات السياسية والفكرية والعقائدية . وقد انتخب عام 1950 رئيساً للهيئة التأسيسية لهذا التنظيم ، وعندما توسع وانتشر انتخب قيادة له وانتخب عبد الناصر رئيساً له ، وانضم اليهم اللواء محمد نجيب ، الذي اصبح فيما بعد اول رئيس جمهورية في مصر بعد نجاح الثورة.
وقد اعترف عبد الناصر في مؤلفه "فلسفة الثورة" ان الضباط الاحرار لم يكونوا يملكون برنامجاً سياسياً واضحاً لحظة تولي مقاليد السلطة . وكانوا صاغوا عزمهم القضاء على السيطرة والتبعية الاجنبية وتصفية النظام الاقطاعي وفساد السياسيين المرتشين ، في مبادئ ستة اعلنوها برنامجاً لثورة يوليو المجيدة فيما بعد.
ومن اهم رصيد الثورة وانجازات عبد الناصر تاميم شركة قناة السويس للملاحة الدولية ، وكان ذلك سبباً مباشراً ورئيسياً في شن العدوان الثلاثي على مصر. اضافة الى اجراءات الاصلاح الزراعي، التي قوضت العلاقات الاقطاعية في الريف المصري. وعملت الثورة على تحويل مصر الى دولة عصرية متطورة ذات صناعة متقدمة وزراعة وثقافة رفيعتي المستوى.
وابان الحقبة الناصرية تحولت مصر، ولاول مرة في تاريخها المعاصر، الى عنصر ايجابي فعال ومؤثر في الساحة الدولية ، بعد ان كانت مجرد عنصر من عناصر السياسة العالمية . واضحت الثورة المصرية المثال والنموذج للشعوب المضهدة والمقهورة والمستلبة ، بشأن قدرتها على التصدي بشكل فعال للسيطرة الامبريالية والاجنبية.
كذلك فقد غداً الشعب المصري دافعاً قوياً لعملية التحرر الوطني في الاقطار العربية، مؤثراً بصورة مباشرة وغير مباشرة على الاحداث كحرب التحرر الظافرة في الجزائر ، ونيل تونس واليمن الجنوبية والمغرب والسودان استقلالها ، والثورة في العراق واليمن والسودان وليبيا عدا التحولات التقدمية في سوريا.
وايضاً ظل يدوي صوت الدعوة الى النضال والكفاح ضد الامبريالية واستبدادها واضطهادها للشعوب ، ومن اجل الحرية والاستقلال وفي سبيل التحولات الاجتماعية الجذرية العميقة.
وبلا شك ان عبد الناصر لعب شخصياً دوراً فذاً في خلق واستقرار حركة عدم الانحياز ، وفي تعبئة البلدان والاقطار العربية للتصدي للسياسة التوسعية والعدوانية والاحتلالية الاسرائيلية ، واصبح الخط الهادف والرامي الى تلاحم واصطفاف كل القوى التقدمية والديمقراطية والشعبية المعادية للامبريالية جزءاً لا يتجزأ من سياسة مصر في عهد عبد الناصر.
وكان عبد الناصر قدم استقالته بعد الهزيمة والخسارة في حرب الايام الستة ، متحملاً المسؤولية الكاملة عن ذلك . لكن الشعوب العربية من محيطها وحتى خليجها هبت كرجل واحد رافضة الاستقالة والتعبير عن ذلك من خلال المظاهرات الشعبية العارمة التي خرجت في الشوارع تأييداً وانتصاراً له ، واعادت الثقة له من جديد.
وبعد ، فان عبد الناصر ، الشخصية الكاريزماتية المحبوبة ، سيظل رمزاً للكرامة ونظافة اليد والاستقامة والحرية والوحدة والمقاومة ضد الاستعمار الاجنبي . وفي ذكراه نجدد الوفاء له ، فهو الزعيم العربي القومي الحقيقي الذي نحتاجه في هذه الايام . وكم نحن بحاجة لفكره وتراثه القومي والوطني الناصع ، فمن هذا التراث تستمد شعوبنا شموخها وقوتها ووحدتها واصالتها وتستعيد كرامتها وعنفوانها الثوري.
0 comments:
إرسال تعليق