مقامات قتيل الزمان السَهَرْعِندي 5/ د. عدنان الظاهر

مقامة 5
ما أقسى ساعة الإنشقاق مع النفس . إنها ساعة قتال دموي الطبيعة والمخالب يسقطُ الإنسان فيها أو ينتصر لكنْ ما من ضمان وضامنٍ لهذا النصر . معلومٌ ثمن النصر ومعلومة هي التضحيات فالمنتصر على غيره مغلوب ومنكسر في نفسه .
النصر والهزيمة ضدّان ولكنْ لا ينفصلان ولا يقوم أحدهما دون الآخر . منتصر على من ؟ على مكسور منهزم وهذا مغلوب بذاك . دعْ هذا الكلام الفارغ وفكّر وخطط لمستقبلك وباقي أيامك والمهمة الأكثر إلحاحاً وسخونة أمامك هي قرار الرحيل عن هذه الجزيرة أو البقاء فيها زوجاً لكناريّة تعلّمك زقزقة العصافير وأصوات خرير الماء من عيونه جارياً صوب البحر لينضمَّ إلى ماء الكون حيث أنَّ طبيعته هناك . ستتعلم منها اللغة الإسبانية وسيقصُّ عليك أبوها ، عمّك الجديد ، تأريخ أجدادك العرب في هذه الجزيرة وما بقي من آثارهم شاخصاً حتى اليوم والجِمال بعضُ هذا الباقي :
ولقد مررتُ على ديارهمُ
وطلولها بيدِ البلى نَهْبُ
فتلفتتْ عيني ومُذْ خفيتْ
عني الطلولُ تلفّتَ القلبُ
[[ أظن البيتين هكذا ... وإلاّ فليعذرني القارئ الكريم ]]
وبعد ؟ ما الذي يُحبب لي البقاء في هذه الجزيرة عدا الزقزقة وجِمال صحاري أجدادي ولغة كولومبس ومأساة أبي عبد الله الصغير آخر أمير يغادر قصر الحمراء وقرطبة منفيّاً إلى شمال إفريقيا ؟ يبقى الطقس المعتدل صيفاً وشتاءً ويبقى البحر وماء البحر شفاءً ومُتعةً ومسياراً ومبحاراً . البحر نصف الحياة والأكثر على الأرض .
مقامة 6
الوطن ! الوطنية ! الوفاء للنشأة وتربة هذه النشأة ! الوفاء لمن آوى واحتضنَ وأكرم المثوى ! ما الذي يُغريني على البقاء في جزيرة صُممت أصلاً لإستقبال السيّاح يأتون إليها من شتّى أصقاع العالم كل سائح في رأسه موّال خاص جاءَ ليؤديّه هنا على طريقته الخاصة ووفق منهجه الخاص وحسب رغباته الخاصة وربما شذوذه الخاص . قد أزورُ الجزيرةً سائحاً أو زائراً لذوي عريستي الأولى والثانية . وربما أزورها لأسباب أخرى في مناسبات شتّى أخرى . فلأقتلعَ نفسي من جو وتربة وبحر هذه الجزيرة ولأرحلَ عنها حيث وطني وجنسيتي ومدينتي وهواياتي وغاباتي وبحيراتي . حيث حريّتي في القول وفي السفر إلى حيثُ أشاءُ فالجواز الذي معي يحملني إلى حيث أشاءُ من أقطار وجزائر الدنيا دونما حاجةٍ إلى تأشيرة دخول وتصريح بالمغادرة . مع هذا الجواز دخلتُ بغداد بدون تأشيرة دخول وبقيتُ في بغداد إلى حيثُ شئتُ . بلادي وإنْ شحّتْ عليَّ عزيزةٌ ... كما قال شاعرٌ مجهولٌ أو مجهولٌ بالنسبة لي .
أوربا مفتوحة أمامي صبحاً ومساءً صيفاً وشتاءً مهما تبدّلت أنظمة وأحزاب الحكم فيها . أزورُ متى أشاءُ حتى تلك البلدان التي رفضت دخولي أراضيها حاملاً جواز سفر عراقي مثل الدنمارك وبريطانيا [ العُظمى ] ! لا حاجة بي لدخول أراضي أمريكا ! ليست بي رغبة لزيارة مدنها وولاياتها المترامية الأطراف ! زرتها فيما مضى وبقيتُ في بعض مدنها وولاياتها فزهدتُ فيها ومللتُ منها ومن نظامها الرأسمالي الذي لم أجدْ فيه لنفسي مكاناً أو أية قيمة تستحق الذِكْر . تهتُ فيها بل وخسرتُ نفسي وكل ما كان معي من ذكرياتٍ وتجارب وتأريخ . ما الإنسانُ فيها إلاّ سلعة في السوق عُرضةً للبيع والشراء والمساومة . تعطيكَ صديقتك الأمريكية موعداً للّقاء معها حسب الجدول الزمني الخاص بمواعيد لقاءاتها وغالباً ما يكون الموعد الخاص بك بعيداً حسبَ مكانة صديقتك ومقدار ما تتمتعُ به من جمال جسمٍ وسحر وجه ! أردتُ تثبيت موعد مع إحدى الصديقات لترافقني إلى مرقص ونادٍ وملهى يوناني قالت إنتظر ما سأرى في جدول لقاءاتي . أدارت أقراصاً وغيّرت أرقاماً وأنفقت وقتاً غير قصير ثم قالت : موعدك معي هو أول سبت من الشهر القادم ! قلتُ لها شُكراً .. عندي مع غيركِ موعد أقرب .
كانت هذه إحدى تجاربي مع بقائي في بلدٍ غير بلدي . ثم زهدتُ أكثر في ذلك البلد عندما قالت لي ذاتَ يومٍ السيدة التي قاسمتها منزلها الجميل الكبير ـ ما كانت شابّةً ولم تكنْ بالساحرة الجميلة ـ قالت حرفيّاً : عيناك جميلتان ولكنْ للأسف ... بشرتك سمراء بُنيّة اللون ! عليكِ اللعنة أيتها المرأة التي لم تكن جميلة ولا رفيعة المستوى مهنةً أو وظيفةً أو مالاً ! عليك ألف لعنة . لكم كرهتها واحتقرتها إذْ سمعتُ منها ما قالت . تتأسف أنّي كنتُ شاباً عراقيّاً أسمرَ اللون تتغنى بسمرته مغنيات شهيرات عراقيات وغير عراقيات مثل نجاح سلام في أغنيتها ( الشاب الأسمر جنّني ) وغيرها من مشهورات مطربات العرب . معظمُ الناس في وطني سُمرٌ مثلي لذا فلا من أحدٍ هناك يشعر بأدنى أسفٍ أنّ وجهي وأنَ بشرتي سمراء اللون . أفلمْ يتغنّ رضا علي بالسمار في أغنيته ذائعة الصيت " سمرة ووسيعة عين عيني سمر عيني سمر " ؟ لم يتغنّ المطربون المصريون بالسمار .. على حد علمي .. لأنَّ المصريين جميعاً وعلى العموم سُمْر الوجوه ... عدا أغنية " أبو سمرةْ زعلان " فهل كان أبو سمرة هذا فعلاً أسمر اللون ؟

CONVERSATION

0 comments: